ما مضى وقتٌ قليلٌ حتى خرجتْ إلى بهو المنزل، ثم عادَتْ واختطفت علبة سَجائري والولاعة والمنفضة، والتحقت بالسَّرير حيث تمطت وأخذت تدخن سيجارة تلوَ أخرَى بشرَاهَة ما عهدتها من قبل إلا عندَ أعتى مُدمني الخمر والتدخين، كأنها رجلُ مَطافئ.
ربما لن أعرفَ – طالما حييتُ – أيَّ خاطر قادني إلى تذكر تلك النكتة التي كنتُ طرفا فيها أيام كنتُ أقيم بباريس:
فقد كنتُ عائدا إلى غرفتي، بزنقة بيو Rue Biot الكائنة قرب سَاحة كليشيه، في حوالي منتصف الليل، وقد شربتُ بضع جعَّات، عندما لفت انتباهِي جسدُ حسناء شقراء رشيقة، ترتدي جَاكيت من الجينز وبنطلونا من الجينز أيضا وحذاء جلديا عالي الكعبين. لم يكفني أكثر من كلمَة واحدَة لأجدَ نفسي راجعا إلى الغرفة مرفوقا بالحسَناء. في البيت، تجاذبنا أطراف الحديث، وتعشينا، وشربنا الأنخابَ احتفالا بذلك اللقاء، وتغازَلنا إلى أن نضجت الرَّغبة والشهوة بداخلنا، وكسَّرت عقالها، وانطلقت خارج كل الحدُود… حتى إذا حانت لحظة تنافذ السّرِّين كانت المفاجأة العظمى: فبدل أن أجدَ عند الحسناء ضريحا، كما توقعتُ، وجدتُ سرّا مماثلا لسرِّي عدا أنه قصيرٌ ونحيفٌ ومنكمشٌ كأنه قلمُ صبي. أمَّــاهُ! إني أمام مُتحولة جنسية (travestie) لا أمامَ امرأة. لم أجد ما أبتلع به الصَّدمة الكبرى سوى الانعطاف – بمنتهَى اللطف والحذر – من العناق ومُداعبة الفخذين والشعر الأشقر ولثم الفم والنهدين، إلى الجلوس وتبَادل الحديث مَع هبة تلك الليلة العمياء. تعلق الأمرُ فعلا برجُل، لا امرأة، ومن أصْل أمريكي لاتيني، كان ابن طبيب – حسب ما زَعم – ثم اختار أن يتحول جنسيا لسبَب ارتأيت آنذاك أنه يهمّه وحدَه، لكنني الآن فقط أتبينه على نحو ما سأذكر بعدَ قليل.
فهمَ صاحبي صدمَتِي، فاعتذر لي ضمنيا، بغنـج اللقاء
ودَلاله نفسه، ثم ارتدى ملابسه، وصففَ شعره، وأعَاد تجميل وجهه بالمساحيق والمراهم، وتعطر قبلَ أن يستأذن بالانصراف ويمضي إلى حيثُ لن أرَه إلى الأبد… وحدَه «اكتشاف» سبب تحوله هُو ما سـ «يجمعنا» ثانية بعد انصرَام عشرين عاما عن ذلك اللقاء «العابر»…
ثمة أشياء تحدثُ لنا، تصادفنا، أو تمرّ أمامنا فلا نعيرها أدنى اهتمَام، أو يخيل إلينا أنها انتهت فور انتهاء انشغَالنا بها لحظة تماسِّنا معها، لكنها في الواقع تنزوي في رُكن من الذاكرة وتظل تشتغلُ وتشتغلُ وتشتغلُ، على غير علم منا، فما تسنحُ لها الظروف، بعدَ انصرام مدة طويلة، بأن تطفو إلى السطح حتى تعُود وكأنها لم تمر إلا قبل قليل، حالة تشبه إلى حدٍّ مَّا مَا يُسميه المحللون النفسانيون بالتأثير البعْدي (l’après-coup). الآن فقط أدركتُ السَّبب الذي جعله يتحوَّل:
تضعُ المتحوِّلةُ (جنسيا) الجنسَ في أزمة: رجلٌ يتحول إلى امراة. وبتحوّله الفيزيولوجي إلى أنثى يسطو على عَلامات الأنوثة، فيصبح ذا نهدين، ويمرُدُ وجهُه، ويرتدي تنورة وكسوة وحذاء عالي الكعب، لكنه لا يؤدي وظيفة الأنثى: لا يُنجب. بعدَ وُلوجه بُعد الأنثى، يسطو عَلى أغلى ما تملكه بنتُ حواء؛ يزيِّفها. خلافا للمرأة الحقيقية، تمنحُ المتحولة نفسها للـرجل – غالبا – بسُهُولَة؛ لا تمانِع. إنـَّها في الأصل رَجُلٌ مِثليّ جنسِيّ (مُنحرفٌ) يمرّ إلى الرِّجَال من طـريقٍ (سويّ).
تصَفِّي المتحولة، في مجال الحبِّ، حسابا مزدوجا: مع المرأة ومعَ الرجل. كل شيء يتم وكأنها تقول للرِّجال: «إذا كان لابد للمرء أن يَكون امرأة، لينال وصْلكم ومحبتكم، فها أنذا قد تحولتُ من رجلٍ إلى امرأة تمنح الحبّ بلا قيودٍ ولا شروط. مِثل الشاعر، تعيد المتحولة تأثيث العالم من موقع المستحيل؛ تقول: «إني لستُ رجلا، لكنني لستُ امرأة أيضا» أو «أنا امرأة، لكنني رجلٌ أيضا». التحوّل الجنسي هو التموضُع في مساحة مجانسة لتلكَ التي استشرفها نيتشه وباطاي للإنسان عندما شكَّكَ الأوَّل في الوظيفة الحالية للعقل والعين، و(عندما) دعا الثاني إلى قيَام عين في قمَّة رأس الإنسان كي يتحوَّلَ من كائن أفقي إلى كائن عمودي، من كائن شبه بهيمي إلى كائن مَعرفي. وبكلمة واحدة، إنَّ اللوطيَّ [السلبيَّ] مُنحرفٌ سَويّ والمتحولة سويّة منحرفة.
استـرقتُ نظـرة إلى مُضيفتي، كـأنَّني كنـت أتسـاءل
عبرها: «هل أنا الآن أمام متحولة؟»، فإذا بها تجيبني على الفور، كأنها قرأت أفكاري أو كانت مَعي في حالة تخاطر عن بعدٍ: ابتسمتْ، ثم أشرعت سَاقيها، فإذا به ليس هو، وإنما هي؛ فإذا به هُوَ هِيَ وليس هُوَ هُوَ. قمتُ نحوها معتذرا، حتى إذا دنوتُ منها انحنيتُ كالرَّاكع وهممتُ بتقبيله، صدَّتني قائلة:
– قد انطفأت الرَّغبة والشهوة بدَاخلي تماما. أتدري ما أقلقني؟ أتدري لماذا دخنتُ؟ قبل قليل كنتُ أرقصُ، وكنت برقصي ذاك أرمِي إلى تصعيد الرغبَةِ والشـَّهْوَة فيكَ تصعيدا مزدوجا: كانت لديَّ أمنية في إشرَاع محرابي لكَ، لكني أردتُ الصّعود بها إلى الذروة؛ ومقدار ما كنتُ أصعِّدها بالرقص كان مفروضٌ فيك أن تستثار، أن تشتعل؛ كنتُ أراقب مَفعول الإثارة والاشتعال فيكَ مُنتظرة أن تصل إلى النقطة التي تتدلى فيها مِن أعالي أجرَاف جسدك في اللحظة نفسِها التي أتدلى فيها على أعَالي أجراف جسدي، لكنك صدمتني؛ أتحسب أنني من السَّذَاجَة بحيث أصدِّقُ ما تفتعله لتجعلني أنسَى أو أتناسى عِظم ما أتيته قبل قليل؟ فقد رأيتُ بأمِّ عيني ما فعلته؛ تعقبتك خفية، واسترقتُ النظر إليك من ثقب البَاب، فإذا بي أجدُك تستمني! لماذا فعلت ذلك؟ لماذا فعلتَ ذلك؟ (مجهشة بالبكاء) حرامٌ عليكَ، لماذا استمنيت؟
قلت لها مستنكرا: اتق الله يا ستّ، إنما كنتُ أغتسل وأتعطَّـرُ.
قالت: لا، رأيتك بأمّ عيني تستنزلُ الحليبَ بيدِك!
قلتُ: رحمك الله يا ستّ، غفر الله لي ولك يا ستّ، إني مَا فعلتُ ذلك قط، ولك أن تتأكدي الآن.
قالت: كانت الرَّغبة مُشتعلة بداخلي وقتَ كنتُ أرقصُ. أما الآن فقد انطفأتْ تماما؛ خمدَت واختبأت في أعمَق دهليز بداخلي.
قلتُ لها: رحمك الله يا ستّ، غفر الله لي ولك يا ستّ، إني مَا فعلتُ ذلك قط.
قالت: لا، إني شاهدتُكَ بأم عيني تستنزلُ الحليبَ.
أغراني تحديها بالنفاذ إلى طبقاتها الباطنية التي تنفث هَذا القلق كله إزاء فعل لا أرى معنى له؛ قلتُ لها:
– لنَهَبْ أني فعلتُ، فماذا بعدُ؟
فركتْ وجهها كأنها استيقظت لتوِّها مـن النوم، ثمَّ قالت بعينين جَاحظتين:
– أحقا فعَلتَ؟!
قلتُ: نعَـم!
أطلقتْ زفرة عَميقة، ارتمت فوقَ الفراش، بحركة يائسة قلقة، كأنهَا فقدتْ شيئا عزيزا أو صدِمت بخبر مَشؤوم، دَفنت وجهَها في السَّرير، استسلمتْ لشبه نوم عميق. بيد أنه ما مضت لحظة حتى انتفضتْ بحرَكة عنيفة مُتوترة قلقة، ثمَّ جلست وصَرخَتْ والدّموع تنهمرُ من عينيها:
– الآنَ أيقنتُ أنَّ الخيانة تجري في دمَائك. لماذا استنزلتَ الحليب؟ لماذا؟ لماذا؟
قلتُ: لستُ خائنا، يا ستّ، فمَا نِكتُ سوى يدي، إني ما نكتُ سِوى جزءٍ من جسدي…
قالت مُسترسلة في البكاء:
– ومَع ذلك، فإني لن أغفرَ لك ذلكَ على الإطلاق، لن أغفر لكَ ذلكَ على الإطلاق.
قالت ذلك، ثم رمتْ في وجهي ما كان في مُتناولها من أورَاق وأواني، وهي تردِّدُ في نبرة شبه هستيرية:
– لـكَ الآن أن تنصـرفَ إلى حــال سَبيلــك. فقــد
أفرغتَ هذا اللقاء من كل معنى. لماذا فعلتَ ذلك وأنا مَوجودة هنا؟ لماذا فعلتَ وأنا مَوجودة هنا؟
تراجعتُ عن مسَاحة اللعب، وقلتُ:
– أسحبُ كل ما قلته لك، إني ما أردتُ سوى اختبار نواياك، لم أستنزلْ بُذورَ كائنٍ ولا هم يحزنون.
قالت: لا تستبلدني. قد رأيت بأمِّ عيني ما فعلته؛ تعقبتك خفية، واسترقتُ النظر إليك من ثقب الباب، فإذا بي أجدك تستنزلُ بذورَ الكائن! لماذا فعلتَ ذلك؟ لماذا فعلتَ ذلك؟ (مجهشة بالبكاء) حرامٌ عليكَ، لماذا استمنيتَ؟
قلتُ لها مستنكرا: اتق الله يا ستّ، إنما كنتُ أغتسل وأتعطَّرُ.
قالت: لا، رأيتك بأمّ عيني تستنزلُ الحليبَ بيدِك!
قلت: رحمك الله يا ستّ، غفر الله لي ولك يا ستّ، إني مَا فعلتُ ذلك قط، ولك أن تتأكدي الآن.
قالت: كانت الرَّغبة مشتعلة بداخلي وقتَ كنتُ أرقصُ. أما الآن فقد انطفأت تماما؛ خمدَت واختبأت في أعمَق دهليز بداخلي.
لم أصدِّق أذني، أعـادت على مَسمعي صـكَّ الاتهام
نفسَه مِرارا بما جعلني ضنينا رغمَ أنفي. بذلتُ من المجهودات لإقناعها برفع التهمَة عني ما جعلني أتصبَّب عرقا، لكن بقدر ما كنتُ أصرّ على النفي كانت تصرّ على التأكيد، بل وعزَّزت زعمَها بالبكاء بما أضفى عَلى المقام مُسحة جنائزية: فبقدر ما كنتُ أرشح بالعرق جرَّاء ما كنتُ أبذله من مجهود فكري لدَفع التهمة عني كانت تذرفُ دمعا مذرارا أبداها كالنائحة من جرَّاء فقدان لا يُعوَّض أو كالتي تعرَّضت لغبن وَجُور مَريرين. وضعٌ لم أفطن فيه لنفسي إلا وأنا أرْسل قهقهة كبرى عَلى إثر ذكرى طفتْ على ذهني من غير إعلام ولا سَابق استئذان:
«رَوَى جلال الحكيم عن جارة له عَن أختها المومس أنها قالت: كنتُ واقفة كالعادة رفقة صُويحباتي، بحي كليطو، لاصطياد الزناة، فإذا بزبُون شاب يتقدَّم إلي. كان يرْتدي معطفا طويلا تدلى تحتَ الرّكبتين، ثمَّ سألني: “بكم الجماع يا أخت؟”، أجبته: بمائة درهم، قال: ما لي منها سِوى النصف، فهلا قبلتِ؟ قلتُ: لا، وانتظرتُ أن ينصرف إلى حَال سبيله، بيد أنه واصل الوُقوف والمشاكسة والمماكسة، بنبرة إخلاصٍ مُنكسرة جعلتني أتمزق شفقة عليه، فقبلتُ أن أقدم له جسدي هدية بالمبلغ الذي اقتَرحه، بيدَ أني ما قبلتُ حتى زعَم أنه ما يملكُ إلا نصفه، وهو خمسٌ وعشرون درهما، فرفضتُ، وانتظرتُ أن ينصرف في حال سبيله، بيد أنه واصل الوُقوف والمشاكسَة والمماكسَة، بما جعلني أتمزق شفقة عليه، فقبلتُ أن أقدِّم جسَدي له هَدية بالمبلغ الذي اقترحه، بيدَ أني ما قبلتُ حتى زعَم أنه ما يملك إلا نصفه، وهُو إثنا عشرة درهما ونصف، فرفضتُ، وانتظرت أن ينصرفَ إلى حَال سبيله، بيد أنه وَاصل الوقوف والمشاكسَة والمماكسة إلى أن حرَّك العطفَ والشَّفقة بداخلي، فقبلتُ أن أقدّم له جسدي هبة وأتصدَّق عليه بالجمَاع، غير أنني ما أن دَعوته إلى الصّعـُود إلى الفندق، ليأكلَ شطيرة لحمي حتى أطلقَ شهقة، ثمَّ قال: «كفى كفى، شُكرا شُكرا»، ثم انصرفَ إلى حَال سَبيله وتركني مبهوتة. على الفور فهمتُ لماذا قطع الحديث فَجأة وانصرف، وأدركتُ سرَّ كونه كان طيلة حديثه معي داسّا يده تحت معطفه، وسرّ تلكَ الحركات الارتجافية المسرُوقة: لقد كانَ يستنزل حليبَه. ومُنذ ذلك اليوم والسِّيناريو نفسه يتكرَّر بكيفية مُنتظمة، ونحن – معشر بائعات الهوى – نتسَابق إليه، للاسْتمتاع باسْتنزاله السِّرِّي».
قلـتُ: إذا كانَ الفعـلُ واحدا، فلمـاذا يُبكي تلكَ ويُضحِك هذه؟
قال قائلٌ بداخلي: يُضحِكُ الاستمناءُ هذه لأن البغاءَ صارَ عندها مهنة، صارَ واجبا. وبتحوله إلى شُغلٍ أصبحت المومسُ تحسّ بالملل والرّوتين ذاته الذي تحسّ به الزوجة والموظف والعامل والعونُ، فصارَت ترغب في قرَارة نفسها لو لم يكن لها شغلٌ. وعندما يأتي المستمني يُعفيها من الشغل، مثله في ذلك تقريبا مثل ذلكَ الزبون الكريم الذي يُكرمها لا لشيء سِوى لتؤنسه في الليل، فتصرفُ معه الليلة آكلة شاربة سَهرانة نشوانة دون أن يَلتفت لضريحها ولو بإطلالة. يعفيها (المستنزلُ) من الشغل، فتضحَك، وضحكها ذاكَ تعبيرٌ عن نشوة الرَّاحة، عن نشوة التموضُع خارجَ كل إكراهات المجتمع وضغوطاته؛ كأنها بضحكها تقولُ: «هُوَ ذا الجنسُ قد تشيأ؛ هي ذي اللذة تتحقق الآنَ دون حاجة إلى جسَد رجل ولا امرأة؛ ها هو الجماعُ يضاجِعُ الجماعَ نفسَه والإنسانُ يتفرَّج عليه دون أن يكون طرفا فيه؛ يستمتع به دُون أن يشاركَ فيه».
بخلاف ذلكَ، أجهشت الحسناء بالبُكاء لأنهَا تلقت استنزالَ الحليبِ باعتباره نوعا من وضع الأنثى في حالة عَطالة، استحواذا على وظيفة بنت حَواء؛ عندما يكون المستنزل بصدد التلذذ بتدليكِ إحليله باليد، كلّ شيء يتم وكأنه يقول: «أنا رجلٌ، لكنني أنثى أيضا» أو – بالأحرى – يقول: «أنا ذكرٌ، لكنني أنثى أيضا»، وهُو في ذلك يلتقي معَ الشاعر واللصّ والعاهرة والمتحوِّلة جنسيا. بكاءُ رفيقتي تعبيرٌ عن رغبة البقاء ضمن المجتمَع، تعبيرٌ عن الألم المتولد عن إحسَاسها بأنها قد أقصيتْ من الجمَاعة، نبذََتْ منهـا.
ما أن انتهيتُ إلى هذا التفسير حتى أحسستُ بإشفاقٍ مزدوج: على نفسي وعليهَا، لأنني لحظة تخيلتُ أنني قد التقيتُ واختليت بأنثى متمردة على جميع القيم، تقبلُ التموقع خارج كل المؤسَّسات، ها هُو يتضح لي الآن أنهَا قد شربت كأسَ الضَّابط حتى النخاع. انتابني إحساسٌ بأنني جالسٌ أمام زَوجتي أو أمي أو جدَّتي. سرَت قشعريرة في جسَدي، أخذت أسْناني تصطكّ، امتعضتُ، انتابتني رَغبة في القيء. اقلتعني تهدِيدها من امْتعاضي، قالتْ:
– قد سامحتكَ هذه المرَّة، لكن كن على يقين من أنكَ إن عدتَ لاستنزال الحليب ثانية ارتميتُ على الأرض وتلوّيتُ وصَرختُ بكلّ ما أوتيتُ من قوة إلى أن يمتلئ المنزل بحشد الجيران.
قلتُ: لعلي أمَام عَاهِــرَة!
قال قائلٌ بداخلي: سَواءٌ أكان المكان زقاق ستراسبورغ دُ سان دُني بباريس أو كَايي سَان رامون ببرشلونة أو حي كليطو بسوق الأربعاء أو زُقاق الذباب بالقصر الكبير أو إبط الكلب بالرِّيصَاني…، فإنَّ الفَضَاء يظلّ وَاحِدا؛ حيـثما وليتَ وجهَك لا ترى سوى حِسان واقفات في أحْوال ومقامات تشبه أحوال الصّوفية ومَقاماتهم وكأن كل تأمّل في جسد المرأة وهو عَار لا يمكن أن يتم إلا في جَو من الرَّهبة والرغبة والخشوع. تقف المومس خارجَ كلِّ نظام للقرابة، كأنها تقول: «أنا أكبر من القرابة، أنا أكبر من صِلاتِ الدَّم»، تطرح جانبا كل ما أجهدت أنظمة القرابة نفسَها في ترْسيخه وتقنينه، تمنح نفسها لكلِّ راغبٍ، خارج جميع المواضعات الاجتماعية إلا ضَوابط البغاء. في أحيَاء الدَّعارة تتحطم جميع الحواجز؛ بإمكانكَ أن تختار أيَّ امرأة شئتَ، وما يكفيك للوُصول إليها إلا كلمة / قرار بسيط. مثلَ المجنون، تبدُو العاهرة كأنها تقول: «لستُ متفقة مع ما شيدتموه؛ مَا هَكذا يجب على العَالم أن يَكون، بل هكذا». إنها تقفُ في مرحلة ما قبل العائلة وهيَ موغلة في نظام العائلة نفسِه. يتمثلُ الجانب الثوري في سُلوك المومس، وكلّ من تمارس الجنسَ خارج مُؤسَّسَة الزَّوَاج، أي دون أن تكونَ زوجة لرجل، في ما يلي: صَوْتُ الأخلاق يقول لها: «افعلي كلَّ شيء إلا أن تكشفي عَن سرِّك لأي كان، إلا أن يلجَ ضريحَك أيّ كان؛ إن هذا الموضعَ من جسَدك لمقدَّسٌ، فلا تظهريه أبدا، لا تكشفي عنهُ أبدا، وإذا كشفتِ عنه أو أظهرته فليكن ذلكَ لرجل يرتبط بك برباطٍ مُقدَّس يُعتَرَف لكمَا به اجتماعيا عبر اجتيازكمَا حفل الزوَاج باعتباره طقس عبور». وبـ «تعهّر» المرأة يتمّ كلّ شيء وكأنها تقول: «إذا كان الأمرُ لديكم على هَذا النحو، فهوَ عندي عَلى النحو التالي: إني لأفعلُ، عن سَبق إصرَار، عكسَ ما ظللتم توصُونني به على الدَّوام». بتعبير آخر، بوُلوج عالم البغاء، تلجُ المرأة نفسُها عالما غريبا عن الجمَاعة، ترسِي قطيعة مَعها، كأنها تخاطب، في الآن عينه، أعضَاء هذه الجمَاعة قائلة: «قدْ أعطيتم للسرّ قيمة كبرى، لكنكم أسَأتم إلي. وعقابا لكم، سَأوجّه لكم ضربَة في أعزّ الأشياء لدَيكم وأغلاها، سَأنزع عن السِّر كل هالة وأجرِّدُه من كلّ قيمَـة».
قزَّمَ جلالُ العاهرة جليستي. تساءلتُ: هَل تكون خائنـَة؟
قالَ الصَّوتُ نفسه: الخيانة هي أسمى شكل للتعبير عن رفض مؤسَّسة الزَّواج من داخل الزَّواج. يبدو الخائن وكأنه يقول: «أنا مُتزوجٌ، لكنني أعزب» أو «أنا عَازب، لكنني متزوج أيضا»، وهُوَ قولٌ مجانسٌ لقول المتحَولة جنسيا…