Notice: Function _load_textdomain_just_in_time was called incorrectly. Translation loading for the all-in-one-wp-security-and-firewall domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. Please see Debugging in WordPress for more information. (This message was added in version 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
المصطفى شباك: التربية والحداثة: 04 – كوندورصيه ونشـأة التعليم العمـومـي – محمد أسليـم

المصطفى شباك: التربية والحداثة: 04 – كوندورصيه ونشـأة التعليم العمـومـي

1684 views
المصطفى شباك: التربية والحداثة: 04 – كوندورصيه ونشـأة التعليم العمـومـي

I – عناصـر أساسيـة:
1) استعمال العقـل باعتبَـاره إرادة وقيمـة:
لننطلق من تصريح رُوسُو التالي: «لو كنتُ أميـرا أو مشرِّعا لما ضيَّعتُ وقتي في قول ما ينبغي فعله، لأنني إما سأقوم به فعلا أو سألتزم الصمت».
يعبر هذا الاعتراف عن ذلك الإحساس الرهيب بالنَّقص الذي يُعذب دائما المنظـِّر، متمثلا في كونه أحيانا يتكلم كثيرا لأنه عاجز عن الممارسة؛ وكلماته وإن كانت عديدة بل وحتَّى وجيهة، فهي لا تؤدي في أحسن الأحوال سوى إلا نتائج ضئيلة.

يضع كوندورصيه نفسه على هامش هذا الموقع. فهو مُشاركُُ فعلي في حركة ذات أهمية واسعة تتمثل في الثورة الفرنسية، كما أنه نائبا برلمانيا نشيطا. وبذلكَ فهو يُدرك نفسَه باعتباره مشرِّعا، ويدرك وضعه الاعتباري بوصفه رياضيا وفيلسوفا. يمكننا أن نرى في هذا المفكر الفريد التركيبَ النادر للثورة الفرنسية والديمقراطية، للعاطفة والعقل، كما للالتزام العميق والجاد بمبادئ العدل والمساواة واحترام الحريات الأساسية احتراما دقيقا. وهذا التركيب يُسَائلُ زمننا وعالمنا، بمعنى أنَّ ما من تحديث بيداغوجي، مثلا، إلا ويمرّ بالضرروة من رد الاعتبار للبعد الديمقراطي للمدرسة، وإعادة استثمار حقل القيم والفضائل المدَنية ووضع غايات التربية في الحسبان. وهذا المشروع الذي يشغلنا، والذي ننتمي إليه بكيفية أو بأخرى، يجد إلهامه الفلسفي وأساسه النظري في المدرسة علىنحو ما فكر فيها كوندورصيه.

2) النظـام ودوائــره:
ينظر كوندورصيه إلى المؤسسة المدرسية انطلاقا من تصوره للمؤسسة الديمقراطية. وقد دفعت به هذه المقاربة المتميزة إلى خلق صلة وثيقة تكاد تكون تصالبية بين ممارسة الديمقراطية وتعميم المعرفة المتميزة عبر المدرسة العمومية. وعليه، فإن الاقتراع العام سيشكل شرط إمكان التعليم العمومي، في حين سيقدم هذا الأخير الضمانة الأساسية لحماية الاقتراع العام. ويتجلى هذا الارتباط الوثيق بين المؤسستين في المصادرات[1] التالية:
أ – يمكن للاقتراع أن يصير وسيلة لبلوغ الحقيقة أو لتقديرها علىالأقل.
ب – تتوقف صلاحية الاقتراع، في آن واحد، على شكل الانتخاب وتكوين الأفراد المنتخِبين. وشرعية القرارات المتخذة يضمنها، في آن واحد، شكل القوانين وعقلانية الذين يضعونها.
ج – تتوقف عقلانية الأفراد المنتخِبين على درجة تكوينهم. ولذا يجب أن تضمن هذا التثقيف قناة مؤسَّسية. بيد أن التكوين هو في آن واحد وسيلة لتحقيق الأنوار والحرية وعائق لهما.
د – التكوين الذي يُوَلد في الظاهر مجموعة من أشكال اللامساواة، يولد في العمق مساواة عميقة. فهو يجعل البشر مستقلين عن بعضهم البعض بجعلهم تابعين لعقلهم وحدَه.
إن استعمال العقل بكيفية متساوية يُشكل، علىالمدى البعيد، وسيلة فعالة للتقنين، وإلا للقضاء على كل أشكال اللامساواة التي لا يمكن أن تجد تبريرها في العقلانية.
يُفضي هذا النظام، كما هو، إلى مجموعة من النتائج: فهو يفرض نموذجا للمعرفة ومفهوما للمواطِن.
يُكرِّس نموذج المعرفة نفسَه على النحو التالي: يجب أن يتحدَّد موضوع التكوين العمومي في معرفة عقلانية، منفتحة وتحررية. عقلانية لأنه يستحيل إساءة استعمال السلطة مع مواطنين يستخدمون عقولهم. منفتحة، لأنه سيكون من الإجحاف أن «يُسجن» المواطنون ضمن حدود المنفعة العملية. تحررية، لأن مناهضة الاستبداد حركة دائمة لا تنتهي في المكان ولا في الزمان.
مفهوم المواطن: تتصور الأنوارُ المواطنَ باعتباره تفردا واستقلالا ذاتيا. والضرورة التي يوجِّهها هذا التصور، تتمحور حول الشعار التالي: ليكن كل واحد مستقلا عن الآخرين وتابعا لعقله وحدَه. ليكن بمقدرة كل واحد، بغض النظر عن سنه وجنسه وظروفه، أن يستوعبَ نفسَه باعتباره ذاتا عقلانية ويُترجم ذلك ببلوغ اكتماله. وهذا يفترض – إضافة إلى ذلك – أخلاقا يشكل فيها ما يكنه المرء لذاته من تقدير فكري، عاملا قويا للحرية والأخوة والكرامة.

3) التكوين العمومـي والمدرسـة الجمهوريـة:
للإحاطة بفكر كوندورصيه في دلالته وقوته، من الضروري عرضه تبعا لتصوره للتكوين. على العموم، تعتَبر أفكار كوندورصيه الأساسية حول التكوين بسيطة وواضحة:

أ – يجب أن يكون هناك تكوين عمومي.
ويترتب عن هذا المتطلب بالضرورة أن المعارفَ التـي يوفـرهـا
هذا التكوين لن تبلغ غايتها المتوقعة إلا إذا نُظمَتْ [تلك المعارف] تبعا للمشروع الديمقراطي الذي أسسته الثورة. والنتيجة الطبيعية لذلك هي مجانية التمدرس.
ب – يأخذ نظام التكوين شكل درجات أو مستويات، بمعنى أنه يخضع لتراتبية. ونتيجة ذلك هو المنافسة بين قطاعين: تكوين عمومي وتعليم خاص (أو حرّ).
ج – التكوين علماني. وتترتب مفارقة تتمثل في مبدأ حرية التمدرس وعدمه (إجبارية التعَلم وعدم إجباريته).

II – فكرة إنشاء تكوين عمـومي: الأنـوار والثـورة:
يصوغ كوندورصيه مفهوم التكوين في نقطة التقاء تيارين فكريين:
– الأول: تقليدُ الأنوار الفلسفيُّ الذي يتمحورُ حول فكرة تقدم العقل و«قابلية الكمال اللامحدودة» لدى الإنسان[2].
– والثاني: خطابُ الثورة الفرنسية السياسيُّ، وبالخصوص موضوعة حقوق الإنسان ومُوازيها الضروري متمثلا في المساواة.
وبذلك، يندرج فكر كوندورصيه حول التكوين العمومي في إطار نموذج مزدوج يمكن عرضه على النحو التالي:
1) يجب أن يكون التكوينُ عموميا، بمعنى أنه يجب أن ينحدر من «واجب عدالة»[3] الدولة تجاه مواطنيها، وأن يكون مفتوحا في وجه الجميع، لأنَّ هذا التعميم هو ما سيجعل المساواة المصرح بها في القانون مساواة واقعية وحقيقية من خلال التمتع الكامل بالحقوق المعلن عنها في الدستور: «لو كان تفاوت الناس في القدرات الأخلاقية يمنع أكبر عدد منهم من التمتع بهذه الحقوق في كاملها (…) لكان لا طائل وراء الإعلان عن امتلاكهم جميعا حقوقا واحدة»[4].
لتبرير هذه الأطروحة، يقول كوندورصيه «من لا يعرف الكتابة، ويجهل علم الحساب» ليس – ولا يمكن أن يكون – «مساويا للذين أمدَّتهم التربية بمعارف؛ لا يمكنه أن يمارس نفس الحقوق بنفس الاستقلال»[5]. أكثر من ذلك، فالشخص «الذي لايملك ثقافة في القوانين الأولى المنظِّمة لحق الملكية، لا يتمتع بهذا الحق بالطريقة نفسها التي يتمتع بها [الشخص] الذي يعرف [تلك القوانين]؛ إذا اختصما، فإنهما لا يتحاربان بأسلحة متكافئة»[6].
وبذلك يجب علىالتكوين العمومي أن يُكمِل العمل الدستوري عبر منحه جوهرا فعليا، إذ ماذا سَتَكون الحرية والمساواة في أمة شعبُها أمِّي؟ يجيب كوندورصيه «بـكلمات» بسيطة: إن الناس «يعرفون القراءة داخل سَنَنِهم (code) وليس داخل القوانين التي يعرفون كيف يتمتعون بها»[7].
هذه النقطة الأولى توضِّحُ اندراجَ كوندورصيه في حقل التفكير السياسي الذي حصرته الثورة الفرنسية واستصلحته. ماذا عن علاقته بالتقليد الفلسفي الأنواري؟
2) يجب أن يكون التكوين عموميا لأن مثل هذا التكوين وحده هو الذي سيتمكن من «رفع مستوى الأنوار النافعة»[8]، ونشرها في مجموع الجسد الاجتماعي؛ مما سيتيح أيضا للحقيقة أن تتقدم بسرعة أكثر في ارتقائها المستمر واللامحدد نحو ما تقوى على تحقيقه من كمال وإتقان.
هذه الأطروحة تنمِّي نوعا من التطورية[9] التي تنظر في كل شيء من منظور بيولوجي، بمعنى أنَّ التكوين العمومي يجب أن يتيحَ لـ «أعضائنا الفكرية»[10] المكتسبة وراثيا بلوغُ كمال تدريجي: «هكذا، من السهل جدا التفكير في ما يلي: إذا كانت أجيال عديدة قد تلقت تربية موجَّهة نحو هدف ثابت، إذا كان كل واحد ممن يتلقون التكوين قد ثقَّف عقله بالدراسة، فإن الأجيال المقبلة ستولد ولديها سهولة أكبر لتلقي التكوين واستعداد أكبر للاستفادة منه»[11].
إذا ما نظم التكوين العمومي باعتباره عنصرا أساسيا من أجل «التحسين أو الإتقان اللامحدود لجنسنا [البشري][12]، فإنه يخلق روابط بين الناس – جميع الناس – في فضاء المساواة الاجتماعي وفي زمن التقدم البشري في آن واحد. والتكوين العمومي لأي فرد من الأفراد يجعل منه «المتعاون في بناء عمل كوني»[13] ويُلزِمُ البشرية جمعاء.

III – التكويـن والديمقراطيـة: أسـس المشـروع:
1) التكويـن والحـريـة:
لنسجِّل أن المشروع الذي يقدمه كوندورصيه ينطوي على مجازفة البقاء في طور مشروع- حلم، أي طوباويا وغير قابل للتحقيق. بل يمكننا أن لا نرى فيه، بأفضل الفرضيات، سوى محاولة جريئة بالتأكيد، لكن بدون جدوى، لإحلال مذهب جمهوري محل نظيره الذي كان يدرِّسه إكليروس النظام القديم. ولتفادي هذه القراءة المتشائمة، يجب بذل جهد لفهم كيف يتمّ عبر فكرة التكوين العمومي، تمريرُ التركيبَ بين التكوين والحرية، بين العقل والجمهورية، بين المعرفة والديمقراطية.
لنسجِّل أنَّ سيادة الشعب هي النقطة المحورية التي يدور حولها مشروع كوندورصيه في مجموعه. والحالة هذه، إذا كانت السيادة تعود للشعب، فإنه يتعين عليه بالضرورة أن يكون متنورا، ولكي يكون متنورا يجب عليه أساسا أن يتلقى تُكوينا: «استنفدوا جميع الترتيبات الممكنة لضمان الحرية. وإذا لم تشمل هذه الترتيبات وسيلة لتنوير جموع المواطنين، فإن جهودنا تذهب سُدى»[14].
يُعتبر استدلال كوندورصيه الرامي إلى إرساء شرعية العلاقة بين المعرفة والديمقراطية استدلالُُ مقنِعُُ على العموم. لكن يبدو أن ضرورة هذا الرابط لم تحض بالإجماع في القرن XVIII. يسلم بعض الديمقراطيين بأنّه حقا يجب على الديمقراطية والفضيلة (بالمعنى المدني للكلمة) أن تكونا مرتبطتين، لكن هل تتوقف الفضيلة على المعرفة؟
يجيب جان جاك روسو في كتابه «خطاب في العلوم والفنون» عن هذا السؤال بالنفي القاطع. بل إنه يذهب أبعد من هذا في «العقد الاجتماعي» عندما يعتبر أن بناء الإرادة العامة (الديمقراطية) يتوقف على استشارة كل فردٍ لضميره الخاص حيث سيكتشف لا محالة كونية القانون الذي منحته إياه الطبيعة بالفطرة. لا مجال للرجوع إلى أية معرفة مكتسبة مهما كانت مستنيرة.
يتفق كانط مع روسو إذ يقول إن عقلَ الشعب ممتلكَ السيادة هو عقلُُ عملي وليس نظري. فهو لا يقتضي معرفة أو تكوينا سابقا، وإنما يتطلب اتفاقا، تطابقا، تفاهما مباشرا، بدون تدخل أي وساطة (سواء بالمعرفة أو بالتكوين)، لكل واحد منا مع الضوابط التي تحكمه باعتباره كائنا عاقلا (كانط) أومنفعلا (روسو).
وإذن فإمكانية تلقين أخلاق مشتَركة وعمومية إمكانية قابلة للتحقيق. وهذه الأخلاق تساهم على هذا النحو في شرعنة الإرادة العامة. فهي تشجب كل شكل من النخبوية بما أنها تدافع عن المبدإ القائل بأن الملك العمومي لا يكون بأي حال من الأحوال ملكية خاصة محفوظة حكرا على الفرد العالم والمُثقف. ما من إنسان، سواءُُ أكان جاهلا أو مُشبعا بالعلم، قرويا فظا أو بورجوازيا مثقفا، إلا وهو قادر على الرجوع ذاتيا، دون أن يخطئ، إلى معالم وعيه أو إلى استشارة القانون الأخلاقي الموجود بداخله.
هكذا يرسم روسو وكانط سبل الديمقراطية. ذلك أنهما يريان أن جعل الفضيلة تابعة للمعرفة يقودُ حتما إلى تأسيس جمهورية مرغوبُُ فيها بالتأكيد، ويطيب العيشُ فيها أفضل مما كان عليه الأمر في النظام القديم، لكن حكامها سيكونون حتما مستبدين متنورين أو، في أفضل الفرضيات، فلاسفة ملوكا.

2) تصـور سياسـي:
إزاء هذا الاعتراض يقدم كوندورصيه جوابا فريدا في تاريخ الفلسفة، يصوغه في لحظتين:
أ – تتوقف الأخلاق على المعرفة بشكل جذري. يعترف كوندورصيه بأن لكل واحد منا حساسية أخلاقية مباشرة وتلقائية، يمكن إرجاع مرتكزاتها إلى المنفعة، إلى الغبطة، أو – كما عند رُوسُو – إلى التعاطف الأصلي والطبيعي الذي يشعر به كلّ منا، في لحظة أو أخرى، تجاه الكائنات الأخرى.
غير أن هذا الإحساس، في رأي كوندورصيه، يظل في حالة قوة ومن ثم لا يمكنه أن يتحين أو يتحقق إلا إذا انطلقنا من تربية للعقل من شأنها أن ترفع – بواسطة التكوين – ما يسمَّى بالإحساس إلى درجةأخلاقية كونية[15]. و«حب المساواة والحرية» وحده وكذا «الأخلاق الخالصة» لا يكفيان للأسف[16]: «القول بأن الشعب متى أراد أن يكون حرا فهو يعرف ذلك بما فيه الكفاية، هو اعتراف بأننا نودّ خداعه لنجعل أنفسنا أساتذة له»[17].
يرى كوندورصيه أنَّ نقص الأخلاق غير المتنورة يلغي دائما مشروعَ دستور حقيقي يحتـرِم الحريات ويضمن المساواة. ويذكرنا التاريخ بأن الشعوب المحرومة من الأنوار كانت دائما ضحايا مثالية لـ «مكر المستبد»[18].
يُضاف إلى هذا أنَّ التكوين يمكن من خلق تناسق وتوازن في كثافة الإحساس الأخلاقي الذي يحفظه كل فردٍ في قرارة نفسه. ففي الواقع، توجد تباعداتُُ بين الناس في طريقة استخدامهم لشعورهم الأخلاقي. ولاشك أن الرجلَ الكريم والمؤثِرَ تلقائيا والمتأثرَ لعوَز الآخرين لن يكون في حاجة إلى تلقي تكوين متقدم ليتصرف أخلاقيا، في حين سيكون الرجلُ عديمُ التأثر والقاسي، بهذا القدر أو ذاك، في حاجة مَاسَّة لذلك التكوين[19].
ب – يضيف كوندورصيه إلى الحجة النظرية التي لخصناها دليلا آخر سياسيا، يصوغه على النحو التالي: لكي يعيش الاستبداد ويدوم، فإنه يتغذى من قوة المعرفة ومُصادرتها في آن واحد. بتعبيـر كوندورسيه، إن نخبوية المعرفة والقوة هما الثديان المغذيان للاستبداد؛ لا تفعل إحداهما دون الأخرى، وكلتاهما تستدعي الأخرى[20].
الفصل بين المعرفة والفضيلة، على غرار كانط أو روسو، هو تمهيدُ الطريق أوتوماتيكيا للاستبداد. يجب بالأحرى جعل الوصول إلى المعرفة أمرا متاحا للجميع. إن نشر المعرفة وتعميمها سيمكن جميع الطبقات الاجتماعية من التمتع بـ «نور متساو وخالص»[21].
يُدافع روسو في «العقد الاجتماعي» عن ديمقراطية مباشرة. وفي إطار هذا التصور، يقول: إنه يمكن لكل فرد ألا يستشير إلا نفسه[22]. ويشكل الجمع بين كل الاستشارات الفردية الإرادة العامة، بيد أنَّ الديمقراطية التمثيلية لا تقبل هذا المنظور. فالشعب في حاجة إلى درجة دنيا من التنوير ليختار ممثليه اختيارا عادلا ومبنيا على معرفة بالوقائع. لتبرير الثقة التي يفرضها انتخابُُما، يجب على المرء أن يكون متنورا.

3) خـُلاصــة:
على نحو ما هو مُتصوَّرٌ ومُصَاغُ، يَدخل التصور التربوي الرامي إلى تأسيس تكوين عمومي ضمن رؤية سياسية عصرية تتمثل في تأسيس الديمقراطية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: أيهما يسبـق الآخـر، الديمقراطيـة أو التكويـن؟
يرى كوندورصيه أن التكوين ليس مجرد نتيجة للديمقراطية، هو بالأحرى شرطها الذي يتوقف عليه وجودها. بهذا المعنى بالضبط يساهم التكوين العمومي في هيكلة وتوطيد ركني الدستور الجديد الأساسيين، وهما المساواة والحريـة.
التكوين يدافع عن المساواة لأن: «هناك فارق كبير بين الحقوق التي يعترف بها القانون للمواطنين والحقوق التي يتمتعون بها فعليا»[23]. بتعبير آخر، في غياب مساهمة التكوين العمومي لا يمكن لجهل الشعب إلا إن يعيد إدخال التفاوتات التي ألغتها القوانين نظريا، مالم يُبـقِ عليها.
والتكوين العمومي يرسي دعائم الحرية لأنه «هل يمكنُ للإنسان الذي يسقط – لما تنطوي عليه الأنوار من عيب – في التبعية لإنسان آخر، في أفعال الحياة المشترَكة، أن يقولَ فعلا إنه حر؟»[24]. وإذن فوحدَه الفكر المتنوِّر هو الذي يمكنه أن يغتبط بحريته.
ترجمة: محمد أسليـم
***

ببليـوغرافيــــا
1. Sources:
– Condorcet,
1847-49, «Mémoires sur l’instruction publique», in Oeuvres complètes, t. VII, Arago O’Conor.
– Condorcet,
1971, Esquisse d’un tableau historique du progrès de l’esprit humain, Editions sociales.
– Condorcet,
1982, «Rapports et projets de décret sur l’organisation générale de l’instruction publique», in Baczko, B., Une éducation pour la démocratie, Garnier.
2. Commentaires:
– Baczko, B.,
1997, «Condorcet: raison citoyenne et enthousiasme révolutionnaire», in Job, mon ami, Gallimard, p. 354-375.
– Crampe-Casnabet, M.,
1985, Condorcet, lecteur des Lumières, PUF.
– Kintzler, C.,
1984, Condorcet, l’instruction publique et la naissance du citoyen, Gallimard.
——–
هوامــــش
[1] ج. مصادرة (postulat): وهي «قضايا يطلب التصديق بها لحاجة العقل إليها في الاستدلال، وقد سميت بالمصادرات لأن المتعلم يراوَد على التسليم بها دون برهان، مع أنها ليست بينة في نفسها، وهي بهذا المعنى مقابلة للبديهيات (axiomes)، لأن البديهيات بينة في نفسها». نقلا من: د. جميل صليبا، 1982، المعجم الفسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية، بيروت، دار الكتاب اللبناني-مكتبة المدرسة، ج. 2، ص. 380. (م).
[2] Esquisse, p. 77.
[3] Projet, p. 181.
[4] 1er Mémoire, p. 169.
[5] Ibid., p. 170.
[6] Ibid., p. 171.
[7] Ibid., 172.
[8] Ibid., p. 174.
[9] التطورية (évolutionnisme): نظرية اجتماعية متأثرة بالدارويينية ونظرية تطور الأجناس. وهو تيار ظهر في منتصف القرن التاسع عشر في أمريكا وأوروبا، من أبرز ممثليه مورغان، وتايلور، وفريزر. وقد كان أصحابه يؤكدون على فكرتين أساسيتين، هما: التطور، والتاريخ. للتطور عندهم أهمية، بمعنى أن المجتمعات البشرية تتطور من مراحل دنيا إلى مراحل عليا، وبالتالي فلفهم المؤسسات والظواهر الثقافية الحالية ينبغي الرجوع إلى تاريخها، إلى أشكالها البدائية، بمعنى أن الجنس البشري يتطور تدريجيا، وبالتالي يمكن تصنيف كل المجتمعات الموجودة بحسب مرحلة التطور التي وصلت إليها. كما كان يضع أصحاب هذا الاتجاه المجتمع الغربي باعتباره حقلا نهائيا للتطور. وهكذا قدموا خطاطات عديدة لتطور الإنسانية، فرأى مورغان أن المجتمعات البشرية تجتاز ثلاثة مراحل على التوالي، هي: مرحلة الوحشية، ومرحلة البربرية، ثم مرحلة الحضارة، ورأى تايلور أن الديانات تتطور من مرحلة الإحيائية، إلى شعائر عبادة الطبيعة وتعدد الآلهة، لتصل بعد ذلك إلى عقيدة التوحيد، كما رأى فريزر أن المجتمعات البشرية تتطور من السِّحر إلى الدين، فالعلم، الخ.. لمزيد من التفصيل يمكن العودة لسائـر أدبيات مبادئ الأنثروبولوجيا. ويمكن أن نذكر منها على سبيل المثــال
– L’Anthropologie, (s. d.), origines, développement, concepts, oeuvres, théories, Paris, ED.MA;
– Evans Pritchard, 1967, Anthropologie sociale, Payot;
(ترجمه إلى العربية حسين قبيسي، 1986، تحت عنوان: الإناسة المجتمعية. ديانة البدائيين في نظريات الأناسيين، بيروت، دار الحداثة، الطبعة الأولى)؛
– François Laplantine, 1971, Clefs pour l’anthropologie, Seghers, 1987;
– Robert Lowie, 1971, Histoire de l’ethnologie classique des origines jusqu’à la 2ème guerre mondiale, Paris, Payot;
(ترجمه إلى العربية نظير جاهل، 1992، تحت عنوان: تاريخ الإثنولوجيا من البدايات حتى الحرب العالمية الثانية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع)؛
– Jean-Paul Colleyn, 1988, Eléments d’anthropologie sociale et culturelle, Edition de l’université de Bruxelles;
– د. حسن فهيم، 1986، قصـة الأنثروبولوجيا، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت؛ جاك لومبار، مدخل إلى الإثنولوجيا، ترجمة حسـن قبيسـي، 1996، بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى. (م).
[10] 1er Mémoire, p. 181.
[11] Ibid., p. 182.
[12] Ibid., p. 182.
[13] Ibid., p. 183.
[14] Vème Mémoire, p. 38.
[15] 2ème Mémoire, p. 234-235 et p. 251.
[16] Projet, p. 256-257.
[17] Sur la nécessité de l’instruction publique, p. 440.
[18] Ibid., p. 440.
[19] 2ème Mémoire, p. 236.
[20] 1er Mémoire, p. 171; Esquisse, p. 113.
[21] Esquisse, p. 108.
[22] «n’opine que d’après lui»: Rousseau.
[23] Esquisse, p. 259.
[24] Sur la nécessité de l’instruction publique, p. 440.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الجمعة 14-09-2012 12:44 صباحا

Breaking News