إذا أرجعنا الحداثة إلى إبستيمولوجيا وأخلاق – أي إلى نظام مهيكَل من المعارف والقيم والسمات الحضارية – سهل علينا الإحاطة بالقيمة الأصلية أو الأساسية التي يمثلها تعليم العلوم أمام تحديات التحديث التي ما فتئت تقضّ مضاجع المجتمعات المغاربية والعـربية على عتبة الألفية الثالثة.
1. الأشكلــة: العلـم بيـن المعنـى والقـوة:
وبالفعل، فقد صارت ملاحظة تسترعي الاهتمام بشكل متزايد، وتتمثل في كون مصيرنا – وربما أيضا مصير مجموع النوع البشري – مُرتَبِط باستيعابٍ مناسب ومتيقظ للمعرفة العلمية والتكنولوجية. يُقتَرَح تنظيم أشكَلة هذه الظاهرة الكونية، داخل سلسلة من التساؤلات تنحو إلى إبراز المسلمة التي ترى أنَّ الصيرورة الأنثروبولوجية للإنسان، في أيامنا هذه، مُرَبَّعة[1] تربيعا مُضاعفا، بل وحتَّى «مُحاصرة» في كليتها:
– بـ الإبستيمولوجيا التي تصطنعها الاكتشافات العلمية، من جهة،
– بـ الأكسيولوجيا (نسق القيم) التي نصوغ بها التطبيق العملي للنظريات العلمية، من جهة ثانية.
ومـن ثمة، فالأمر يتعلق بالتساؤل حول شـروط إمكانيـة تحكُّـمٍ
أفضل في ما هو أساسي في بحثنا عن المعرفة والكينونة الحديثين:
– ما مصدر هذه العلاقة التصالبية بين التفكير والفعل؟ ما مصدر هذا التداخل بين دائرة العلم ودائرة الوجود؟
– بأي وجه يعتبر تعليم العلوم حاسما، بل حيويا بالنسبة لمجتمعنا وبالنسبة للنوع البشري بشكل عام؟
– ما الذي يفرض على المقاربة المبأرة لأهمية «المنهاج» العلمي أو منفعته الأداتية أن ترتكز على سنَدٍ أخلاقي، أي على ركيزة أكسيولوجية؟
– باختصار، أيمكننا أن نزعم القدرة على الوجود أو «البقاء» فيما وراء سنة 2000 دون أن نتحكم، بشكل إن لم يكن كاملا فعلى الأقل تقريبيا، في المنظور الحديث باعتباره بنية للمعرفة ونسقا من القيم؟
تلك، على نحو مبسَّط، هي الأسئلة الكبرى التي تسبغ معنى وقوة على ممارسة بيداغوجية مألوفة وعادية: تدريس العلوم في مجتمعات ماقبل – الحداثة.
2. مُصادرة[2]: «نكـون أو لا نكـون»:
وراء هذه الأسئلة المقلقة، ترتسم ظلال مسلمة ليست بأقل إثارة للقلـق والانشغـال، وهي: خارج أفق الحداثة لا يوجَدُ أيّ خلاص.
– إنها مسألة أن نكون أو لا نكون.
كيف نعبر عن هذه المصادرة؟ كيف نجعلها تنتقل من دائرة المساءلة والأشكَلة النظرية إلى سياق البرهنة الإجرائية الواضحة؟
يبدو لي أنَّ هذا التعبيرَ بقصد الإبراز أو التوضيح يجبُ أن يُجرى، إجمالا، تبعا للتحديات الكبرى التي تضايق مجتمعنا في جانبه اليومي: تحديات يمكن إرجاعها، بنسب متفاوتة، إلى ثلاث نقط أساسية:
1 – الاكتفاء الذاتي الغذائي
2 – استفادة الجميع من العلاجات الطبية
3 – تعميم التعليم
هذه التحديات الكبرى لا يمكن رفعها إلا بامتلاك زمام التحكم في معرفة علمية صلبة ينقلها رجال علم بدعم من – أو في تناوب مع – فلاسفة متنوريـن.
3. مأسسَـة الغموض: رؤية مُعمَّدَة[3] للعالم:
تصنفنا مُدوَّنة الغرب الذي يحتفظ لنفسه وحدَه عمليا، ومنذ القرن XVI، بحق إطلاق الأسامي، تصنفنا ضمن ما يسمى بمجتمعات «ما قبل حداثية»، و«متخلفة»، بل وحتَّى «عتيقة»[4]. وقد احتفظ أدبُُ بكامله – تساعده في ذلك حماسة الاستقلال الوطني – لنفسه بحق الإجابة الصائبة والمشروعة، فأجهد نفسه في إلقاء السَّخط على هذه النظرة الغربية المتمركزة عرقيا التي تبدَّت عاجزة جذريا، بفعل إفراط المسلك الأناني المتمركز حول الذات، عن تصور المجتمعات الأخرى خارج خطاطات ثقافته المقولَبَة. وأكيدُُ أنَّ هذا النقاش يحيل على عصر آخر يتمثل في المواجهة: استعمار / تحرّر. لكن هل نحن الآن في صحو تام لكي نعترف، بكامل النزاهة الفكرية الضرورية، أنَّ ثابتة[5] تخلفنا تكمن حقا في استحالة تحكمنا في أبسط أسس وجودنا باعتبارنا أحياء عاقلين، ونعني بذلك التغذية، والصحة، والتعليم؟
للإجابة عن هذا السؤال نلاحظ في الآونة الأخيرة أن «فكرة»، يكتنفها كثير من الغموض، تميلُ إلى مأسسة نفسها، بفضل ترديدات وسائل الإعلام وما يسمى بالجمعيات الثقافية. ومفاد هذه الفكرة، إجمالا، أنَّه إذا كانت علاقتنا بالغرب غير متكافئة، فذلك لأن هذا الغرب أكثر نشاطا منا في مجالات الأدب، والمسرح، والسينما، والرسم، والموسيقى[6]. فهذه الميادين تُقدَّم ضرورة باعتبارها الدعامات الأساسية للحداثة. وغني عن القول إن إرادة التحديث، بحسب هذا الاستدلال، تفرض تشجيع الفنون التشكيلية، والإنتاج السينمائي، ونشر الدواوين الشعرية والمجاميع القصصية… الخ. هكذا تنتهي رؤية مَفلوجَة للعالم بتوليد شعيرة الغموض الممؤسس.
4. التجـاوز: كيف ندرِّج الحاجيات، كيف نحدد مصدر القيمة:
نقترح قلب هذا الاستدلال الممأسَس، بالتركيز على ما يلي: إذا كان الغرب يتحدَّد بالحداثة، فذلك لأنه عرف، أولا وقبل كل شيء، كيف يتحكم في المكان والزَّمان بفضل نماذج العلوم والتقنيات. أما نحن، فمصابون بعجز مزدوج من جرَّاء غرقنا في أوحال الغموض الفكري والاعوجاج العقلي منذ الاستقلالات الوطنية: عاجزون عن ترتيب حاجياتنا، بكيفية مُناسِبة مُلائمة وإجرائية، وعاجزون عن تسمية أولوياتنا بدقة ووضوح، ومن ثمة فإنَّ مجهودا لإعادة اعتبار صعوباتنا يفرض نفسَه.
وغني عن القول إن الحديث عن الحاجيات هو، في نهاية المطاف، التفكير بلغة الفائدة والمنفعة. بيد أنه يمكن التساؤل مع ج. فوركان: «أي شيء، خارج اللذة أو المنفعة الأداتية، يستطيع أن يدفعنا إلى الفعل ويبرِّرَنا باعتبارنا نفعل؟». يجيبُ المؤلف نفسُه: «لا شيء عدا الإحساس بأن بعض الأشياء لها وزن وقيمة»[7]. وما له وزن وقيمة بالنسبة لنا، من منظور براغماتي، هو اكتساب هذه العلوم التي صارت في عالمنا الراهن، في آن واحد، مقاييس للتحديث ودعائم للتقدم. وهذا معناه أننا، في غياب العلوم الإنسانية، سنكون دوما «محاصرين» بسياج الندرة والحاجة.
ومع ذلك يجب أن نسجل أن مُتعيَّة[8] براغماتية لا يمكن وحدها أن تبرر ضرورة تعليم إجرائي للعلوم. لا يمكن تحفيز جيلٍ ما بالاعتبارات النفعية وحدَها. المنفعة واللذة – للأسف! – عابرتان. وهل يمكن أن نؤسس مشروعا اجتماعيا متماسكا ومتينا على أسس نفعية خالصة وبناء على قيم نسبية وأهواء عابرة؟ يبقى إيجاد مبدإ يتصف بـ «ديمومة» لا ثغرة فيها – أو تؤسِّسُ ثغرتُها بشكل مفارق هذه الديمومةَ ذاتها (مفهوم القطيعات الإبستيمولوجية). بتعبير آخر، إن المسعى العلمي يحتفظ بخصوصيته في اقتصاد الخطابات العام، بفعل كونه المسعى «الوحيد» – إلى أن يظهر العكس – الذي يؤسِّسُ ظواهرَ حقيقيةٍ ثابتة في اتجاه الإصرار والثبات[9].
من المحقق أنَّ «مبادئ» الهندسة الأقليدية قد تجَاوزَتها مجموعُ البديهيات التي صاغتها الهندسات غير الإقليدية الشهيرة. هل يمكن القول، مع ذلك، بأنَّ التصور الإقليدي لاغ وباطل في أيامنا هذه؟ قطعا لا. ذلك أن هذا التصور «السحيق» نفسه هو الذي يؤسِّسُ ويوجِّه علاقتنا مع الفضاء. فهندستنا، مثلا، غير قابلة للتفكير، بل ومتعذرة الإنجاز، خارج المسلمة الإقليدية التي صارت كلاسيكية، وهي: «من نقطة خارج المستقيم لا يمكن رسم سوى خط واحد مواز للمستقيم».
وهذا معناه أن العلم يحمل في ذاته نوعا من الخلود والاستمرارية رغم الهزات والقطائع التي يتعرض لها مساره التاريخي. إنها إشارات تمنح نفسها للرؤية داخل كوكبة من النماذج التي لا تصلح، فقط، كمرجعيات تأسيسية لرؤيتنا للعالم، ولكن تساهم أيضا وأساسا في لا مَسَاسِيته وتوحيد نمطه. بهذا المعنى فإن كونية العقل المعرفي وصلاحية مبدإ عدم التناقض أو إجرائية المنهج الأمبريقي التجريبي لوحدهما غير كافيين لتبرير «المنهاج» العلمي.
وهنا تكمن ضرورة أخلاقية لسبب وجيه ووحيد هو أن المنظور العلمي يضفي معنى على وجودنا ويمنحه قوة… واستعمالُ العقل السليم وحدَه – دون الحديث عن خصلتين نادرتين حاليا، وهما: متطلبات الأدبيات أو الاستقامة الفكرية – يكفي إلى حدّ بعيد لتبرير التعجيل بإنجاز صياغة براغماتية لـ «منهاج» للعلوم على صعيد أمة بكاملها. ولاشك أن مصير كل مشروع سوسيوثقافي استقبالي سيتحدَّد بمدى قدرتنا على رفع تحدي العلوم والتقنية.
ترجمة: محمد أسليـم
——-
هوامــــش
[1] من فعل ربَّع (أو بيَّت): قسم إلى مربعات أو إلى بيوت وخانات. (م).
[2] المصادرة: ج. مصادرات (postulats): وهي «قضايا يطلب التصديق بها لحاجة العقل إليها في الاستدلال، وقد سميت بالمصادرات لأن المتعلم يراوَد على التسليم بها دون برهان، مع أنها ليست بينة في نفسها، وهي بهذا المعنى مقابلة للبديهيات (axiomes)، لأن البديهيات بينة في نفسها». نقلا من: د. جميل صليبا، 1982، المعجم الفسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية، بيروت، دار الكتاب اللبناني-مكتبة المدرسة، ج. 2، ص. 380. (م).
[3] صفة معبد ذي أعمدة من الجانبين. (م).
[4] هذه الصنافة كانت في أصل التفسيرات الأنطـولوجيـة الجاهزة حول العرب والمسلمين عموما. والتمركز العرقي الأوروبي (انثروبولوجيون، مدبرو الشأن المقدَّس، إداريو الاستعمار…) عبر عن نفسه داخل مجموعة من الافتراضات الإيديولوجية المسبقة التي «وحَّشت» العالم العربي بجعله أراضي حاملة لبذور متخلفة. في هذا المعنى، انظر على سبيل المثال:
– Rodinson, M. 1966, «Le Monde musulman et l’Europe», in TURCICA, T. XV, p. 349-363; 1982, La Fascination de l’Islam: Les étapes du regard occidental sur le monde musulman, Paris, Maspéro; Saïd, E. 1980, L’Orientalisme. L’Orient créé par l’Occident, Paris & La Haye, Mouton.
[5] التابثة (paramètre): كمية محدَّدة تتوقف عليها دالة من المتغيرات المستقلة. (م).
[6] من العجيب ملاحظة أن مؤلفا مغاربيا، سبق له مع ذلك أن عوَّدنا على يقظة فكرية لامثيل لها، يدافع عن فكرة شبيهة. راجع:
– Arkoun, M., 1989, «Aux origines des cultures maghrébines», in L’Etat du Maghreb, Paris, La Découverte, p. 133 et sq.
ويصوغ الفيلسوف الإيراني د. شايغان أحد الانتقادات الأكثر جذرية لهذه الوجهة للنظر. راجع كتابه:
– Shayegan, D., 1989, Le regard Mutilé, Schizophrénie culturelle: Pays traditionnels face à la modernité, Paris, Albin Michel, p. 83-160.
[7] Forquin, J.-C., 1991, «Justification de l’enseignement et relativisme culturel», in Revue Française de Pédagogie, n° 97, p. 13-30.
[8] تفيد المتعية معنيين: الأول مذهب المتعة القائل بأن اللذة والسعادة هي الخير الأوحَد أو الرئيسي في الحياة، والثاني مذهب قائل بأن كل نشاط اقتصادي هو قائم على إرضاء طبقات المجتمع وتحقيق أكثر ما يمكن من رغباته. والمصطلح مستعمل في النص بمعنى قريب من هذه الدلالة الثانية. (م).
[9] حول مفهوم «القطيعة الإبستيمولوجية، راجع:
– Fichant, M., Pêcheux, M., 1969, Sur l’histoire des sciences, Paris, Maspéro, p. 8 et sq.
يمكن للفهم المباشر والحَرفي لهذا المفهوم أن يقود إلى إبداء الاعتراض القائل بأن صيرورة العلم يتحكم في وجهتها مجموع «الهزات» التي توجهها حركات النقض والدحض والتجاوز التي تعرض توجهنا نحو الحقيقة للتصدع والتشقق: يحتج مشيعوا هذا التصور المحدود للقطيعة في العلم قائلين: «في الفيزياء وحدها، مثلا، يصعب علينا “الاختيار” بين “جاليلي”، و”نيوتن” و”إنشتاين”!». وهو ما يمكن الإجابة عنه بالملاحظة القائلة إن الدحض والنقض في العلوم التجريبية يتمحور، في آن واحد، حول الإدماج والتجاوز. وبذلك، يمكننا القول إن “خلود” النظريات يُوَلد في معقله، وبصفة متساوية، جاليلي، ونيوتن، وإنشتاين.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الجمعة 14-09-2012 12:20 صباحا