«الإنسان الحرّ بمثابة عيبٍ في جوهرة العالم، بمثابة شوكة مغروسة في لحم الطبيعة».
ميرلو-بونتي
– I –
لتقديم فكرة عن التعدد الجهوي والاجتماعي الموجود في مغرب نهاية القرن XVII، يورد اليوسي، في محاضراته، قول قصَّاص شعبي يحاول وصف هذا التعدّد انطلاقا من العادات الغذائية الخاصة بكل مجموعة، على النحو التالي:
«ودخلت أعوام الستين وألف مدينة مراكش عد رحلتي في طلب العلم وأنا إذ ذاك صغير السن، فخرجت يوما إلى الرحبة أنظر إلى المداحين، فوقفت على رجل مسن عليه حلقة عظيمة، وإذا هو مشتغل بحكاية الأمور المضحكة للناس. فكان أول ما قرع سمعي منه أن قال: اجتمع الفاسي والمراكشي والعربي والبربري والدراوي، فقالوا: تعالوا فليذكر كل منا ما يشتهي من الطعام، ثم ذكر ما تمناه كل واحد بلغة بلده، وما يناسب بلده، ولا أدري أكان ذلك في الوجود أم شيء قدره، وهو كذلك يكون، وحاصله أن الفاسي تمنى مرق الحمام، ولا يبغي الزحام، والمراكشي تمنى الخالص واللحم الغنمي، والعربي تمنى البركوكش بالحليب والزبد، والبربري تمنى عصيدة أنلي وهو صنف من الذرة بالزيت، والدراوي تمنى تمر الفقوس في تجمادرت وهو موضع بدرعة يكون فيه تمر فاخر، مع حريرة أمه زهراء، وحاصله تم رجيد وحريرة»[1].
قد يتساءل القارئ: أهي مجرد محاولة لتصنيف الأشخاص المذكورين؟ أم هي طريقة خاصة بعلامة القرن XVII الكبير في تقديم الشاهد على حكمة ثبات نظام على نحو ما أراده له الله؟ سيما وأنه يضيـف: «ولو عرضت هذه الحريرة على العربي لم يشربها إلا من فاقة، إذ لا يعتادها مع الاختيار، ولو عرضت العصيدة على الفاسي لارتعدت فرائصه من رؤيتها، وهكذا»[2].
مضى وقت طويل على هذا الوصف، غير أن مسألة التراتب الاجتماعي والفروق الطبقية لا زالت قائمة. مع استثناء واحد تقريبا: لم يعد مدار الأمر غذاء أرضيا فحسب، بل تجاوزه هذه المرة إلى طعام من نوع آخر، إنه غذاء الفكر… بتعبير آخر، بعد مضي ثلاثة قرون على اليوسي، نحن اليوم إزاء إرادة لإعادة تأهيل بيداغوجي للتراتبات الاجتماعية، الجهوية والثقافية. ذلك أن بعضهم ينادي اليوم، عن طيب خاطر، بإخضاع الطفل لتكييف بيداغوجي صارم مع محيطه المباشر. ومع أن الفكرة بالية ومهمَلة، سخيفة وسيئة النوايا، فهي تمرَّرُ باعتبارها صيغة بيداغوجية إعجازية جديدة اكتشفها أخيرا عبقري قلما تجود بمثله السِّنُون. هكذا، تبشرنا النبوءة، مرفوقة بدقات الطبول، بأن هذه الصيغة وحدها هي ما سيتيح للمدرسة أن تخرج من الـمأزق الذي تقوقعت فيه منذ وقت طويل وتنطلق، بالتالي، كي تستجيب أخيرا لتطلعات سائر «المجموعات» المدرسية.
– II –
تكييف الطفل مع محيطه هو «الابتكار» الأخير الذي يقدمه مُدَبِّرو الشأن المدرسي عندنا، وهو يحظى بمريدين يتزايدون يوما عن يوم، ويبشِّرُ – ككل ديانة جديدة – بمستقبل زاهر وعظيم. أكثر من ذلك، يؤكد أصحاب القرار ووسائل الإعلام السياسي أن المكتَشَف النفيس لهو من الفرادة والإجرائية والفعالية بحيث لا يترددون في أن يقترحوا علينا هذه العقيدة الشهيرة للتكييف البيداغوجي باعتبارها منتوجا نهائيا، نوعا من البيداغوجيا الجاهزة التي يكفي المرء أن يمسك مفاتيحها بيديه فلا يبقى له سوى أن يطبقها حرفيا دون أن يخضعها لأي نقد أو مساءلة. وبذلك يحق لعباقرتنا أن يسجلوا ماركة ابتكارهم ويحفظوا حقوق ملكية الاختراع وحق التصرف فيه!
سأجازف بركوب خطر إقلاق مريدي العقيدة الجديدة وتعكير جو الاحتفال، مقترحا بهذه الصفحات الوصول إلى هدفين:
– الأول: محاولة القيام بجينيالوجيا لهذا الاتجاه البيداغوجي الذي يرتكز على ضرورة تكييف الطفل مع محيطه، وذلك بأن أثبت – جهد المستطاع – أن هذا الاتجاه قديمُُ قِدم القرن وأنه، بالتالي، ليس ابتكارا ولا اكتشافا حديثا بقدر ما هو مجرد تكرار ما لم يكن انتحالا مخجلا. بتعابير أوضح، إن الخطاب الذي يُنشَرُ اليوم حول تكييف الطفل مع محيطه ليس سوى صدى أخرص لنظيره الذي كان يتمسك به المستعمِر من قبل.
– أما الهدف الثاني، فيتمثل في مناقشة شرعية قسط من الأفكار التي يـُزَينها المذهب «التكييفي»، وذلك بتقصي هذه الأفكار عبر تحليلها النقدي، للوقوف على طبيعتها الحقيقية وهي أنها مجموعة من الإيديولوجيمات الخادعة والرجعية. بفعل المقاربة السطحية التي يجريها مذهب التكييف للمسألة التربوية وبفعل رؤيته الخطية لقضايا العصر، فإنه يسقط في خطيئة النسيان، إذ ينسى العالم والبشر على حد سواء. لكن، أيمكن أن ننسى بسهولة أن المحيط المباشر لأغلبية طفولة البلد ليس شيئا آخر عدا هذه الحياة الموحِلة، المظلمة، والشاقة التي يواجهها الطفل في كل لحظة منذ خروجه من الكوخ أو المنزل؟ أسيرا عاجزا بين يدي وَسَطٍ يتعالاه ويستوعبه، فهو يستسلم تلقائيا، وبسهولة، كما يفعل آخرون قبله، لإضفاء الديـمومة على وجودٍ رتيب وتكراري، فاقد لكل رونـق. أهذا هو التكيف مع المحيط؟
ما القول وما العمل عندما يكون المحيط وضيعا، غير محظوظ، مُعدَما؟ لا يحتاج المرء أن يكون عالم اجتماع في أيامنا هذه كي يلاحظ بمرارة أن الفقر والإقصاء والبطالة والهجرة القروية والتحضر العشوائي، كل ذلك يشكل تربة خصبة لنمو أشكال العنف المفرط والفظيع الذي يمزق مجتمعنا: الانحراف، إدمان الكحول والمخدرات، السطو والسرقة، تشرد الأحداث، بالإضافة إلى ظاهرة أخرى مخيفة، لكنها ليست مستبعدة، ونعني بها ظاهرة التطرف الإيديولوجي.
يجب بذل مجهود كبير، وعلى أكثر من صعيد، لقلب علاقة التكيف. فبدلا من تكييف الطفل مع محيط عدائي، يجب بالأحرى تكييف هذا المحيط مع طفولة إنسانية الوجه، أي مُلزمة وواعدة..بيد أن الطفل باعتباره كائنا بشريا في صيرورة، يأبى أن يُحصر في محيط محدد نلزمه بالإقامة فيه كما تقيم البهيمة في حظيرتها. إن محيط الطفل لا تحيط به أي حدود، لأن محيطه هو العالم باعتباره أفقَا للإمكانية. ليس من باب الصدفة أن تعلم اللغات، مثلا، يتطلب سنّا مبكرة.
– III –
فلنعد إلى النقطة الأولى للقيام بنوع من الجينيالوجيا لهذه الفكرة
التي تفرض تكييف الطفل بيداغوجيا مع محيطه. ولهذا الغرض سنختار فضاء محدَّدا، هو المغرب الاستعماري، وحقبة زمنية محدَّدة كذلك، من 1912 إلى 1956، وسَندا وثائقيا، هو بعض كتابات جورج هاردي باعتباره منظرا موهوبا للبيداغوجيا الاستعمارية بالمغرب.
لقد عبر ج. هاردي منذ 1917، أي قبل أن يصير مديرا للتعليم العمومي بالمغرب، عن فلسفته التربوية الاستعمارية بهذه الكلمات: «لكي ننجح في تحويل بدائيي مستعمراتنا وجعلهم متفانين في خدمة قضيتنا، صالحين لمشروعنا (…)، فإن الوسيلة الوحيدة المضمونة هي أن نأخذ طفلهم، ونُفتَح له مدارس يهذب فيها عقله طبقا لمقاصدنا»[3].
في سنة 1921، وفي مقالة واضحة بشكل مدهِش، نجد المؤلف نفسه (وقد صار يومئذ مديرا للتعليم العمومي بالمغرب، أي ما يعادل وزير التربية) يعرض تصورا شخصيا للتربية الفرنسية بالمغرب[4]، هو عبارة عن تخطيط للبنية التحتية المدرسية (المدرسة، الإعدادية، الجامعة…) وتنظيم لها بحسب المعايير نفسها التي تقسم وتجزئ مختلف أحياء المدينة المغربية. أما طبقية التمدرس، فستعيد إنتاج تقسيم الإثنيات والطبقات الاجتماعية.
فهو يقــول: «المدينة المغربية فعلا تجميع عرقي عجيبُُ. والأعراق التي تعمرها توجَدُ بدون شك في باقي إفريقيا الشمالية، ليست في أي مكان آخر بهذا التوزيع الجيد، وتعدد العادات والنزعات. في القلب، في المركز التاريخي للمدينة تربض آثار المدينة، الحاضرة الإسلامية: هناك، في الأزقة الضيقة، في الأسواق الصاخبة، في الإقامات الجميلة السرية وتحت قباب المساجد، تحتمي روح البلد. في ظل المدينة، في الملاح، يتكدسُ الحي اليهودي بحيوية رهيبة. خارج الأسوار، تنتشر المدينة الفرنسية، تخترقها شوارع واسعة، مزدانة بحدائق وساحات واسعة بشكل فريد، مسكونة بإقامات جذابة يلمع بياضها بين الأشجار والزهور. أخيرا، في حواشي هذه المدينة الجديدة، تمتد عموما أزقة عمالية، يزدحم فيها العمال، إيطاليين، يونانيين، مالطيين (…)، وإسبانيين بالخصوص»[5].
وهذه الاختلافات يجب أن يطابقها تعاملُُ تربويّ ملائمُُ. يواصل هاردي: «لا يحتاج المرء إلى الإقامة طويلا في المغرب كي يفهم أنه من المستحيل – مؤقتا على الأقل – تطبيق تعامل واحد مع تجمعات عرقية بهذا الاختلاف. من الواضح أن النظام والأمن في المغرب يتوقفان قبل كل شيء على مهارتنا في استعمال كل عرق من هذه الأعراق في اتجاه ومقدار أذواقه وموارده»[6].
يرى هاردي أن المدرسة وحدها هي القادرة على السَّهر فعليا على ما يسميه «توزيعَ العمل الجماعي»[7]. يضيـف: «بعد إجراء تجارب عديدة، وفي جميع المناطق، تعرف [المدرسة] اليوم أي مقاوماتٍ يقوى على إبدائها دمُ الأعراق تجاه أفضل المحاولات التربوية (…): في الواقع، ثمة من المشاكل الدراسية مقدار ما هناك من المدارس أو – على الأقل – مقدار ما هناك من أعراق دراسية. وليس من باب اللعب بالكلمات الدعوة إلى بحث عن حل خاص لكل واحد من هذه المشاكل»[8].
حقا، قد يصعب مناقشة الرأي القائل بأنه يوجد من المشاكل التربوية مقدار ما يوجد من المدارس. (يتعلق الأمر هنا بالتأكيد بوضعيات خاصة في المكان والزمان). لكن الحديث عن مقاومات ذات أصول عرقية، وبالتالي عن مقاربات بيداغوجية خاصة بكل عرق على حدة، معناه المجازفة بصياغة تمثل خاص للدور التربوي الذي تضطلع به المدرسة بالمعنى العصري للكلمة: نفي الاختلافات لتحقيق تكافؤ حقيقي للفرص. إلا أن مقاربة هاردي تفترض أنه وإن كانت هناك مدرسة للجميع تفتح أبوابها لكل فرد، فإن هذا الأخير بحكم أصله «العرقي» سيجد نفسه إما متكيفا داخلها بالطبيعة أو مقصى منها سلفا، بموجب قانون «التصالح مع الوضع أو التعرض للنبذ».
ليس جميع التلاميذ سواسية أمام المدرسة. ودورها يتلخص في شيء واحد: ترسيخ ما ميَّزه على نحو جيد الطبيعة والحياة الاجتماعية.
ولذا، فنحن بعيدون عن المبدإ القائل بضرورة التقاء المدرسـة مع الاختلاف لتضفي عليه قيمة وتوسِّع دائـرة التعلم باسم مبدإ تساوي الجميع أمام التربية. سنكون إزاء جماعات تُعتَبَرُ مختلفة (استنادا إلى الدراسات الإثنوغرافية)، وبالتالي يجب بالضرورة ألا تتساوى أمام التربية. كل مجموعة ستتلقى «تربية مناسبة»، يمكن تحديدها بكيفية مسبقة.
ليوضح هاردي أطروحته، فإنه ينطلق من تأمل في حالة الأهالي أو من يسميهم «العرب-البربر»، ليقف على ازدواجية أصلهم وطبعهم – على حد تعبيره -، وذلك بعد عرض مسهب لإيجابيات حضارتهم: «أرى أن المشكل العربي-البربري يتلخص في ما يلي: تزويد الأهالي بوسيلة مواصلة الحياة في فضاء العالم العصري، تطوير نشاطهم و إمداده بصيغ وأدوات تتيح لهم المردودية الضرورية، مع الاحتفاظ بأفكارهم وعاداتهم الخارجية»[9].
بهذا المعنى، سيكون التعليم المقترح «ذا نزعة عملية صارمة»، إذ سيرمي إلى تحقيق هدف مباشر هو تعليم كل فرد من الأهالي مهنة خاصة. بيد أنَّه في إطار التراتبية التي تحكم المجتمع التقليدي المغربي وفي إطار حتَّى تقسيم العمل الجماعي نفسه، الذي تنحو نحوه الحماية الفرنسية، يجب الحرص كثيرا على عدم إلحاق تشويش كبير بالحياة الاجتماعية. لذا يرى هاردي أنه يجب «الفصل بين تعليم خاص بالنخبة الاجتماعية وتعليم يشمل الشعب برمته»[10].
وضرورة الحفاظ على التراتبية الاجتماعية في مزاولة كل طبقة لوظائف خاصة مناسبة لها، تقودُ إلى إقامة نوعين من التعليم متمايزين:
أ – تعليمُُ للنخبة: يستفيد منه أبناء الأرستقراطية، ويتلقون فيه تعليما عمليا، يرمي إلى استيعاب قواعد التدبير الإداري والتجاري استيعابا منهجيا: «المهن التقليدية للمغاربة الأعيان»، حسب ج. هاردي[11].
ب – تعليم خاص بالشعب: يتنوع بتنوع معطيات الوسط الجغرافي والاقتصادي، ويشمل – على الأقل – المظاهر الثلاثة الآتية:
– في المدن، سيهدف إلى تعليم مهن يدوية أوروبية أو الصناعات الحِرفية التقليدية كالنحاس، والدباغة، والحياكة، الخ.؛
– في الوسط القروي، سيفسح المجال لتعلم الفلاحَة، والغراسَة وتربية المواشي؛
– في المناطق الشاطئية، سيتمحوَرُ حول الصيد والملاحة.
ماذا يمكن أن نستنج مما سبق؟ هل نحن إزاء بوادر تعليم يقوم على التنوع وقبول جميع الاختلافات بشكل متنور أم أننا – بخلاف ذلك – أمام محاولة مخَطَّطة لإرساء تعليم تمييزي يرمي إلى ترسيخ وشرعنة تفاوتاتٍ مرتبطة بتقسيم العمل (أرستقراطية حضرية أو قروية من جهة، ويد عاملة حضرية أو قروية من جهة ثانية)، وبعلاقات قوى بين مُستعمِرين (فرنسيين، أوروبيين) ومستعمَرين (أهالي عرب-برابرة)؟
يـتحاشـى ج. هاردي كل اعتراض، ويعبر عن تصوره علـى النحو التالي: «لن نجبر تعليمنا منذ البداية على نهج توجّهات عملية صارمة؛ سنجعله يخدم تعلم مهنة مَّا وتشبيب النشاط المحلي؛ لكن تفاديا لأن تسبب هذه الصحوة تصدعا في قلب مجموع الحياة الاجتماعية، فإننا لن نُخرجَ الطفل من محيطه. سنكونه في عين المكان، ولن نطلب منه أي شيء آخر عدا إنتاج الفواكه التي كان سينتجها في غيابنا، لكن بجودة أكبر وبغزارة. لذا، لجأنا إلى التمييز بين تعليم للنخبة وتعليم للشعب»[12].
لا يخفى ما ينطوي عليه هذا النمط التعليمي من طبيعة نفعية وبراغماتية علنية. ويمكن الاعتراض بكونه من التخصص الضيق بحيث لا يمكن أن يولِّدَ، عاجلا أم آجلا، إلا أطفالا منغلقين داخل التعليم الذي تلقوه، ومن ثمة محدودين؛ جاهلين جهلا تاما كل ما لا يعنيهم، وبعيدين عن كل فكر تجريدي وكل معرفة نظرية ولو كان من شأنها أن تدعم مجال تخصصهم؛ متجذرين في وسطهم الأصلي، لكن مُغتَربين بشكل فظيع في الأوساط الأخرى التي قد تتاح لهم فرصة زيارتها أو مواجهتها. يُبعِدُ ج. هاردي هذا النقد بصياغة الأمنية التالية: «صحيح، لكي يكون هذا التعليم مثمرا حقا، فإنه يفترض تعليما عاما، يرمي إلى تفتيح ذهن الأهالي الشباب أكثر مما يكتفي بملئه»[13].
إلا أن هذا التعليم الذي يقترحه هاردي يتميز بنزعة وضعيـة خالصة. لنطلع على اقتراحه: «سنربط جميع أنواع تعليمنا بالأشياء والناس المحيطين بالطفل. سنجعل هذا الطفل على صلة بالأفكار التي يأتي بها من المنزل، وذلك بجعل دروس اللغة والأشياء يقتصران على الحياة المحلية، وتمارين الحساب لا تخرج عن حدود الحاجيات اليومية (…)، تنطبق على الميزانيات الصغيرة للبيت المغربي، وهي بيع الخرفان، وحصاد الشعير وقطف الزيتون، الخ.»[14].
لا شك أن مثل هذا التعليم لا يخشى مواجهة السؤال: «لماذا يصلح؟»، إذ سيقال على الفور: إنه مصدرُ خيرات مادية. الظاهر أن هذا النظام التعليمي يلزم المتعلم على الارتباط الوثيق بالبعد الاقتصادي. إذ يلخص حياة الفرد في مدى تحقيقه لمجموعة محدودة من القيم النفعية: إنتاج، مردودية…
إنه تعليم يقوم على مبدأ العزل الجسدي والحجز النفسي. فمن الناحية الجسدية، ليس للطفل أن يغادر وسطه، ومن الناحية النفسية ليس لهذا الطفل نفسه أن يتخيل عوالم أخرى أو أشكال أخرى للوجود ولو داخل اللغة لا غير. بعبارة أوضح، إنه تعليم بدون أفق لأن اللغة المعتمدة في تلقينه نفسها هي لغة اعتيادية وليست نصية. وبذلك، فهو موجَّه كليا – داخل إطار نفعي – إلى تسمية الكائنات والأشياء التي تؤثت الفضاء الاعتيادي لدى الطفل.
يكتب ج. هاردي بمنتهى الوضوح: «الفرنسية التي ندرِّسها مألوفة كليا؛ لا تستدعي إلا كلمات عملية مباشرة، لا تحشو ذهن الأهالي المختلف كثيرا عن ذهننا بدينامية من الأفكار الغرائبية»[15].
أكثر من ذلك، إن هذه الفرنسية ليس لها أية علاقة بنصوص لافونتين، فلوبير وبروست: «فهي تمدّ الصغار بمعجم الحياة المنزلية والمهنية؛ وتتيح للكبار أن يحرِّرُوا تقارير ورسائل إدارية وتجارية»[16].
يبدو الآن واضحا أن ظلالا من الميز العنصري تخيم على مشروع هاردي. وهل الميز العنصري – كما كتب فانكيلكراوط – شيء آخر غيرَ: «حجز الفرد داخل انتمائه، ومعاملتهَ باعتباره «مستهجن الصفات…»، وإنكار قدرته على الاقتلاع من وضعه، سواء تحدَّد هذا الوضع بشكل بيولوجي أو تاريخي»[17].
بيد أنَّ حصر الآخر داخل مجال طوبوغرافي ونظام معياري مُحَدَّدين، هو ضربُُ من الحفاظ على نظام الإغلاق عبر إجراء تجريد مزدوج: تجريد الأنا، أو الهوية، من إمكانية الانفتاح، وتجريد الآخر، أو الغيرية، من قابليته للتحول. وباختصار، سيُرسيِ ذلك الحصرُ عنف الثبـات. أسوأ من ذلك، إن هذه الطريقة في التصرّف هي بوضوح مضَّادة للتربية. نحن بعيدا عن الفعل البيداغوجي الرامي إلى إعطاء المتعلِّم فرصة تجاوُز نفسه واقتلاعها من تربتها المعرفية التي ظلت تراها عادية إلى حين ولوج التمدرس، وذلك للانفتاح على استيعاب معارف أخرى غير مشكوك فيها.
– IV –
من المعترف به أن للمدرسة غاية مزدوجة تستهدف المجتمع والفرد. وما ترمي إليه هو خدمة مصلحة القطبين معا، ولو أنّ البعض يركِّزُ على الفرد دون المجتمع، أو العكس، فيما يحاول آخرون رفع التناقض الذي يبديهما متعارضين في الظاهر.
اعتبارُ الشخص هو المراهنة على طاقاته. أما القيام بـرهان موجب للتفاضل، يرتكز على انتماء الفرد لهذه المجموعة الاجتماعية التي يعلى من شأنها أو يحط منه مسبقا، فهو زرع إجحافٍ تربوي مناهض للديمقراطية أساسا؛ هو تبني موقف إيديولوجي معاكس لنظيره القائل بمساواة الجميع أمام التربية؛ هو رفض للعمل بكيفية تتيح للفرد أن يتفتَّح إلى أقصى حدّ بتشغيله لموارد اختلافاته؛ إنه نوع من الميز العنصري يشكل قاعدة ينهض عليها التوزيع الجهوي لأنواع المدارس؛ إنه حكم سيكولوجي قبلي، لأن الانتماء الاجتماعي في مختلف المناطق يوحي مسبقا بتقسيم التلاميذ، تبعا لأصولهم الاجتماعية والعرقية، داخل المدارس المتوفرة أو تلك التي يتعين بناؤها للسكان اعتمادا على هذا التقسيم.
قد تتبادر إلى الذهن ملاحظة مفادها أن هاردي يعبر، كيفما كان الحال، عن اهتمام جدي بتعليم أطفال الأهالي، وبالتالي فهذا الاهتمام وحده كاف لتسجيل نوع من التقدم بالنسبة للوضع التعليمي في المغرب قبل الحماية. وهي ملاحظة وجيهة حقا. إلا أنه من الضروري تدقيقها بالتركيز على مسألتين أسايتين: الأولى: باعتبار هاردي منظرا ماهرا للمدرسة الاستعمارية، فإنه كان يحاول تأسيس نظرية بيداغوجية قائمة على مبدأ التمركز العرقي. والثانية: باعتبار هاردي نفسه سياسيا متشبعا بيقينيات اليمين الفرنسي التقليدي، فإنه كان يبذل قصارى جهده لزرع وترسيخ رؤية ليبرالية تخدم مصلحة النخبة المستعمرة. وعليه، يبقى أن النزعة النفعية ومشروع القوة الاستعمارية يشكلان محرك خلق المدارس المراد تكييفها مع محيطها.
وسواء أتعلق الأمر بتصور عنصري أو بهدف سياسي أو بمصلحة اقتصادية، فإن النتيجة تظل واحدة، وهي أننا إزاء ثقافة تؤكد تفوقها لأنها مقتنعة بكل وثوقية وتزمت بأنها الوحيدة الجديرة برفع شعار الحضارة والتمدن، ومن ثمة لا غرابة في أن تروح تقرأ سلوكات شعب مغاير في اللغة والذاكرة والحساسية على ضوء قناعاتها وتصوراتها الخاصة. إنها لا تتعامل مع هذا الشعب مُعتبِرة بعمقٍ مغايرته وخصوصياته، وإنما تتعامل معه من خلال التمثلات التي نسجتها عنه والتي تريد إخضاعه لها قسرا. بتعبير آخر، إنها لا تحاول الالتقاء بهذا الشعب كما هو، وإنما كما تريد هي أن يكون. وهذا هو عمق المأساة.
على هذا الأساس، يعتبر هاردي أن المدرسة الاستعمارية ستكون بمثابة الصرح المتين الذي سيشيد على أسسه المجتمع الاستعماري المزمع بناؤه. وبما أن الاختلاف والفرق هما
حجر البناء في هذا المشروع، فإنه لا مناص من تقسيم السكان إلى فئتين هما النخبة من جهة، والطبقات الشعبية، من جهة ثانية.
وهذا التمييـز الصارم بين النخبـة والطبقات الشعبيـة (أو «العامـة»، بتعبير ج. هاردي المفضَّل) لا يجب إطلاقا أن يبقى نظريا محضا، بل يجب ترجمته على أرض الواقع بإنشاء «مدارس أبناء الأعيان»، وهي عبارة عن مُؤسَّسات للتعليم الابتدائي و«إعداديات إسلامية»، ومؤسَّساتٍ للثانوي تفسح المجال لولوج المهن الإدارية والتجارية.
أما الطبقات الشعبية، فهي تُقسَّم إلى ثلاث فئات منفصلة عن بعضها البعض، ليس تبعا لمواردها أو مواقعها في التراتبية الاجتماعية، وإنما بنمط الإنتاج الذي يميز مناطق إقامتها. وبذلك، سنحصل على الخريطة المدرسية التالية:
– بالنسبة للفئات الشعبية الحضرية، مَدارس تسمى «حضرية»، متمركزة حول إعادة التعلم اليدوي.
– وفيما يخص الطبقات الشعبية القروية، اقتراح إنشاء مدارس قروية متمحورة حول إعادة التعليم في مجالي الزراعة وتربية المواشي.
– بالنسبة للطبقات الشعبية القاطنة بالمدن الساحلية، تنشأ مدارس «بحرية» متخصِّصَة في تعلم تقنيات الصَّيد والملاحة[18].
ومثل هذا المشروع غير مُدان في نفسه. اليوم أيضا، يُقتَرَحُ، في مرحلة صار ولوج الشغل أمرا متزايد الصعُوبَة، الأخذ بعين الاعتبار طاقات الجهات في الإعداد المهني – وهذا حتَّى في الأمم المصنَّعَة العصرية. لكن هذا لا يُقرَنُ بفكرة إبقاء قسم من السكان في وضعية شغلٍ بدون أفق مستقبلي عام.
أما فيما يخص البلدان السائرة في طريق النمو، فلاشك أنها خُدِعَت لما كونَّت بعض مواطنيها في التكنولوجيات التي لم يستطيعوا استيعابها ولم تفد في شيء من جهة؛ وخُدِعَت بتعليم مواطنيها مهنا قليلة النفع، بل وحتَّى غير مجدِيَة لتقدم الجهات، من جهة ثانية. وهذا يجب وضعه موضع تساؤل. وهي النية التي يعبر عنها بوضوح ج هاردي في قولة له يذكر فيها أنَّ التصوّرَ التربوي – النظري والعملي على السَّواء – مسكونُُ بهاجس سياسي وإيديولوجي دائم يتمثل في تجنب أن تصير المدرسة «أداة للقلاقل الاجتماعية». يكتب في هذا الصدد: «لكن هاجسنا الكبير هو ألا تصنع مدرسـة أهالي صالحين لكل شيء وللاشيء (…). فقد ظهر أحيانا في مستعمرات فرنسية أخرى أو أجنبية أن تعليم الأهالي يمكن أن يتحول إلى أداة إحداث اضطرابات اجتماعية»[19].
وبذلك فالمدرسة، في رأي ج. هاردي، يجب أن تنظَّمَ كجهاز إيديولوجي تستخدمه الدولة الاستعمارية للتحكم اجتماعيا في «الأهالي» وحراستهم سياسيا. والحماية – ظل الدولة الاستعمارية – تعمَلُ بمثابة آلة كبيرة تستهدف ثلاثة جوانب أساسية:
أ – إخمـاد فتن المناطق المعادية للهيمنة الاستعمارية عسكريا («السيبة» الشهيرة)، وذلك بعدم التردد في استخدام جميع الإجراءات العسكرية، من إفساد، ومحاصرة، وزرع الفزع، واقتراف التقتيل الجماعي…؛
ب – ضبط (بالمعنى الذي يمنحه ب. فاليري لهذه الكلمة: «جعل الفرد مطابقا لضابط مَّا») الفئات الاجتماعية بجعلها، من جهة، نخبا طيِّعَة؛ ومن جهة أخرى، طبقات كادحة نافعة؛
ج – استيعاب ما يسمى بالعرقين «القابلين للاحتواء»، وهمـا العرقين الإسرائيلي[20] والبربري، لتجذير الظاهرة الاستعمارية أو على الأقل لضمان استمراريتها التاريخية ، عاجلا أو آجلا،.
في هذا الاتجاه تشتغل الآلة باعتبارها كلا متجانسا: المدير العسكري أو المدني، المخطِّط والمكلف بإدارة شؤون المقدَّس، كلهم يعملون يدا في يدٍ لتحقيق أهداف تلتقي وتتكامل فيما بينها.
وجدير بالتذكير أن هذه الملاحظات المستوحاة من أطروحات ج. هاردي حول المدرسة، تقودنا إلى اعتبار واقع التعليم الجدير بهذا الإسم واحدا من مراحل ثلاث أساسية، وهي:
– الانطلاق من المشكل كما يتجلى من خلال الوضعيات (الملموسة الخاصة)،
– معالجته تجريديا، أي أجرأة الفكر على ضوء تلك الوضعيات،
– الوصول إلى حل مناسب وأمثل.
ذلك هو معنى الإبستيمولوجيا أو البناء المعرفي، وذلك أيضا هو مشروع استعمال المعرفة. هذا المعنى يُقصي فكرة إفضاء السيرورة إلى وجود عدد محدَّد من الرجال – أغلبية في بعض المجتمعات – لا يكونون سوى منفذين للإيماءة المهنية دون أن يتعلموا كيفية إتقانها على المستوى الفعلي الحركي بناء على مرجعية نظرية..
لم تصل المدرسة الاستعمارية بأغلبية الأفراد إلى هذا الحد، لأنها كانت نخبوية وتجد تبريرها في القبليات الإيديولوجية التي تطبع إرادة القوة الاستعمارية.
– V –
لنر الآن كيف يشيد هاردي عمليا تراتبيته البيداغوجية بناء على قراءة خاصة للتعددية الإثنوثقافية المغربية.
بعد حل مشكلة أصول المجموعة الإسرائيلية المغربية بربطها بأصلها الشديد البُعد، أي بحادث تخريب معبد القدس أو بالاضطهاد الذي تعرض له اليهود في إسبانيا خلال القرن XVIم، يقدم ج. هاردي صورة قاتمة لهذه المجموعة. فهو يرى أن التسامح المغربي أتاح للإسرائيليين أن يستقروا في المدن، لكنه أفرد لهم أحياء خاصة بهم، تسمى الملاَّح. والملاح حيّ تفوح منه رائحة الفقر. أزقته غير صحية، غرفه مكتظة وشديدة الرطوبة. يـردد هاردي هنا – وهذا أمر طبيعي – نفس المقولبات[21] المناهضة للسامية كما مرَّرَتها الاثنوغرافيا الاستعمارية (دو فوكو، جوتيه، بيكارد…).
«أي وسط خصِّص لعرق يا ما عانى من قبل! ثم ها هي الاتحادات الناضجة تتظافر عليه لإضعافه قبل الأوان: الإفراط في تناول الكحول، خشونة الغذاء. وكيف لا نتعجب من كوننا نجد بين جميع شباب الملاح كل هؤلاء العرجى، ومشوهي الخلقة، والنصف عميان، وكل هؤلاء التعساء الذين ليس لهم سوى جلد موبوء فوق عظام نحيفة أومشوَّهة؟ الإصلاح البدني، هاهي المهمة الأولى التي تفرض نفسها لفائدة إسرائيليي المغرب»[22].
ويجب أن يواكب مشروعَ الإنعاش البدني، هذا، مجهودُُ مدروسُُ للتقويم الأخلاقي. فالمغاربة العرب-البربر جعلوا من اليهود «ضيوفا مُهانين». يقول ج. هاردي: «إنهم أشباح كئيبة، مفزوعة، محنية تحت وابل الشتائم والضربات التي يتوقعون دائما تلقيها. لا يرفعون رؤوسهم قليلا إلا عندما يصلون إلى الملاح. ومع ذلك، فقد تمكن بعض هؤلاء المنبوذين، المحبوين بقدرة استثنائية على الصبر، من الاغتناء واحتلال مكانة متفوقة في الحياة الاقتصادية بالبلاد بشكل سري. هذا، وقد وضعت إدارتنا حدا لعمليات النهب التي كان يتعرض لها الملاح دوريا، ووفرت للإسرائيليين، كما لسائر باقي الأهالي، ضمانات ضد تجاوزات السلطة، والتصفيات المشينة. وبذلك، ها هي الفراشة تخرج فجأة من كوخها الحقير المظلم، يباغثها النور المفاجئ، ونظرا لأنها لم تهيَّأ لهذا الانعتاق السعيد، فإنها قد تتحول بسرعةٍ إلى فراشة جديدة-ثرية وإسرائيلية جديدة. بكلمة واحدة، قد تصير ضارة وجد مقلِقة. بيد أنه يبدو بالإمكان التخفيف من حدة هذا التحول المليء بالمخاطر عبر مشروع للتقويم الأخلاقي»[23].
اعتبارا للخلاصات التي قادته إليها تحاليلُه، يقترح ج. هاردي للمجموعة الإسرائيلية تعليما «فرنسيا-إسرائيليا»، يرمي إلى تحقيق أهداف ثلاثة:
– أولا: تقديم تعليم أولي، لكن ضروري، لمبادئ الصحة العامة، لوضع حد لنقصان النظافة الذي «يطبَع» الجماعة اليهودية، حسب هاردي.
– بعد ذلك، تقديم تربية بدنية جدية، منتظمة ومتواصلة، تنصب على الرياضة، أي القيام بتمارين بدنية في الهواء الطلق، وإجراء مراقبات طبية دورية، قياسات الطول والوزن…، وذلك في سبيل القضاء على العاهات البدنية، وإحلال أفراد أقوياء البنيـة مـحل «هـذا
الحشد من النحيفين والبدينين بشكل يرثى له»[24].
– أخيرا، تقديم تربية خلقية وجمالية: الأولى لإرساء أخلاق للرجولة تعلي من قيم الاعتزاز بالنفس وشرف المسؤولية، وذلك للرفع من أخلاق ومعنويات هذه الـ «أشباح الكئيبة، المذعورة»، الخ.. التربية الجمالية ستحسِّسُ الشاب الإسرائيلي المغربي تدريجيا بقيم الشأن الجمالي مجسَّدة في الفن، لأن «الأذواق الجمالية – يستخلص هاردي – ضرورية للتوازن الأخلاقي؛ تثني عن البحـث عن المصالح المباشرة وعن الأنانية»[25].
في مشروع هاردي ثمة اختلاف بين التعليم الذي ينادي به للعرب – البربر والتعليم الذي يقترحه لليهود المغاربة. بالنسبة للأوائل، تعطى الأولوية بالخصوص لـ ترسيخ التقليد والتعلم العملي للمهن اليدوية، على حساب الثقافة العامة والمعرفة الفكرية بمعناها الدقيق. أما بالنسبة للفئة الثانية، فتُجرى محاولة للتغيير الجذري عبر تكثيف الثقافة العامة و – من ثمة – تحديث أنماط العيش في الوسط الإسرائيلي. ومن المؤكد أنَّ هذا الاهتمام البيداغوجي الكبير الذي أحيطت به المجموعة الإسرائيلية يعود، في قسمه الكبير، إلى تأثير الرابطة الإسرائيلية العالمية. يجب التذكير بأن هذه المدارس التي قامت في المغرب منذ سنة 1862، كانت لوقت طويل محمية من قِبل السلطات القنصلية الفرنسية أو من قِبَل إدارة المقيم العام في المغرب قبل قيام الحماية.
هكذا يوظف هاردي الثقافة العامة معيارا للفصل بين الفئات الإثنوثقافية.
فهي بالنسبة للعرب-البربر يمكن أن «تبعدهم عن الواقع»، أن تجعلهم «جيدين للاشيء»، أن تهيئهم لإثارة «القلاقل الاجتماعية». أما بالنسبة للإسرائيلين، فهي وسيلة لتربيتهم أخلاقيا وإبعادهم عن الاضطرابات الاجتماعية التي قد يكونوا جاهزين لها حالما يستعيدون صحتهم أو نموهم البدني. وليس هذا التناقض الظاهري هو التناقض الوحيد إذا قبلنا أن عاملا واحدا نفسه (وهو هنا نمط التعليم) يمكن أن تترتب عنه نتائج مختلفة بحسب حقل تطبيقه.
ونقف هنا على فكرة ضمنية تتمثل في اختلاف طبيعة أعضاء الجماعات السابقة من جهة، والتربية المفروض أنها مناسبة لكل جماعة من تلك الجماعات، من جهة أخرى.
بالنسبة للعرب-البربر، يتعلق الأمر بتربية تختَزَلُ في تكوين نافع، فيما يُترَك الباقي للحياة اليومية كما للعائلة بحسب إمكانياتها. أما بالنسبة للآخرين، وهم الإسرائيون، فيتعلق الأمر أوَّلا بفعل ترميمي تصحيحي، بتعويضٍ عن العجز التربوي العائلي. وبذلك، تعتبَر حاجيات العرب-البربر وحاجيات الإسرائيليين مُمَيَّزتين بالنظر إلى معيش الجماعتين كما يعاينه الملاحِظ.
يرى هاردي أن العنصر الأوروبي يجب أن يخضع لعملية الاستيعاب والفرنسَة. إذ يقول: «معطيات مشكلة الفرنسي الجديد واضحة،إذن، بشكل كامل: كيف نلحق بالأمة الفرنسية، وكيف تبتلع ثقافتنا، مختلف العناصر الأوروبية التي جاءت للمغرب كسبا للقوت، والتي تربطها بتصوراتنا وأذواقنا قرابة أكيدة؟»[26].
وبذلك، سيُدمَج الأوروبيون في مدارس الفرنسيين نفسها لسبيين اثنين مرتبطين بمفهومي الاختلاف والائتلاف، لأنهم على المستويين الإثني والثقافـي أشدّ قربا من الفرنسيين بالمقارنة مع الأهالـي. إنهم أكثر شفافية لاستيعاب كامل.
وبحكم انتماء الأطفال المولودين في فرنسا للنخبة (معمرون، رجال صناعة، ضباط، موظفون)، فهم على موعد مع أفضل التوجهات. وهذا التمييز الذي يخص هؤلاء الأطفال بحظوات مقصورة عليهم لا يُفسَّر، في رأي ج. هاردي، بالمجهود ولا بامتلاكٍ ناتج عن استحقاق طبقي، وإنما بهيمنة القيمة التي يستمدونها من امتياز كونهم محتلِّين. وإجمالا، يسجل هاردي، أنَّه: «ليس لممثلي فرنسا المباشرين في المغرب أن يكونوا أقل في أي شيء من باقي عناصر السكان. وإليهم يجب إسناد – ليس فقط بامتياز الاحتلال، ولكن أيضا بحق قانون القيمة والاستحقاق – الدور المهيمن في إدارة البلد واقتصاده؛ فهم الرؤساء، والأطر المناسبة لجميع العمليات التي تجرى هنا بصرف النظر عن طبيعتها»[27].
ومع ذلك، يجب على الروابط مع البلد الأصلي أن تظل سليمة وكاملة كي لا تنشأ لدى الأجيال الفرنسية المغربية نزعة إقليمية[28] محلية أو ينمو لديهم ميلُُ إلى الانصهار في المستعمرات بحيث يجعلها أجيالا مقتَلعَة الأوطان أو مقتلَعَة الجذور، ناسية المسؤوليات الاستعمارية الكبرى. كما يجب اللجوء إلى ترغيب منهجي للأطفال المنحدرين من فرنسيين مغاربة في تطور المغرب، مع تمسكهم بقوةٍ بالصلة التي تربطهم بفرنسا. وهم سيستفيدون، كباقي المواطنين المقيمين بفرنسا، من نفس البرامج ونفس الأطوار الدراسية، وما أن يحصلوا على الباكلوريا حتى تفتح أمامهم أبواب ولوج كبريات المدارس وأمجدها: البوليتيكنيك، سانت-سير، المعهد الزراعي، الخ.
ويبقى أن ج. هاردي يتمسك بتصوره الأولي، وهو ضرورة أن يستخدَمَ التعليمُ أداة للشرعَنَة، وبالتالي أن: «يعطي لفرنسيي المغرب أقصى ما يمكن من القيمة الأخلاقية، الفكرية، والبدنية، بكيفية تجعل مكانتهم الاجتماعية المرموقة تفرض نفسها ذاتيا وتخصص لهم الدور البارز في سائر مجالات النشاط المحلي»[29].
ونلاحِظُ هنا عملية مزدوجة تتمثل في إلغاء كل فرصة للتميّز عن فرنسيي الميتروبول من جهة، وتقوية الاختلاف عن السكان المحليين من جهة ثانية.
وليس هذا مجرد صيانة للحظوات المشروعة بالانتماء العرقي والجنسية، ولكنه إرساءُُ لطبيعة تأخذ مكانة داخل تراتبية باسم الجنسية. والهدف واضح: إنه سياسي، وإذا بَدَا شخصيا، فلأنه تابعُُ كذلك لخدمة القضية السياسية.
المشروع الوطني والمشروع الاستعماري موجودان معا هنا ليُستخْدَما نقطة تتمفصل فيها المبادرات في حقل المدرسة.
– VI –
يلخص الرَّاحل بول باسكون مجموع مسعى ج. هاردي بهذه العبارات: «ثمة إثنوغرافيا كتَبَها المستعمر، وانتهت إلى وضع اليد على وجود اختلافات جهوية حقيقية، لكن بنية صريحة في استغلال هذه التمايزات للتفريق تحت ذريعة ثبات إثنيات زُعِمَ أنها غير قابلة للاندماج في بعضها البعض»[30].
في مجال القضايا البشرية الهش والشديد الحساسية، يجب على المرء أن يعرف كيف يضفي طابع النسبية على وجهة نظره لتحاشي الوصول إلى استنتاجات نهائية، لكنها مغالية بالضرورة. إن الصيرورة البشرية – المنفلتة، والجسورة، والتي يحول عنصر الحرية دون توقعها – لا يمكن اختزالها ولا الإحاطة بها داخل معادلة على شاكلة ما يُحاطُ بالظواهر الفيزيائية أو الرياضية.
ويبقى أن كل محاولة قانونية، سياسية تهدف إلى تسمير البشر – صغارا وكبارا – في أمكنة محصورة، محدَّدة، على أساس معايير طبقية أو عرقية أو دينية، على أساس المكان الفيزيائي أو إلى الجهة الجغرافية، تظل محاولة تتضمن مزالق كليانية. إنها تشكل مثالا للتشويه القصدي للتجربة الإنسانية، اغتصابا همجيا (بالمعنى الكانطي) لإرادة المعرفـة ورغبة الوجـود.
ترجمة: محمد أسليـم
——–
هوامــــش
[1] اليوسي، الحسن، المحاضرات في الأدب واللغة، تحقيق: محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، 1982، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ص. 202-203. وانظر أيضا:
– Rosenberger, B., 1980, «Culture complémentaire et nourritures de substitution au Maros (Xve – XVIIIe Siècle)», In Annales, N° 3-4, p. 477.
تعذر علينا الحصول على النسخة العربية لكتاب اليوسي، فعمدنا إلى إعادة تعريب نص الإحالة من الترجمة الفرنسية للكتاب نفسه! (م).
[2] اليوسي، م. س.، ص. 203.
[3] Hardy, G., 1917, Une conquête morale, Armand Colin, p. 9.
[4] Hardy, G., 1921, «L’éducation française au Maroc», In La Revue de Paris, N° 8, p. 773-788.
[5] نفســه، ص. 773.
[6] نفســه، ص. 773. (والتشديــد منَّـا).
[7] نفســه، ص. 774.
[8] نفســه، ص. 774. (والتشديد منـا).
[9] نفســـه، ص. 475.
[10] نفســه، ص. 776، والتشديد مِنَّا.
[11] نفســه، الصفحة ذاتها.
[12] نفسـه، ص. 775-776، والتشديد منا.
[13] نفســه، ص. 776.
[14] نفســـه، ص. 776-777.
[15] نفســـــه، ص. 777. والتشديد منَّا.
[16] نفســـه، ص. 777.
[17] Finkielkraut, A., «Sur un vers de racine», In le Monde, 24 Octobre, 1987.
[18] نفســه، ص. 777-778.
[19] نفســه، ص. 778. راجع، أيضا، للمؤلف نفسه:
– Hardy, G., 1939, «Le problème colonial», in Encyclopédie Française, Vol. XV, (Education et instruction); 1934, «Le Maréchal Lyautey et l’enseignement», in l’Afrique Française, N° 8, p. 462-468.
[20] المقصود بالإسرائيليين في هذا السياق اليهود المغاربة لا غير. (م).
[21] ج. مقولب (stéréotype): سلوك مكرر على نحو لا يتغير تعوزه الصفات الفردية المميَّزَة. (م).
[22] نفســه، ص. 779. (التشديد منا).
[23] نفســه، ص. 779.
[24] نفســه، ص. 780-781.
[25] نفســه، ص. 781.
[26] نفســه، ص. 784.
[27] نفســه، ص. 786. (والتشديد منا).
[28]: نظرية الذين يريدون الاحتفاظ بحرياتهم الخاصة ضمن الدولة. (م).
[29] نفســه، ص. 786.
[30] Pascon, P., 1971, «La formation de la société marocaine», in Bulletin Economique et Social du Maroc, N° 120-121.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الجمعة 14-09-2012 12:36 صباحا