يمكن للتأملات التالية أن تنطلق من هذه الفكرة المنسوبة إلى بعض المهاجرين الشباب من شمال أفريقيا الذين يعيشون في فرنسا: «أنا لست جزائريا، ولست فرنسيا، أنا مسلم!»، وهي فكرة تعكس مدى تعقيد المسألة وتفتح باب السؤال حول الدور الذي يلعبه الإسلام في فرنسا. في الواقع، يبدو الإسلامُ بوجه اجتماعي جديد يطرح مشكلة على المجتمع برمته. من جانب مهاجري شمال أفريقيا، لا يجد وعي عدم الانتماء إلى هنا ولا إلى هناك حلا سوى في التعلق بالإسلام باعتباره هوية جذرية. ولكن ردا على هذا، يُجيبُ، في نظر أغلبية الرأي العام الفرنسي، الشعورُ الواعي بهذا القدر أو ذاك بأنَّ الإسلامَ كما هو، بتجلياته الظاهرة (الحجاب والمساجد) ليس جزءا من المشهد الفرنسي: «إن أرادوا مساجد، فليبنوها في بلدانهم». هذه التناقضات التي طالما احتُملتْ بناء على فكرة أن «المهاجرين سيعودون إلى بُلدانهم في يوم من الأيام» تصطدم الآن بواقع الاستقرار النهائي لهؤلاء المهاجرين في فرنسا، والذي بلغ ذروته بحصول عدد منهم على الجنسية الفرنسية. تمَّ الاعتقادُ بوجود «علاج»، سيء بالتأكيد، لكنه مستخدمٌ على نطاق واسع، ويتمثل في ظاهرة الإقصاء: الإقصاء من مجال الاقتصاد، والسكن، والثقافة، وهو إقصاء يُطابق شعور الاستياء من تحمّل «سكان أجانب» لا يُعرَف ما العمل بهم. غير أنهم سكان يعرفهم الفرنسيون منذ فترة طويلة ما داموا مغاربيين في أغلبيتهم، ينحدرون من مستعمرات فرنسية سابقة، بل وحتى، في القسم الجزائري منهم، هم من سكان طردوا فرنسا سابقا ولا زالت تربطهم بها مجموعة من الصلات الملتبسة التي لم تتضح بعد. ولكن ها هي هذه لفئة من السكان تعيش في فرنسا، وتطالب بأن تنضم كليا إلى فرنسا، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أن تتخلى عن تأكيد بأنها مسلمة.
السؤال الذي يطرحه هذا العدد في المقام الأول هو: ما العمل بالإسلام في فرنسا؟ أي مكانة يجب منحها له؟ أكيد أن فرنسا قد أدمجت في الماضي أجيالا من المهاجرين: من إيطاليا، وبولونيا، والبرتغال. وإذا كان النبذ في تلك الحالات قد كان من القوة مثل اليوم، ما أدى بأولئك المهاجرين إلى الاندماج في نهاية المطاف في المشهد الفرنسي، فإنَّ ما يُخشى في حالة المهاجرين المسلمين هو أن يشكلوا نوعا من المجتمع المغلق. الموقف الرسمي هو رفض الطائفية – وهو الحل المعتمد في بريطانيا – بعدم السماح لهذه الساكنة بأن تظل منغلقة على نفسها. ولكن السؤال، بالنسبة لقسم كبير من الرأي العام، هو: «إن كانوا يريدون أن يكونوا فرنسيين، فلماذا يرغبون في البقاء مسلمين؟ عليهم أن يختاروا»، معبرا بذلك على أنه يعتبر الإسلام جيدا كهوية بالتأكيد، كنوع من الجنسية المتنافسة.
بماذا يمكن الرد على ذلك؟ على الورق، تبدو الأمور واضحة. فالدستور الفرنسي يعترف بحق الفرد في ممارسة شعائره الدينية، يعترف بأن جميع المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. لذا، يكفي تطبيق الدستور لحل جميع المشاكل. ولكنها طريقة تُنسي بسرعة أنه لا يتم حل إلا المشاكل المفهومة، وفي هذا الموضوع، هناك الكثير مما يقتضي الشرح.
وجهة النظر التي أود أن أعبر عنها هنا هي: ترى أغلبية المهاجرين المسلمين في فرنسا، أو الفرنسيين المنحدرين من بلدان ذات ثقافة إسلامية، أن الإسلام ليس مجرد دين، بل هو أساسا هوية جذرية. فبعد كسر الارتباط المحلي الناجم عن الهجرة، يبقى الإسلام تجربة أساسية ضرورية لتوازن الشخصية. إنه الأساس الذي يمكن أن تبنى عليه هوية مدنية موافقة للاندماج، ومن ثم فرفضه من قبل المجتمع المضيف، أو من قبل المعنيين أنفسهم، لا يمكن إلا أن يضر هذا الاندماج، ويعرقل تحققه. ومن هذه الحقيقة، يمكن استخلاص نتائج مهمة في مختلف المجالات.
الهوية الإسلامية
حكمت الديانة الإسلامية لعدة قرون، على غرار الديانة المسيحية، منطقة ثقافية شاسعة حددت هوية جماعية وفردية. ولفهم هذا، يكفي التذكير بالحقيقة التاريخية المتعلقة بظهور الإسلام. فبتوجيه من النبي محمد، تأسست ابتداء من القرن السابع الميلادي عقيدة جديدة على أساس الإيمان بوحي تجسد في الكتاب (القرآن) وعدد من الجماعات. كان مجتمع شبه الجزيرة العربية، حيثُ ظهر الدين الجديد، يقوم على انقسامات قبلية وعرقية تندمج أحيانا في مجموعات حضرية. وتمثلت أصالة الرسالة الجديدة في تجاوز الهويات المادية القائمة على روابط الدم، بل وإلى استبدالها بهوية عالمية (على الأقل بالنسبة للعرب) تقوم على رابط روحي رمزي أساسه الإيمان بوحدانية الله وبرسالة نبيه. ورغم أن هذا لم يؤد بأولئك الناس إلى التخلي عن القبلية، فإنّه أفضى في نهاية المطاف إلى إنشاء هوية من نوع آخر. وباسم هذه الهوية الجديدة أحدث مسلمون من أصول عرقية وجغرافية وثقافية جد مختلفة رابطا بينهم يُحدد أحيانا أشكال تضامن حقيقية، ويُحدِّدُ على أي حال دائما وعيا بهوية إسلامية قوية. هذا هو الحال إلى اليوم، وهو ينطبق أيضا على مسلمي فرنسا.
لعدة قرون، كانت هاتان الهويتان (العرقية والإسلامية) هما الوحيدتان المعترف بهما، وتعايشتا دون مشاكل إلى أن ظهرت الهوية الوطنية ابتداء من القرن التاسع عشر، فتسبب مجيئها في إزعاج للهوية الأولى بسبب الغموض الذي يلف الهوية القومية. فجذور الأمة تكون عموما جغرافية أو عرقية، أو متعددة الأعراق، ولكن الدولة التي تجسد الأمة تسعى لإضفاء الشرعية على نفسها من خلال مرجعية إسلامية، كما تسعى لتوظيف هذه المرجعية لصالحها (والحال أنها دولية في جوهرها). تسعى الدولة إلى تأسيس نفسها بوصفها كيانا مطلقا، ذو مرجعية نهائية، في حين لا يعترف المسلمون بهذه الصفة إلا للإسلام. هذا هو الحال في المغرب العربي بشكل خاص.
الهوية الإسلامية في الجزائر
كثيرا ما يقال إن المسلمين في فرنسا لا ينحدرون كلهم من المغرب العربي، وبالتالي فمن الضروري التفريق بين وجهات النظر. هذا صحيح في الواقع المادي للحقائق، ولكن ليس في فهمها. ففي فرنسا اليوم، يتشكل التفكير في الإسلام بعمق في قالب العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في شمال أفريقيا، وهي تونس والجزائر والمغرب. قد يقول البعض إن العديد من هؤلاء المسلمين الذين ازدادوا في فرنسا لا يعرفون هذه البلدان «الأصلية»، وأنهم لم يذهبوا إليها أبدا، ولا يتكلمون لغتها، وليس لديهم أي وعي بوجود صلة بها. سأقول حتى وإن كان الأمر كذلك، فمظهرهم («سحنتهم» الشهيرة) يدلُّ على أصولهم في نظر الرأي العام. هذا من جهة. من أخرى، حتى وإن كان الأمر كذلك، فسيكون ذلك أساسا إنكارا لواقع مسألة النَّسَب برمتها، واعتقادا ساذجا بأنَّ وجود الفرد من بني الإنسان يبدأ به ومعه: ومن ثمة فقد يكون السؤال هو: «لماذا يشعر هؤلاء بأنهم مسلمون؟». أبسبب دعاية قادمة من الشرق الأوسط؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا استجابوا لهذه الدعاية؟
لفهم قضية الإسلام في فرنسا، يجب النظر في العلاقة بين الجزائر وفرنسا. فمركز التفكير في الإسلام بفرنسا يتم صياغته في الصلة بالجزائر. استُعمرت الجزائر لفترة طويلة، واعتُبرت فرنسية، وكانت العلاقات معها (ولا تزال) عميقة، وعدد كبير من سكان فرنسا عرفوا الجزائر، وعاشوا فيها، وشاركوا في تاريخها (كضباط، وجنود، ومناضلين أو مجرد مواطنين عاديين) والعكس بالعكس، إذ جاء ملايين الجزائريين إلى فرنسا، على مدى عقود، ليقيموا فيها طويلا بهذا القدر أو ذاك، سعداء بهذا القدر أو ذاك. هناك على الخصوص واقع أنَّ التاريخ يسجل، من وجهة نظر اجتماعية، سواء أعترفنا بهذا أم لم نعترف، يُسجلُ نَسَبًا حقيقيا على صعيد الدول كما على صعيد المجتمعات.
لهذا السبب، سوف أضع تأملي في هذه الحالة الجزائرية، على أساس أن ما يقال ينطبق بدرجة أقل على البلدين الآخرين، وهما تونس والمغرب. والفرق بينهما وبين الجزائر هو أنهما قد حافظا دائما على هويتهما العامة. فقد حافظ نظام الحماية فيهما دائما على بنية رمزية قياسا إليها يستطيع كل مسلم في هذين البلدين أن يقول بأنه إلى جانب كونه مسلما فهو تونسي أو مغربي، أما الجزائري فلا يمكنه أن يقول سوى إنه مسلم… أو فرنسي.
الإسلام في الجزائر خلال الاستعمار
دعونا نسمي الأسماء الأولى: قبل استقلال الجزائر، كانت كلمة «الجزائريين» تطلق في اللغة الشائعة على المستوطنين من أصل أوروبي. أما سكان البلاد الأصليين، فكانوا يُسمَّونَ «مسلمين» أو «أهالي»، وبذلك فقد كانت مرجعية الهوية الإسلامية مقبولة على نحو جيد من لدن فرنسا حتى في اللغة الإدارية. من هذا المنظور، كان أولئك المسلمون يُعتَبَرون أيضا فرنسيين (من الدرجة الثانية، بمعنى أنهم «أهالي») لغرض ربط أراضيهم بمجموع التراب الوطني الممتد من «دنكرك إلى تامَنْرَاسْت».
مالت سياسة فرنسا في الجزائر (عكس ما مارسَته في تونس والمغرب) باستمرار إلى محو معالم الهوية الجزائرية المحلية التي كانت من قبل تتشكل من مرجعية مزدوجة تتمثل في الأصل العرقي والإسلام. اتجهت سياسة فرنسا نحو تصعيد الانقسام بين الجماعات العرقية (من خلال سياسات بربروية [نسبة إلى البربر] بين سياسات أخرى)، ولكنها أيضا حاصرت الإسلام. فقد أزالت منذ السنوات الأولى جميع بنيات تعليم القرآن واللغة العربية بمصادرة مداخيلها. كان يُنظر إلى الإسلام ما صار عليه فعلا، وهو أنه خميرة المقاومة، والقطب الذي كان باستطاعة الفرد الجزائري أن يعتبر نفسه آخرَ غير مجرد فرد من الأهالي المحتقَرين. أنشأت فرنسا، عن طريق الغزو، الجزائرَ باعتبارها كيانا إداريا وجغرافيا أعطاهُ السكان المسلمين محتوى رمزيا مرجعيته الإسلام في حين منحَ المستوطنون والمسؤولون للكيان نفسه مرجعية فرنسا. وبذلك، وجد الإسلام نفسه في الجزائر مدعوا للعب دور مماثل لذلك الذي كانت تؤديه السلطنة في المغرب أو البيلَكَة في تونس، وهو دور المَرجع للهوية الوطنية.
الإسلام في الجزائر غداة الاستقلال
من المسلم به اليوم أنَّ الكفاح من أجل الاستقلال قد تمَّ أساسا باسم الإسلام، ولو أنَّ الزعماء كانوا يتوجهون إلى الرأي العام الدولي بخطاب تحرري ذي رنة سياسية.
كان لغياب مرجعية وطنية أخرى غير الإسلام وقعٌ قوي على مصير الجزائر. ففيما اضطلع بتلك المرجعية الحبيب بورقيبة في تونس والسلطان محمد الخامس في المغرب، افتقرت تلك المرجعية في الجزائر لأي سند فردي أو جماعي توافقي. فقد فشلت جبهة التحرير الوطني، أو شخص مثل بن بلا، فشلا جليا في الاضطلاع بتلك المرجعية، وبذلك ظل قطب المرجعية في الجزائر هو ما كان إبان حرب التحرير الوطني: معارضة فرنسا في إطار تقابل بين الإسلام وفرنسا. يفسر هذا النمط الأجوف في الإحالة على الشرعية أهمية خطاب الحرب الذي لا تكف الحكومة الجزائرية عن محاولة تأسيس شرعيتها عليه (باتهام كل معارضة داخلية بأنها من صنع «يد أجنبية»، بما في ذلك عدو أمس وهو فرنسا). وفي صلة هذا النمط بالإسلام، فهو يفسر أهمية العامل الديني في تحديد الهوية الجزائرية، ومناورات السلطة السياسية لتضفي على نفسها شرعية الإسلام.
بعيدا عن نقل الشرعية إلى السلطة الوطنية، فقد تجذرت هذه الشرعية في الإسلام أكثر ابتداء من سنوات الثمانينيات عندما فقدت السلطة جزءا كبيرا من مصداقيتها على إثر اتضاح فسادها وفشلها في العديد من المجالات. فباسم الإسلام ادعت الحركات الإسلامية التي ظهرت في الجزائر في ذلك الوقت أنها تمتلك شرعية، فأضعفت السلطة الوطنية أكثر. وبذلك، أصبح الإسلام في الجزائر ملاذا ضد السلطة الوطنية، واستعاد موقعه قبل الاستقلال، فوجدت السلطة نفسها تحدَّدُ بأنها سلطة استعمارية جديدة.
بالتالي، فما الهوية الجزائرية؟ من الناحية القانونية، هي مرتبطة بالدولة ودستورها، لكنها مرتبطة رمزيا بفرنسا على شكل معارضة. إنها متجذرة، في الواقع، في جانب، في الأقاليم والمناطق والعشائر، وفي جانب آخر، في مرجعية تاريخية إسلامية. ويشكل هذا الإسلامُ مرجعا رمزيا قويا بغض النظر عن محتواه الذي يأخذ أشكالا مختلفة. لقد حاولت حركة الإصلاح بقيادة الشيخ عبد القادر بن باديس أن تستبدل ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي الإسلامَ القرويَ والحضري بإسلام عقلاني وحداثي، وامتدت هذه المحاولة بهذا القدر أو ذاك إلى فترة الاستقلال. أما الحركة الإسلامية، فقد حاولت على العكس أن تعطي للإسلام شكلا جذريا مستوردا من الشرق الأوسط ومشاركا بعمق في العمل السياسي أساسا. ومع ذلك، فمن المهم عدم الخلط بين إسلام السكان في الجزائر والإسلام الذي استوردته الحركة الإسلامية: فهذا الأخير يدعو إلى ممارسات مخالفة للممارسات المحلية على نحو يشعر به السكان. فإسلام هؤلاء يتميز، على العكس، بحرصه على الحفاظ على شخصية جزائرية مختلفة عن النموذج الذي كان يقدمه الاستعمار، والذي غالبا ما تبنته الحكومة الوطنية من قبل.
الهوية الإسلامية دعامة للمعيش اليومي
في الحياة اليومية للمغاربيين، وخاصة الجزائريين، الذين واجهوا لفترة طويلة وسطا ثقافيا أحسوا بأنه مسيحي ومستبد، يُنظر إلى معظم الاستعمالات اليومية بأنها علامات على الهوية الإسلامية. كان هذا ينطبق فيما سبق على طريقة طهي الخبز (في المنزل وفي الفرن)، والأكل واللباس، وقواعد الزواج، وإجراء تقسيم معين للفضائين الاجتماعي والمنزلي بحسب الجنسين والأجيال، ودفن الموتى. وباختصار، فقد كان ينطبق على كل ممارسة تختلف عن الممارسات السائدة في أوساط المستوطنين الفرنسيين. هذا هو السبب في أنهم كانوا يحملون نظرة سيئة إزاء كل السكان منهم الذين كانوا يتخلون عن الممارسات الإسلامية ليتبنى تصرفات الفرنسيين: كثيرا ما يُنظرُ إلى حالة المتجنسين والمتحولين (متورنيين)، وكذلك إزاء السكان «العصريين»، إبان فترة الاستعمار، باعتبارهم نسخة طبق الأصل من السادة الاستعماريين. هذا هو نوع المرجعية الذي يُتيحُ ملاحظة تقسيم اجتماعي معين للمجتمع الجزائري، والذي غالبا ما يتم وضعه استنادا إلى معايير لغوية (ناطقون بالعربية وناطقون بالفرنسية) أو ثقافية (تقليديون أو حداثيون)، هذا النوع من المرجعية يُمكِّنُ من مُلاحظة ذلك التقسيم أكثر بكثير مما تتيحه المعايير السياسية أو الإيديولوجية. ولكن الواقع هو أن جميع السكان يُشاركون في هذين الجانبين، ويخضعون للتأثيرين، بدرجات تتفاوت تبعا للأشخاص والأماكن والأوقات.
إذا أمكن للحياة العامة أن تأخذ لونا إسلاميا، فذلك ينطبق أكثر على الشعائر الدينية: الصوم، الصلاة، والأعياد الدينية، والذهاب إلى المساجد، والامتناع عن أكل الأغذية المحرمة. وإذا كان قسم هام من السكان ينظر إلى هذه الممارسات باعتبارها دينية، فإن غير المسلمين بدورهم يعتبرونها علامات على انتماء رمزي للهوية الإسلامية، وبذلك فهي تشكل على نحو ما نوعا من علامات هوية تمتد خارج البلاد.
الاسلام في الهوية الوطنية الجزائرية
نشأت هوية جزائرية جديدة مناصرة لحرب التحرير والاستقلال ومستندة إلى ظروف جغرافية وتاريخية. لقد ذكرتُ لماذا كان الإسلام جزءا أساسيا في تلك الهوية. بما أنَّ النظام في السلطة لم ينجح في نيل اعتراف بشرعيته، من خلال رفضه للإجراءات الديمقراطية الكفيلة وحدها بمنحه شرعية، فقد ارتكزت الهوية الجزائرية في نظر جزء من السكان على الإقليمية والإسلام والقيم الكونية للإنسانية. وبالتالي، يظل الإسلامُ القيمة الرئيسية للهوية التي يعترف بها الجميع، بمختلف مكوناته وأشكاله. وتبدو هذه المرجعية مستقلة عن المحتويات الفقهية أو حتى الدينية أحيانا، ولكنها تحيل إلى محتوى سوسيوثقافي ينقسم أحيانا داخل المجموعة الواحدة أو الفرد الواحد في بديل استقرار الحركة. لهذه الأسباب، يمكن القول، في الحالة الراهنة للأمور، إن الإسلام يجسد أعمق صياغة للهوية الجزائرية.
في حالة الهجرة في فرنسا، يتمسك الفرد الجزائري في آن واحد بالرابط الذي يجمعه بعائلته وبأجداده كما يحتفظ بعلاقته بالإسلام باعتباره ركيزة أساسية لشخصيته. أما التنجيس فلا يطرح أية مشكلة: فالجزائريون يعتبرون أنفسهم ذوي جنسية جزائرية في حين يعتبرهم الفرنسيون ذوي جنسية فرنسية. ولكن العضوية القانونية لا يمكن أن تخلق في حد ذاتها ارتباطا رمزيا جديدا، ودعامة حقيقية للهوية مطابقة للانضمام إلى مجتمع جديد. يجب تشغيل الانفتاح على قيم كونية. مثلما نجح المسيحي في ذلك، في بضعة قرون، انطلاقا من ركيزة دينه، سينجح المسلمُ في ذلك بقيمه الإسلامية، ليس بالتخلي عنها لفائدة القيم الكونية، بل باستيعاب هذه الأخيرة وتجاوزها. ولكي تجري هذه العملية في ظروف جيدة، فمن الضروري أن يشعر المسلمُ بأنَّ المجتمع المضيف يعترف به. إذا لم يحدث ذلك، فلا يبقى أمامه سوى الانغلاق في جماعته الأصلية التي تصير ملاذا له ونوعا من المجتمع المغلق: إنها الطائفية. يجب أن يعثر أيضا على أماكن استقبال ترحب بانتمائه وتدعمه، أماكن تدرجُ في تطور مطابق للوضعية الجديدة للمسلم الذي يعيش في فرنسا ويرغب في الاندماج في الجمهورية.
الدخول إلى الجمهورية من باب الإسلام
في خطاب حديث، قال وزير الداخلية الفرنسي المعروف بالتزامه بالعلمانية إن الحرية والمسؤولية أو المساواة كانت «ابتكارات مسيحية» تمَّ عَلمَنتها بعد ذلك. وبمسار مماثل سوف ينضم المسلمون على نطاق واسع إلى المفاهيم نفسها. ولكن مثلما تمّ نشر هذه القيم على نطاق واسع في خمسينيات القرن الماضي من لدن رجال الدين وحركاتهم الكاثوليكية، يمكن نشر هذه الأفكار اليومَ من لدن أولئك الذين يتحدثون باسم الإسلام. فالمسلمُ القاعدي الذي يغذي الخطاب المؤسساتي الفرنسي بنوع من انعدام الثقة – وهذا محق في ذلك، لأنه يرى أنَّ المسلمَ غالبا ما يقوم بممارسات متناقضة -، ذلك المسلم يرى أنَّ تلك القيم الكونية لا يمكن نقلها بشكل فعال إلا من لدن ممثلي الإسلام، وهم الأئمة والدعاة والمدرسون الذين تبنوها: فخطابهم هو في الواقع امتداد لهوية دنيوية، ويمكن الوثوق بهم لأنهم يتحدثون من داخل الجماعة الإسلامية. فهم يمثلون نموذجا لأنهم مسلمون على الحق، واندمجوا في الأمة الفرنسية بدون خلفيات، بما يترتب عن ذلك من حقوق وواجبات. من خلال تلقي هذه القيم باعتبارها تطويرا لثقافتهم وتفتحا لها – وهو ما يمكن أن يكون عليه الأمر بالنسبة للقيم نفسها من حيث أصلها المسيحي – سوف يتمكن المسلمون الفرنسيون من الاندماج في المجتمع الفرنسي دون فقدان هويتهم. لا يمكن لتطوير الشخصية، فردية كانت أو جماعية، أن يتحقق بدون الحفاظ على العناصر التي شكلت هذه الشخصية في المقام الأول مثلما لا يمكن للشجرة أن تنمو وترتفع إلا إذا مدت جذورها في عمق الأرض. تبين مقابلة العربي كشَّاط، في هذا العدد، ما يمكن أن يكون عليه إجراءٌ من هذا النوع حقا، ولكنه عمل غير قابل للتحقيق إذا ما صادف الكثير من العقبات وفي غياب عدد من الشروط الكفيلة بجعله ممكنا في فرنسا.
عقبات في طريق إسلام فرنسي
تتعدد الحواجز التي تحول دون وجود الإسلام في فرنسا، بعضها مؤسسي يتعلق بعمل الدولة وبعضها الآخر يأتي من الرأي العام، مثل «كراهية الإسلام» أو إبعاد ذوي النوايا الحسنة.
عوائق مؤسسية
تعكس العديد من هذه الحواجز الخوف من التدخل الأجنبي، إذ يفترض أنَّ معظم المسلمين هم على اتصال قوي بأمتهم الأصلية، والأنشطة الإسلامية تقدم مادة لدول أجنبية كي تتدخل في الوضع الداخلي الفرنسي بالتمويل (المساجد والجمعيات والدعاية)، وإرسال أشخاص لتأطير (الإسلام الرجعي أو الحركات الإسلامية)، أو أخيرا بممارسة نوع من الوصاية الأخلاقية. وقد تهدف هذه التدخلات إلى إنشاء إسلام طائفي في فرنسا من شأنه أن يشكل جيبا أجنبيا معاكسا للاتجاه الفرنسي في هذا المجال.
ومعظم هذه المخاطر ليست وهمية، إذ ظهر في السنوات الأخيرة العديد من حالاتها، ولكن الدولة لا تفتقر إلى وسائل الدفاع ضد هذا النوع من المخاطر. فتحرك الأشخاص والتدفقات المالية هي أمور قابلة للتحكم والسيطرة، والقوانين موجودة أو يمكن تفعيلها وتكييفها، ولكن يجب الاعتراف بأن الدولة تتحمل مسؤولية كبرى في ما يجري. فهي التي فضلت على الدوام في مُعالجة قضايا الإسلام أن تتعاملَ مع دول المغرب العربي الوطنية بدل أن تتعامل مع الجماعات التي تعيشُ في فرنسا (حالةُ المسجد الكبير في باريس مثالٌ صارخ)، ووقعت مع هذه البلدان اتفاقيات ثقافية تشجع على إدخال أشخاص في المدارس الفرنسية، تحت اسم ELCO (مدرسو اللغات والثقافات الأصلية)، تختارهم سلطات بلدانهم الأجنبية لنشر إيديولوجيتها الوطنية أو الإسلامية، وهي التي شجعت في ثمانينات القرن الماضي على إنشاء جمعيات «إسلامية» لـ «تهدئة» الضواحي، دون أن تفطن للفخ الذي وقعت فيه. أخيرا، أهم من ذلك كله، فالدولة الفرنسية هي التي أكرهت مسلمي هذا البلد على الاعتماد على موظفين وتمويل أجانب، من خلال رفضها خلق ظروف إسلام فرنسي.
عوائق في المجتمع الفرنسي
سأذكر منها اثنين: رفض ما يشتمُّ منه أنه إسلامي، والشطط الإيديولوجي لبعض الليبراليين.
كراهية الإسلام
إذا أردنا أن نكون صرحاء وواضحين، فعلينا أن نعترف بأن هناك كراهية للإسلام في المجتمع الفرنسي منذ فترة طويلة: لا جدوى من حجب الشمس بالغربال أمام هذه الظاهرة، من الأفضل محاولة فهمها.
يوفر الماضي بعض المفاتيح. فزمن الحروب الصليبية أظهرتْ تلك الكراهية، والفتوحات الاستعمارية حيَّنتها، وحرب الجزائر فاقمتها، وتدفق الفرنسيين إلى مدينة الجزائر حافظ عليها، والأحداث الراهنة في الجزائر أكدتها، والهجمات الإرهابية الإسلامية في فرنسا وسَّعتها. ومن المحقق أنَّ قسما كبيرا من الفرنسيين لا يكرهون الإسلام، ولا المسلمين أكثر تحديدا، لأسباب لاهوتية أو دينية.
يشير ما سبق إلى الفرضية التي انطلقتُ منها، وهي أن للتصور الفرنسي للإسلام ارتباطا عميقا بالجزائر مهما قال العلماء في هذا الصدد. ففي تصوره العام للمغرب العربي، يركز هذا الرأي على الجزائريين بالخصوص. أما الآخرين (التونسيون والمغاربة) فقد يحمل إزاءهم رؤية أفضل، وبذلك تُختزل كراهية الإسلام في كراهية الجزائر، وهذا كثير. في الساحة المركزية، توجد حرب الجزائر التي عبأت الرأي الفرنسي بأكمله وعلى كافة المستويات. كان الرأي العام الفرنسي في ذلك الوقت يرى أنَّ خصومه هم «المسلمون». ومع ذلك، يمكن الاعتراض على هذه الفكرة بأن الحرب الاستعمارية في الهند الصينية كانت أيضا خشنة للغاية، ومع ذلك لم تولِّد «كراهية للفيتنام»، إذ لا يحمل الفرنسيون إزاء هذا البلد سوى مشاعر لا مبالاة.
هل من الضروري التذكير بأن الكراهية شعور مُلزمٌ، يدلُّ على وجود صلة، وأن نقيضه ليس الحب بل هو اللامبالاة؟ تدخل الكراهية هنا على العكس في سجل التناقض. تعكسُ كراهية الإسلام التي تمَّ ترجمتها بكراهية الجزائر بالخصوص تشابك هويات، واشتراك مصائر، ومشاعر للذنب، والكبت (refoulement)، وأشكال من الارتباط والنبذ التي تمَّ الاضطلاع بها وكبتها، ومعيشات مشتركة تمَّ نسيانها. ويقود هذا إلى القول بأنَّ مدار هذه الكراهية للإسلام هو المأساة التي عاشها المجتمع الفرنسي بخصوص الجزائر، في ذاكرة لم يتم استكشافها بما فيه الكفاية إلى الآن. المشكلة كبيرة بالتأكيد، ولا يمكن حلها في غضون بضع سنوات. ولكن فيما يتعلق بالجدل حول الإسلام في فرنسا، كان بالإمكان تحقيق خطوة كبيرة إلى الأمام لو قبلنا الاعتراف بأن التحفظات في هذا المجال تنطوي في الواقع على مسألة أخرى سوف تحتاج إلى اهتمام جيد في يوم ما. فالمسلمون الفرنسيون اليوم ليسوا هم مقاتلو أمس، وغالبا ما لا تكون لهم أية صلة بالجزائر، وبالتالي لا يجب تحميلهم عبء ماض لا يد لهم فيه. على العكس من ذلك، يمكن بالتأكيد لمساعدة المسلمين الراغبين في الاندماج في المجتمع الفرنسي أن تُساهمَ في رفع هذا العبء الذي يُثقل كاهل اللاوعي الفرنسي.
النوايا الحسنة الشاردة
على الطرف المعاكس للطيف السياسي، يقع هذا الجزء الشجاع والمناضل من المجتمع الذي دَافعَ في الماضي، انطلاقا من مُثل الحرية والمساواة، عن استقلال الجزائر، ويُدافع اليومَ بشجاعة عن المهاجرين الذين يتلقون معاملة سيئة أحيانا في التراب الوطني. بعد الاستقلال، قدم هذا الجزءُ دعما سياسيا للسلطة التي قامت بعد نهاية الاستعمار، غاظا الطرف عن قصد أو عن غير قصد عن واقع ممارساتها وأسس شرعيتها. واليوم يجد هذا القسم نفسه في حالة من الحيرة إزاء قضية الإسلام بفرنسا.
وخلفية تفكيره في المشكلة هي علمانيته واعتباره «الدين أفيونا للشعوب». لقد تماهى الكفاح من أجل الاستقلال دائما مع النضال من أجل المثل العليا، فلم ير للإسلام مكانة في تلك المثل، وبالتالي فهو ظل عنده مرادفا للظلامية والتخلف الاجتماعي والاقتصادي. لقد أثارت «العودة إلى الإسلام» خيبة وسوء فهم. على الرغم من الاعتراف بمبدأ حرية اختيار البلدان المستقلة، وجد هذا القسم من المجتمع الفرنسي نفسه في مواجهة الإسلام في فرنسا. وقد رسَّخ التشويه الإعلامي بخصوص بعض «القضايا» (الحجاب، أضحية العيد، التعصب المكشوف) في ذهنه فكرة أن مثل هذه القضايا هي عدو حقيقي للتفتح والاندماج، وهي فكرة يدعمها العديد من اللاجئين الجزائريين في فرنسا الذين يرون أنَّ الحركات الإسلامية (يُخلط بسهولة بينها وبين الإسلام) هي مصدر كل المآسي والشرور التي يعانونها.
نقطة شرود هذا الجزء من السكان هي رؤيته «المتمركزة عرقيا» للواقع الجزائري الذي احتك به هؤلاء السكان عن كتب، دون أن يدركوا أهمية المكون الإسلامي في الهوية الجزائرية للأسباب المذكورة أعلاه. فرؤيتهم المثالية للجزائر تحجب عنهم واقع هذا البلد في حد ذاته، أي باعتباره مجتمعا آخر. من الضروري بالتأكيد أن يكونوا يقظين لكي لا يجدوا أنفسهم أمام إسلام يتطور في فرنسا بشكل يخالف مبدأ التكامل والاندماج في الجمهورية، كما يجب أن يفهموا أنَّ جزءا كبيرا من الرأي العام لا يمكن أن يعتمد في توجهه إلا على من يثق فيهم، وهم الذين يعترف بشرعيتهم، والذين يمكن أن يصدق كلامهم، وهم رهبان الماضي – ولو أنه ينفي ذلك – وأئمة اليوم!
ليس السؤال طبعا هو ترك الساحة للحوار بين الأديان أو المقابلة بين الإسلام والمسيحية. فالديانات التوحيدية الثلاث تقع في النهاية على نفس المستوى، وتتنافس مع بعضها البعض. المشكلة هنا هي أن يتم الانتقال إلى الطابق العلوي من الكونية، بمساعدة المسلمين على اعتماد سياقهم الثقافي بخصوصياته لتطوير العناصر التي ستسمح لهم بدخول عالم حقوق الإنسان، والكونية والتسامح، وبالتالي عالم الجمهورية: هذا هو المستوى الذي تقع فيه العلمانية، باعتبارها قيمة أساسية، محترمة الديانات ومتعالية عليها في آن واحد.
الشروط اللازمة لإسلام فرنسي:
تنحدر شرعية وجود الإسلام في فرنسا من وجود عدة ملايين من المسلمين فوق التراب الفرنسي يتمتعون بالجنسية الفرنسية يعترف الدستور بحقهم في حرية ممارسة شعائرهم الدينية كما يعترف بها للمسيحيين ولأفراد باقي الديانات، مع المقتضيات المترتبة عن ذلك. ولكن الإسلام ليس مجرد دين، بل هو أيضا ثقافة تتضمن هوية محددة تملك حق الاعتراف بها جنبا إلى جنب مع باقي الهويات المكوِّنَة للمجتمع الفرنسي. هذه الثقافة جديدة على الأراضي الفرنسية، وهي في طريق الإدماج في الثقافة الفرنسية الشاملة. وقد شددتُ على الدور الرئيسي الذي يمكن أن يلعبه العامل الديني في هذا التكامل.
ليكون هذا الإدماج ممكنا، فهو يتطلب بعض الشروط: أماكن العبادة، وأماكن للتعلم والتكوين، وأماكن للتعبير، وأخيرا المساواة في المعاملة مع الأديان الأخرى.
المساجد
هناك في فرنسا حوالي 1500 مكانا للعبادة، ولكن معظمها عبارة عن محلات صغيرة: بيوت بسيطة، ومواقف السيارات… ويدل تزايدها على الأقل على حاجة الممارسين إلى أماكن خاصة للممارسة شعائرهم الدينية. هناك عدد من المساجد، وهو غير كاف بدون شك، وغالبا ما تمَّ إيقاف بنائها من لدن السلطات المحلية. أهم هذه الأماكن، وهو مسجد باريس الكبير، يعاني من نظام من الوصاية السياسية غير طبيعي. أما باقي المساجد الكبرى (في مرسيليا، وليون، وغيرهما)، فقد بنيت عموما بدعم خارجي، وهذا لا يضمن استقلال الإسلام الفرنسي. وتراخيص البناء يتم التماطل عموما في منحها، بدون مبرر قانوني عدا تعسف السلطة المحلية، كما في حالة المسجد المزمع بناؤه في شارع طنجة بباريس. بالإضافة إلى فائدة المسجد الوظيفية، فهو يلعب دورا رمزيا هاما، إذ أنه بمجرد وجوده يعكس حقيقة كون مسلمي فرنسا يشعرون بأنهم في عقر دارهم بفرنسا.
تقود قضية المسجد إلى طرح مسألة حساسة وهي قضية الإمام نظير الراهب في المسيحية أو الحاخام في اليهودية، بمعنى أنه الشخص الضامن للتوجه الديني الذي يُنشر في مكان العبادة. ودور الإمام رئيسي، بيد أنّ اختياره لا يخضع لأية قاعدة مع أنّ مهمة إدماج الإسلام في المشهد الفرنسي لا يمكن أن توكل لأي مسلم يأتي من أي بلد، ولم يخضع لأي تدريب. على عكس الجماعات المسيحية واليهودية، لا تتوفر المجتمعات الإسلامية على أي هيكل رسمي قادر على أداء هذا المستوى من الرقابة الضرورية. والتقسيم الحالي للاتجاهات غالبا ما يعكس تدخلات خارجية في الإسلام الفرنسي، ولا يسهل إنشاء هيكل من هذا النوع، ولكن يجب على الدولة أن توفر أماكن محايدة للاجتماع والعبادة.
أماكن التدريب
المسجد هو مكان التكوين المفضل، ولكن يمكن لأنشطة تكوينية أخرى أن تلحق به. قضية تدريب الأئمة مسألة ملحة اليومَ، وهي ضرورية للاعتراف بالمسجد. في هذا المستوى يوجد مفتاح مشكلة قضية رئيسية، وهي تكييف الإسلام مع ظروف الحياة الحديثة والحياة في بيئة متعددة الثقافات.
ينشر المسجد (أو الجمعيات الإسلامية)، بشكل أعم، تكوينا دينيا لأطفال الحي، ولا ينبغي التقليل من جدوى هذا التدريب مادام يدخل في منظور الانفتاح والإدماج المذكورين.
غالبا ما يكون تعليم اللغة العربية أحد الجوانب الهامة في هذا التكوين. ما دامت اللغة العربية لغة القرآن في المقام الأول فهي لا زالت تحتل مكانة هامة في الدين والهوية الإسلاميين، ولذلك فمن المشروع نشر هذا التعليم بين الأطفال والبالغين الذين يرغبون فيه. يمكن للغة العربية، باعتبارها متجذرة في الهوية الإسلامية بعمق، أن تمثل هذا الرابط بالهوية الأساسية. من هذا المنظور، يمكنها أن تشكل، خلافا للعديد من الأحكام المسبقة، عاملا في التفتح: من خلال تشجيع الطفل على تعلم ثقافة غالبا ما تتعرض للاحتقار، فاللغة العربية تعزز شخصية هذه الشريحة من الأطفال وتسمح لها بأن يذهب بعيدا في الانفتاح على العالم.
معاملة متساوية مع الأديان الأخرى
ينص الدستور الفرنسي على مبدأ المساواة بين الأديان، ولكن يبقى من الضروري ترجمة هذا المبدأ إلى ممارسة. في الواقع، ما دام الرأي العام الفرنسي يتقبل الإسلام بصعوبة، فالإدارة تقف عموما في موقع بعيد عن مبدأ المساواة. صحيح أن ما يطرحُ نفسه بإلحاح هنا هو مشكلة التمثيلية: التعامل مع من؟ مع أي سلطة؟ مع أي شخصية معترف بها؟ يجب إيجاد حل يدبر علاقة استقلال الساكنة المسلمة بفرنسا تجاه الإدارة، مع تجنيب تدخل دول أجنبية، بما فيها الإسلامية، هذا التدخل الذي عادة ما يأخذ طابعا سياسيا أكثر منه دينيا.
خلاصة
يُنظر إلى الاستقرار النهائي لجالية مسلمة بفرنسا عموما في سلبياته: صعوبة إدماج ساكنة مهمشة، وإيجاد مناصب شغل لها، وسكن، وصعوبة قبول أنها فرنسية، بفعل سماتها العرقية والثقافية الخاصة، والانزعاج العام من عاداتها وتصرفاتها غير العادية. وبذلك يجد العزف العنصري على هذه الصعوبات، من لدن حركات اليمين المتطرف، والإشارة إلى الجزائر تحضر دائما وراء المسألة، يجد ذلك العزفُ صدى في شريحة كبيرة من السكان يُغريها الرَّفضُ والنبذ.
تجاه هذا الموقف العام، مالت السلطة السياسية إلى الاقتصار على الزاوية الانتخابية للمسألة بدل أن تتحمل مسؤولياتها نحو الواقع الحقيقي الذي خلقه وجود الإسلام في فرنسا. يتطلب علاج هذه الحالة، على العكس، موقفا واضحا وشجاعا لن يتأخر ظهور فوائده.
هناك في فرنسا الكثير من المسلمين – يمكن للسياسة المتعبة أن تزيد عددهم بشكل كبير – الذين وضعوا آمالهم في المُثل التي ترفعها فرنسا، وهم ملتزمون بإخلاص بلعب اللعبة. إلا أنه تمَّ الاستهانة إلى اليوم بما يُمكن للساكنة المُسلمة أن تساهم به في إشعاع فرنسا اقتصاديا وثقافيا وسياسيا. وبتجاوز الأزمة الجزائرية الحالية، سيمكن لهؤلاء المسلمين أن يشكلوا أساسا متينا لصلة يستفيد منها الجميع، مع هذا البلد كما مع تونس والمغرب.
أبعد من هذا المنظور، سيتيحُ تمسكهم بالثقافة الإسلامية إعادة إدماج هذه الثقافة في الساحة الثقافية العالمية، كما سيتاحُ لإسلامهم، بعد تحديثه وتكييفه مع الحياة المعاصرة، أن يكون نموذجا لكثير من المجتمعات العربية شبه المشلولة في هذا الباب. سيندرج مفهوما الانفتاح والديمقراطية على نحو أفضل في هذه المجتمعات عندما ستُظهر نماذج أخرى قابلية الإسلام للتوافق انطلاقا من إنجازه الفرنسي. كما سيجني المجتمع الفرنسي أيضا مكسبا وفائدة، لأنَّ كل انفتاح هو إغناء، ولا يمكن لموقف جريء ومُجدِّد إلا أن يعيد الثقة في النفس لمجتمع أمعنَ في إضعافه ممسكو فزاعات تحريك مشاعر الخوف والانطواء. لا يمكن لاضطلاع ساكنة بكرم الضيافة إلا أن يمنحها الثقة ويجعلها تكبر في عيني نفسها وفي عيني الآخر.
جلبير غرانغيوم: خصوصيات الإسلام الفرنسي / ترجمة: م. أسليـم
مصدر النص:
Gilbert Grandgullaume, Les singularités de l’islam français, Esprit, N°1, janvier 1998, p.52-65
ويوجد نصه كاملا بموقع المؤلف:
Les singularités de l’islam français
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الإثنين 27-10-2014 05:59 مساء