Notice: Function _load_textdomain_just_in_time was called incorrectly. Translation loading for the all-in-one-wp-security-and-firewall domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. Please see Debugging in WordPress for more information. (This message was added in version 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
المصطفى شباك: التربية والحداثة: 01 – تقديـم – محمد أسليـم

المصطفى شباك: التربية والحداثة: 01 – تقديـم

1919 views
المصطفى شباك: التربية والحداثة: 01 – تقديـم

في غياب مشروع اجتماعي واضح المعالم، لم تستطع دول المغرب العربي[1] أن تحسم بين الحداثة والتقليد أو تشق لنفسها طريقا وسَطا أصيلا. واليومَ صار التقليد مرادفا للإقصاء والخضوع. والانخراط في الحداثة لا يعني فقط استعمال المكتسبات التقنية والعلمية، ولكن أيضا الانفتاح على القيم الديمقراطية. هنا يكمن الشرط الأساسي للهجمة العنيفة التي تشنها الأصوليات التي يغمرها الحنين إلى إسلام البدايات.

يمكن القول عن المغرب إنه يشبه من نواح عديدة تلك الشجرة الأسطورية التي يصفها القرآن باعتبارها «ليست شرقية ولا غربية»[2] وحيث إنَّ خاصية الأسطورة تكمن في إرادة التعالي عن الزمن، فإن المغرب العربي – كما العالم العربي – يُنكرُ، بالرغم من التاريخ، تلك التحوّلاتِ التي أصابته وتصيب دائما صيرورته، وذلك بالتشبث بديمومة «هوية» يتمناها أصيلة ثابتة خالصة، لكنها مستحيلة استحالة البـراءة.

يجب القول، باديء ذي بدء، إن هذا البحث الدؤوب عن أصالة مستحيلة هو خاصية عامة لسائر المجتمعات التي خضعت للسيطرة الأجنبية. والمواجهة مع الآخر الذي يُدرَك بمثابة وحدة مختلفة جذريا توَلد قيم الانطواء على الذات كما تولد إيديولوجيات الأبواب الموصَدة متمثلة في النزعة الوطنية، والتمركز العرقي، والأصولية التيوقراطية، الخ. ومن ثمة، فهذا الانبثاق للخيار الإسلامي في المغرب العربي الراهن لا يمكن تفسيره إلا بعوامل داخلية المنشأ وهي: الأزمة الاقتصادية، وعيب نماذج التقدم، ثم غياب الديمقراطية طبعا[3].
ثمة نزعة اختزالية تبسيطية لا تأخذ بعين الاعتبار معطيات التاريخ. فعنصر الأزمة المعمَّمة التي تطبع منذ عقودٍ (ثلاثة في المتوسط، وهو معادل استقلال تونس والمغرب والجزائر على التوالي) المجتمعاتِ المغاربية تظل بعيدة عن أن تفسر بمفردها الوضعية الراهنة. ذلك أنَّ هذه الأزمة نفسها، مشروطة من نواح عديدة بعامل له مغزى أساسي، يتمثل في اللقاء مع الغرب. لقد تمَّ هذا اللقاء أوَّلا عبر الهيمنة الاستعمارية، ثم بواسطة عولمة القيم التقنية-العلمية وقيم فكر «الأنوار». ونظن أن المواجهَة مع العالم الحديث تشكل النواة التي بلورت كل هذا الجمود السائد في المغرب العربي في أيامنا هذه. فالمغرب العربي – شأنه شأن العالم العربي عموما – لا يعتبر نفسه ولا يتصورها إلا بالمقارنة مع الغرب باعتباره اتجاهـا للحداثة.

1. مسألة الدولة الوطنية ونموذج التخلص من الاستعمار:
بعد الاستقلال مباشرة، طُرحَ في المغرب العربي مشكل أساسي يتمثل في مسألة الدولة – الأمة. كانت الذاكرة الوطنية لا زالت حبلى بذكريات آثار الاختبار الاستعماري العسير. وبرأي مدبري الشأن العمومي أن على الدولة «المستقلة» أن تمثل نوعا من ورقة العمل أو قاعدة صلبة يمكن أن تقوم عليها إعادة البناء الوطني. ولأجل ذلك، يتعين على السياسة «الجديدة» أن ترمي إلى تحقيق هدفين أساسيين: يجب على الدولة أن تدخِلَ تحولا على الماضي الاستعماري، وأن تحافظ على ديمومة الميراث الثقافي والروحي الوطني.
وهذا الهدف المزدوج غير قابل للتحقيق، في نظر الوطنيين المغاربيين، إلا إذا نجحت الدولة في الاشتغال بحسب المبدئين التاليين: أن تعمل في تجانس مع باقي المؤسسات الوطنية (العائلة، الدين، التربية، الخ.)، وأن ترتكز على مبدأ المركزية بفرض نفسها والحفاظ على تماسكها باعتبارها مؤسسة وطنية عمومية وموحّدة.
هكذا يُلاحَظ أنَّ هذا التصوّر للغاية السوسيوسياسية للدولة كان يتحدد أساسا بتثبيت[4] قوي على الماضي. كما يتضح أنَّ منظور المستقبل – في أذهان من يتقلدون زمام الحكم – باعتباره تشييدا تقدميا قد ظل مُعلقا وغير مُفكر فيه. وما كان يُرَادُ في المقام الأوَّل هو إحداث قطيعة مع الماضي المفروض من قِبل أولئك الذين جاؤوا من الخارج. وكان يُعتَقد بسذاجة أن مثل تلك القطيعة كان كافيا إلى حد كبير لمواجهة المستقبل[5].
لا شـك أنَّ الحماسة المناهضة للاستعمار تستوجب جرأة كبيرة، لكنها تتضمن أيضا وَهَنا كبيرا، فراغا وشكا. ومن المسافة الزمنية التي تفصلنا اليوم عن تلك المرحلة، يمكننا ملاحظة أنَّ مسألة التقدم قد تبدَّت ليست بالسهولة التي كانت تُعتقد. فقد فرضت مجموعة من الظواهر غير المتوقعة نفسها دفعة واحدة، مكذبة بذلك جميع التخمينات والتخطيطات السابقة: نمو ديمغرافي سريع، بنية تحتية اقتصادية ضعيفة، تفاوتات جهوية واجتماعية صارخة، تمدرس لا يستجيب لمتطلبات المحيط ولا لتحديات الزمن الحاضر، الخ.
للوهلة الأولى، يمكن تفسير الصعوبات المواجَهَة بنوع من الهواية (أو غياب الاحتراف) في ممارسة الحكم. أكيد أنَّ غيابَ الاتصال بمشاكل الإدارة والتخطيط لدى البيروقراطيات الوطنية في الدول حديثة العهد بالاستقلال، قد تمّ استشعاره بقوة، لكن هذا العنصر وحده لا يفسر كل شيء. إن ما افتقرت إليه الطبقة المسيرة الجديدة بالأساس هو فلسفة اجتماعية مصاغة صياغة جيدة أو مشروع مجتمع محدَّد تحديدا جيدا. وهذا الغياب تم الإحساس به بقوة، بحيث لم يتردَّد سمير أمين في إصدار حكم قاطع بشأن الحزبين الوطنين التونسي (حزب الدستور الجديد) والمغربي (حزب الاستقلال) اللذين قادا الحكومات الأولى، كلّ في البلدين، غداة الحصول على الاستقلال: «إن حزب الدستور الجديد وحزب الاستقلال على السواء لا يزعمان بأنهما شيء آخر غير حزبين وطنين. فالاستقلال السياسي هو مطلبهما الوحيد، وهما لا يتوفران على فلسفة اجتماعية خاصة، وعلىالصعيد الاقتصادي والاجتماعي، لا يحملان نقدا جوهريا للاستعمار»[6].
كان من شأن زعم الاستقلال السياسي وإرادة إعادة البناء الوطني أن يجبرا مدبري الدولة الوطنية الجُدُد على إنجاز صياغة واضحة وجلية لـ خيارات جديدة للمجتمعين، بمعنى أنه كان يجب إيجاد علاقة بين نموذج المجتمع المنشود ونوع السياسة المبجَلة أو الممارَسَة. وأقل ارتخاء يساهم في قطع هذه العلاقة من شأنه أن يؤدي بالضرورة إلى انهيار البناء الاجتماعي بكامله. وبذلك تصير مسألة غايات التدبير السياسي وتفسيرها لا مفر منها. التساؤل عن «نحو ماذا» أو عن «لماذا» نحكم شعبا مَّا، هو جواب عن السؤال الأساسي الذي يمنح للمشروع السياسي كل دلالته، وبالتالي للمستقبلية الاجتماعية الذي تسنده وتعضده.

2. ازدواجية «تقليد / حداثـة»: رؤية للعالم غامضة:
كان النظام السياسي المغاربي يُدرَك إجمالا في الظواهر وغالبا في تمثلات المسؤولين (رغم اختلاف ظاهري في اللهجة بين ماركسيي جبهة التحرير الوطنية الجزائرية ومحافظي حزب الاستقلال المغربي أو حزب الدستور الجديد بتونس)، باعتباره نوعا من الـمُنصِّف[7] بين التقليد والحدَاثة. نتيجة لذلك، نلاحظ أنه لم يتم إجراء أي اختيار حاسم لصياغة مشروع مستوحى كليا من التقليد (أيمكن القيام به حقا؟) أو متمحورا كليا حول الحداثة. زيادة على ذلك، يُلاحَظ – وواقع المغرب العربي الراهن لا يشهد للأسف الشديد سوى على وضعية السبات هذه المعمَّمَة – أن المغرب العربي لم ينجح خلال ثلاثين سنة في إجراء اختيار حصري ولا تناوبي، ولا تركيبي [بين التقليد والحداثة].لدرجة أنه صار بالإمكان تفسير تكوين النظام السياسي المغاربي في مجموعه باعتباره تاريخ تحول مستحيل، أي تاريخ استحالة اختيار بين التقليد والحداثة أو – أيضا – استحالة إيجاد صيغة أصيلة للموازنة بينهما.
بماذا يُفسَّـر هذا الطريق المسدود؟ ذلـك هو السؤال الذي سنحاول الإجابة عنه من خلال فك رموز الخلفية الإيديولوجية التي تساهم في الإبقاء على التوتر المعلن بين هذين العالمين المتمثلين في التقليد والحداثـة.

3. مفهوم «الحداثـة» في الإيديولوجيا المغاربية:
عديدون هم المصنفون والنقاد الذين يركزون على «انعدام فعالية» مناهج ونماذج التنمية الغربية المطبقة، عن صواب أو عن خطإ، في المغرب العربي. وهم غالبا ما يفسرون عدم الملاءمة هذه بكون ذلك النوع من البيانات التخطيطية يخصّ بنيات الغرب النفسية الاجتماعية والتاريخية الثقافية. وهذا الاقتران البسيط يعتبر كافيا إلى حد بعيد لتجريد تلك النماذج من أهليتها دفعة واحدة ودون أدنى تمحيص.
تكمن إيجابية هذا الحكم في كونه يؤكد التخمين القائل بأن ما من محاولة لإدماج الظاهرة السوسيوثقافية المغاربية في النظرية الغربية للتنمية إلا وينتظرها فشل محقق. وحاصل الكلام أنه حكم يعبر عن حقيقة واقعية، لكن بالنظر فيها عن كثب يمكن القول إنه حكم ليس محايدا تماما لأنه يرتبط بكيفية مباشرة أو غير مباشرة بأطروحة راسخة في الأوساط المحافظة، تؤكد أن واقع الأهالي يستعصي على كل تنظيم نظري أو ممارسة علمية حديثة. ولدحض هذه الأطروحة من الضروري الإشارة إلى عنصرين لهما قيمة إبستمولوجية حقيقية:
أولا، يبدو لنا أن «الفشل» الملاقى في محاولة تطبيق نظريات حديثة (المقصود بـ «حديثة» في مُصطلحات الأوساط التقليدية المغاربية هو «أجنبية» و«غربية») علىالوضعية السوسيوثقافية المغاربية لا يكمن في مقاومة مزعومة للظواهر تجاه المفاهيم، بل على العكس يكمن في غياب أجرأة المفاهيم باعتبار الوضعيات والظواهر في خصوصياتها، أي في عدم اكتمالها. لا شيء دالُُ في كل ما يُقتَرح. والخطأ يكمن في نوع من التقديس الذي تحاط به النظريات إذ يُنظر إليها باعتبارها مطلقة وثابتة في أجرأتها النوعية، قابلة دائما لإعادة الإنتاج بطريقة وشكل واحدين.
ثانيا، إن سبب العجز المزعوم، بل إفلاس نماذج التنمية المطبقة في المغرب العربي، لا يعود بالضرورة إلى عدم تكيف أصلي لكل تجديد غربي مع وسط الأهالي العصي والمقاوم للاستيعاب «الأجنبي»، إذ في ما وراء ذلك، ثمة صدمة منظورين للمعارف والقيم، أحدهما غربي والآخر شرقي، دون أن ننسى التباعد الفاغر بين بنيتين أخلاقيتين غير قابلتين للقياس بالوحدة نفسها. ومن هنا، يبدو أنه عندما يتم نقل الحداثة، باعتبارها شبكة من السمات الحضارية والأشكال الفلسفية، من سياق عصري (أوروبا، أمريكا الشمالية)، فإن كل شيء يتم وكأنها ألقيت في أرض قاحلة جذباء. والوعي بالهوة الفاصلة بين السياقين هو الأصل هنا في سوء التفاهم الحتمي. فبفصل ما يسمى بـ «التنمية» عن مرتكزاتها الفلسفية كما صيغَت في الغرب الحديث، تُختَزَل [هذه التنمية] في المغرب العربي إلى تعبيرها الـ «براغماتي» الأكثر سطحية، وبذلك يتم إخضاعها – فيما يبدو – لروتين عميق وعقيم، يوجهها نحو استعمال محدود في مهارات، ووصفات؛ ومن ثمة هذه المحاكاة الملاحظة لدى النخب المغاربية. كما أن خلفية مجموع المعارف والمعتقدات والقيم التي تسند وتعضد التقنيات لا تؤخَذ بتاتا بعين الاعتبار، بل يتم إخفاؤها لكي لا تلحق بالمذاهب السحيقة في القدم أي انقلاب.
ومن المعروف أنَّ التصورَ المنفعي الوسائلي[8] للحداثة في المغرب العربي، يرتبط بتصوّر إيديولوجي عميق راسخ بعمق في العقلية العربية منذ ظهور الحركة السلفية في نهاية القرن الماضي[9]. فمنذ ذلك الحين والعرب عامة يتطلعون إلى حداثة جاهزة، أي «ممسكين بمفاتيحها في أيديهم»، على حد التعبير البارع للأنثروبولوجي مالك شبل[10]. بيد أن الاستعمالَ الفجّ (بدون مرتكز ولا هدف) الذي يحصر الحداثة في بعدها التقني، يفضي مُجدّدا لإبداع – ما لم يفض إلى تجذير – حقل هرطقي من الاعوجاجات العقلية والنفسية والسلوكية.
من الواضح أنَّ التجديدات التكنولوجية التي شهدها العصر الحديث هي في الواقع تتويجُُ لمسار تاريخي طويل واستثنائي، وأنها من ثمة ترتبط بمفاهيم أخرى (الحق، الحرية، المساواة، الخ.) ظهرت في الساحة العمومية بالغرب الحديث. وإرادة زرع هذه الابتكارات – على افتراض أن هذا ممكن – يقتضي مسبقا إجلاء العراقيل المرتبطة بالتقليد؛ أي لهذه الحواجز نفسها التي لا زالت حتى أيامنا هذه تُعلى إلى معايير تتحكم في معارفنا وسلوكاتنا، توجهها وتراقبها. ومعنى هذا أنَّ عمليات التحديث تعاني اليوم في المغرب العربي من عجز مفاهيمي أساسي يتمثل في أن كل التقنيات والإجراءات المستعارة من «النماذج الأجنبية» لاتجد في أغلب الأحيان أيَّ سند حقيقي في الواقع. ما أن تقتَلَعُ من سياقها حتى تتبدى عديمة الإجرائية.
يتعين علينا الآن أن نحدِّد هذا السياق الذي أتاح انبثاق خطاطة فكرية وكوكبة من القيم مرجعُهما الحداثة، لأن هذا التحديد هو ما سيتيح فهم المواجهة بين سياقي القبول والرفض.

4. الحداثــة باعتبارها نموذجا كونيــا:
يبدو لنا من الضروري الإشارة إلى الاعتبارات الأساسية التاليـة:
يُظهر تحليل المجتمع المغاربي ما يلي: لقد خلق تداخلُ مرجعين في المجتمع، هما التقليد والحداثة، صدمة صراعية ترتب عنها فقدان هذا المجتمع لتوازنه. متأرجحا بين هذين الحقلين المرجعيين، لم ينجح المجتمع المذكور في شق طريق لنفسه كي يتجاوز المفارقة التاريخية التي تعتمل فيه داخليا كما لم يستطع أن يتمسك فقط بما ظل إلى الأمس كافيا له. بمعنى أنَّ هذا المجتمع كان في الحقبة ما قبل الاستعمارية أكثر تناغما وأكثر «سعادة». كان التناغم يرتكز إجمالا على المعادلة التالية: مع عالم قديم أو ما قبل حداثي كانت تتناسبُ، بمقتضى ضرورة التوازن، رؤية ماضوية أو تقليدية تنقل كما هي جيلا عن جيل. كان للبشر إمكانية أن يكونوا أهل زمنهم وأهل وسطهم، ومن ثمة أن يعيشوا في اتفاق مع التمثلات الخاصة بالعالم المحيط بهم. هذا الاتفاق السلبي لم يكن بإمكانه أن يستمر إلى ما لانهاية دون أن تلحق به توالي الأحداث أي إفساد. كانت أوَّلا التجربة الاستعمارية بمشروعها الرامي إلى استيعاب المغاربيين ومحو الهوية العربية البربرية المسلمة من المغرب العربي. وكردّ فعل عن هذا المشروع كانت هناك الأطروحة الوطنية الرّامية إلى تشييد مجتمع شوفيني. وقد ترتب عن هذين الشرخين ظاهرة جديدة تتمثل في استبدال تناغم الماضي الذي كان يقصي كل مراجعة أو تشكيك، بوضعية تنافر صارخ. فقد ولَّد إدخال الاستعمار التحديثَ – تحديثا سطحيا بالأساس – كما أحدث صدعا بالبنية التقليدية للمجتمع المغاربي. فهذا الأخير لم يبق هو نفسه ولا صار مجتمعا آخر: صار بالأحرى ضعيفا وصارت صورته عن ذاته مفسوخة. وهنا مَكمَنُ المشكلة في نظرنا.
في الواقع، يواجه المجتمع المغاربي على الدوام مشكلا عصيبا يتمثل في الرغبة في تحقيق التطور المنشود، أي هذه التنمية التي يعرفها العالم الحديث والمفروضة على كل شعب لم يعد بوسعه البقاء ما لم يرتبط بعلاقات مع العالم الخارجي. وهذا يفرض، طوعا أو كرها، تحديثا شاملا وصارما، في سياق خاص، علما بأن الحداثة الغربية تفرض نفسَها باعتبارها حلا كونيا عبر عملية مُزْدَوجة: أوَّلا لأن التصورات والنماذج والقوانين التي بلورتها في العلوم والتقنيات تفرضُ ذاتها. والفلسفات الاجتماعية صار بإمكانها أن تكون متقاسمة كونيا بين البشر قاطبة في سائر المجتمعات، والضرورة الديمقراطية فرضت قبولها باسم آثارها التي غدا بإمكان كل فرد أن يدرك آثارها[11]. ثم – ثانيا – لأن هذه الحداثة تميل – في منظورها نفسه وبإرادة القوة التي تخدمها – إلى فرض ذاتها على الصعيد العالمي، بحيث صار المرءُ إما أن يكون آخذا أو مقصى وخاضعا. الدخول إلى الحداثة هو الدخول إلى التنمية، إلى نيل اعتراف الدول المتقدمة، إلى القوة التي يمنحها التقدم، هو الإفلاتُ من العيش تحت الهيمنة والاستغلال والخضوع لمن بملكون زمام القوة الاقتصادية والقدرة على تحقيق مزيد من النمو بفعل هذه القوة نفسها.

5. فـي ضـرُورَة الانفتـاح علـى الديمقراطيـة:
وبذلك يُعاش الوضعُ داخل توتر حقيقي بحيث يمكن أن تقع الحياة، داخل شعب غير حديث تحت طائلة الاختناق بفعل ممارسة سلطة كلياتية. بيد أن هذه الحياة نفسها ستنبعث بفعل الأحداث الطارئة واللقاءات الحتمية مع الدول الحديثة، إذ سيُرغَم محظوظو السلطة على إدخال التغييرات التي ستشكل أعمدة للحداثة. وتمثل حرب الخليج الأخيرة، بما خلفته من آثار، ضرورة تفتحٍ مَّا على الممارسة الديمقراطية. إذا لم تأخذ النخب المغاربية هذا المنظور بعين الاعتبار، فثمة أصولية متخلفة ستجد جميع الأعذار الممكنة لكي تختزل الحداثة إلى مجرد تعبير عن عنف غربي متلَقى ومعيش، على المستوى الرمزي بالخصوص، باعتباره رضَّة[12]، جرحا نرجسيا يشج الهوية. ومرة أخرى، ستكون جميع الأعذار صالحة لتمجيد الحنين إلى الأصول، والعَودة إلى الطاقة المغذية لإسـلام البدايـات المستحيلة.

ترجمة: محمد أسليـم
——–
هوامـــش
[1] يستعمل المؤلف اسم المغرب العربي هنا بدلالته الخاصة التي يقصد بها المغرب والجزائر وتونس، في مقابل الاستعمال الآخر الذي يدرج موريتانيا وليبيا اللتين التحقتا حديثا بهذا المجموع الذي صار يدعى اتحاد دول المغرب العربي. (م).
[2] نص الآية هو: «الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية…» (النور: 35). (م).
[3] راجع على سبيل المثال:
– Arkoun, M., 1984, «Islam et développement au Maghreb», in Pour une critique de la raison islamique, Paris, Maisonnoeuve & Larose; 1992, «La seconde libération au Maghreb», in Le Monde Diplomatique, mars; Salamé, Gh., 1991, «Sur la causalité d’un manque: pourquoi le monde arabe n’est-il pas démocratique?», in Revue française des sciences politiques, Vol. XLI, N° 3.
[4] التثبيت (fixation): مصطلح ينتمي إلى حقل التحليل النفسي، ورد في تعريفه: «تصادف فكرة التثبيت باستمرار في مذهب التحليل النفسي لتبيان هذا المعطى الصريح للتجربة والذي يتلخص في أن العصابي خصوصا، وكل كائن إنساني على وجه العموم، يظل متأثرا ببعض التجارب الطفلية، ويستمر متعلقا بشكل متفاوت في خفائه ببعض أساليب الإشباع، وببعض أنماط الموضوعات أو العلاقات الأثرية؛ ويشهد التحليل النفسي على سطوة وتكرار التجارب الماضية، كما يشهد على مقاومة الشخص للتخلص منها…». انظر:
– J. Laplanche et J.-B. Pontalis, 1967, Vocabulaire de la psychanalyse, Paris, PUF., p. 161.
أو: جان لابلانش وج. ب. بونتاليس، معجم مصطلحات التحليل النفسي، ترجمة د. مصطفى حجازي، 1987، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والتوزيع والنشر،، ط. 2، ص.153. ومنه نقلنا الفقرة السابقة. (م).
[5] حاصل الكلام أن المستعمَر مُحدَّد بتثبيته على الماضي.
[6] Amin, S., 1966, L’économie du Maghreb, Paris, Minuit.
ونلاحظ أن سمير أمين، بتعاطف إيديولوجي، لا يذكر جبهة التحرير الجزائرية، فاسحا المجال لانطباع بأنها كانت تتوفر على مشروع مجتمعي.
[7] خط يقسِّـم الـزاويـة إلـى شطـريـن.
[8] الوسائلية: مذهب فلسفي يقول بأن الذكاء والنظريات هي وسائل للعمل. (م).
[9] في هذا الصَّدد، راجع:
– Berque, J., 1974, «Lieux et moments du réformisme islamique», in Maghreb: histoire et sociétés, Gombloux/Alger, Duclot/Sned; 1962, «Cà et là dans les débuts du réformisme religieux au Maghreb», in Etudes d’orientalisme dédiées à la mémoire de Lévi-Provençal, Paris, Maisonnoeuve & Larose; Charnay., J.-P.; 1966, «Courants réformateurs de la pensée musulmane contemporaine», in Normes et valeurs dans l’Islam contemporain, Paris, Payot; Laroui, A., 1967, L’idéologie arabe contemporaine, Paris, Maspéro.
[10] Chebel, M., 1987, «Modernité clés en main», in Le Monde, 19 Juin.
[11] يجهل العرب ظاهرة أساسية وهي أن الحداثة قد أعادت النظر بعمق في الضوابط التقليدية للـفكر والفعل. والحال أنهم يحبون أن يقبضوا دون أن يقدموا شيئا، يريدون النوى دون لحاء. كذلك حراس الدولة البوليسية يحبون الاغتباط كثيرا بالرفاهية التي تمنحهم إياها الحداثة متصوَّرة باعتبارها منتوجا «جاهزا للاستيراد»، لكنهم يرفضون بطريقة مرَضية المبادئ التي تضع في حكم الممكن إنتاج المنتوج [سابق الذكر] واستهلاكه، ألا وهو الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتحرير المرأة، وحرية الفكر…
[12] الرضة أو الصدمة (trauma): «هي حدث في حياة الشخص، يتحدد بشدته، وبالعجز الذي يجد الشخص فيه نفسه عن الاستجابة الملائمة حياله، وبما يثيره في التنظيم النفسي من اضطراب وآثار دائمة مولدة للمرض. تتصف الصدمة، من الناحية الاقتصادية، بفيض من الإثارات تكون مفرطة، بالنسبة لطاقة الشخص على الاحتمال وبالنسبة لكفاءته في السيطرة على هذه الإثارات وإرصانها نفسيا». انظر: بونتاليس ولابلانش، معجم التحليل النفسي، م. س.، ص. 499 بالنسبة للأصل الفرنسي، وص. 300 بالنسبة للترجمة العربية، م. س. ومن ترجمته أخذنا نص الإحالة. (م).

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الجمعة 14-09-2012 12:57 صباحا

Breaking News