كثيرا ما يسجل ملاحظو المجتمعات الحالية ذلك الفراغ الذي خلقه داخلها ما يسمونه بالإحباط الإيديولوجي وإقصاء الأسطـورة أو سقوط الرمزي. لقد خلص مقـال مخصص للأصولية المسيحية (آلان فوجاس، 1984) إلى أن نبذ اللغة اللاتينية من أجل الحفاظ على العبادة هو محاولة عقلنـة للديانة انتهت إلى إفراغها من محتواها.
وفي المقال المتميز الذي خصصه مكسيم رودنسون (1984، 89 – 104) للحركات الأصولية الإسلامية تعرض هذا العالم أيضا إلى السقوط الإيديولوجي وما يترتب عنه من عـواقب.ومسألة انكسار الرمزي، هذه، هي ما أود تأمله هنا محاولا تعيين المكان الذي يتم فيه الإحساس بهذا الانكسار. والمشكلة هي مشكلة القانون ونقله. القانـون باعتبـاره تجسيدا لنظام بالقياس إليه يمكن للفرد أن يعـرف موضعه ويحدد هوية لنفسه.
لقد سبق أن حدث التقاء[1] بين ليفي ستراوس (في كتابه البنيات الأولية للقرابـة) وجاك لاكان (في مؤلفه كتــابات) في تحديد مكانين أساسيين لانبثاق القانون هما: وظيفة الأب عبر إواليات عقدة أوديب ومنع غشيان المحارم (Prohibition de l’inceste)، من جهة، وولوج اللغة متماهية مع عالم الرمزي، من جهة أخرى. وعندما تطور هذا المنظور في فكر جاك لاكان لاحقا، حدد هذا الأخير إرساء القانون في القطيعة التي تحدث في العلاقة الالتحامية الثنائية بين الأم والطفل عبر تدخل طرف ثالث، هو الأب، وبين الفرد ومتخيله عبر تدخل الإسـم.
وضمن هذا التوجه يدخل تأمـلنا الحالي الذي نتساءل فيه عن العوامل الثقافية التي تؤثـر داخـل المغـرب العـربي في الاعتراف بالقانون ونقله، ومن ثمة نعالج فيه نقطتيـن: الأولى تنصب على الأب الذي تغيرت مكانته بين الماضي والحاضر، والثانية تدور حول اللغة التي اهتز نظامها المعقد بفعل التحولات العميقة التي عرفتها (الاتصال باللغة الفرنسية، سياسة التعـريب…).
الأب واللغة معا يهمان النقل. فماذا يتم عندما يصير ما هو أساسي في ثقافة ما لا يُنقل وإنما يُستعـار؟ هل يمكن أن يصل الأب واللغة إلى حد لا يجدان معه أي شيء لنقله؟
إن هذين السؤاليـن لا يهمان المغرب العربي وحده، لكنهما يُطرَحَان داخله في سياق نوعي. وهما يشكلان قسما من بحث قيد الإنجاز يطرح من الأسئلة أكثر مما يقدمه من الأجوبة. كما أنهما يسعيان إلى أن يكونا دعوة للتفكير في هذا النظام الرمزي الذي يسند شخصية الفرد أو تماسك المجتمـع.
1 – الأب المقلــوب
لحصر السياق الثقافي الذي تتحدد مصائر الأفراد بداخله، أود هنا أن أبرز أهم التحولات التي أصابت وظيفة الأب. وتيسيرا للإحاطة بالأشياء سأميز بين مَعْلمين، علما بأن الأشياء ليست جد متمايزة في الواقع. أولهما هو الوضع التقليدي للأب كما تحدده الثقافة، والثاني هو التغيرات التي لحقت بهذا الوضع من خلال استدعاء نموذج عصري أو غربي. فبداخل المدار الذي يحدده هذان المعلمان ينظم الأفراد سلوكاتهم ويحددون قيمهم النوعية حسب إيقاعاتهم وإشكالياتهم الخاصـة.
أ – الأب في الثقافـة التقليديـة
يثير مصطلح الثقافة التقليدية عموما نفور الباحثين كما يُربكني كثيرا. فهو، في الواقع، مصطلح لا يمكن قبوله ولا يمكن تحاشيه. لا يمكن قبوله لأنه، بوصفه ثمرة تصور غربي أوروبي أو استشراقي، لا يصنف ما يسمى بالثقافة التقليدية إلا بمعيار واحد هو «ما ليس عصـريا»، ومن ثمة يبدو أنه يمحو الدينامية الداخلية والثراء المتعدد الأوجه للثقافات التي يعنيها. ولا يمكن التخلي عنه لأن تحليل أزمات التحول يبدي التأثير الغربي (قد يكون ذلك خطأ لكن المستقبل سيحسم في هذه النقطة) عاملا مهيمنا. ومع ذلك، يبقى من الضروري رسم بعض المعالم قصد حصر مجال هذا البحث.
داخل هذا الوضع التقليدي سأحدد إطارا هو الفصل بين الجنسين، وبنية هي النسب الخطي الأبوي (La filiation patrilinéaire)، ونمطا في الممارسة هو السلطـة، ثم إوالية لإعادة الإنتاج هي النقل (أو الإيصال) الثقافي (La transmission culturelle).
الفصــل بين الجنسيـن
يعتبر الفصل بين الجنسين عنصرا مكونا لكل عائلة. بل تذهب جميع الملاحظات التي أجْريَتْ في المغرب العربي أبعد من ذلك، فتعتبر الفصل بين الجنسين تقابلا مبنينا للمجتمـع.
وهذا الفصل الذي يمنع بمستويات مختلفة كل اختلاط بين الجنسين في الحياة العامة كثيرا ما وصفه وحلله باحثون أمثال جرمان تيون (1966)، وعبد الوهاب بوحديبة (1975). وقد أنجز بييـر بورديـو (1980: 441 – 446) تحليلا متينا للمنزل القبائلي، فأظهر أن العالم الاجتماعي يقوم على التقابل مذكر – مؤنث الذي يعتبر أيضا تقابلا بين الخارج والداخل، والعمومي والخصوصي. ويجب الإشارة إلى أن هذا التقابل، بالإضافة إلى ترسيخه لصورة الأب بشدة بداخله، يقيم بين الأفراد علاقة لامساواة يحظى فيها الرجل بتفوق ملحوظ. وإذا كان من المحتمل أن تكون هذه الممارسة واسعة الانتشار قبل مجيء الإسلام، فإنها قد وجدت تبريرا لها في القرآن بمفهومي القوامة والدرجة: «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض» (سورة النسـاء: 34)، «وللرجال عليهن درجة» (البقـرة: 228). وقد عالجت أطروحة حديثة لغسان عشا (1985)، في موضوع الرجال قوامـون على النسـاء (Les hommes ont sur elles une prééminence) مختلف أوجه إثبات هذا التفوق الذكوري. كما أن جانبا بأكمله من الفقه الإسلامي بُنِي على أساس هذه القاعدة. فأحكام الشهادة أو الإرث، مثلا، تجعل رجلا واحدا يعادل امرأتين. وفضلا عن ذلك، فقد أظهرت الأطروحة المذكورة أن الأمر في هذه المسألة لا يتعلق بمجرد كلام قديم، بل إن عددا كبيرا من المعاصرين، بما فيهم بعض الحداثيين، يعيدون إنتاج التصور نفسـه.
يقود إلحاح التقليد الإسلامي على هذه النقطة إلى التفكير في أن الأمر هنا يتعلق بأحد المظاهر الأساسية في الثقافة. وعند الاقتضاء قد يطرح السؤال: لماذا يحتاج هذا المعطى – معطى تفوق الرجال – الشائع في هذا المجتمع كما في العديد من المجتمعات الأخرى، إلى الحصول على دعم قوي من العقيدة وكأن هشاشة ما توجد في هذه النقطة؟ مهما يكن من أمر، فالمؤكد هو أن دعم الإسلام للرجولة يشكل عائقا كبيرا أمام علمنة المجتمع بالشكل الذي يدعو إليه البعض.
وبالتقابل مذكر – مؤنث ترتبط مسألة الشرف (ب. بورديو، 1972: 12 وما بعدها، وبورديو، 1980: 130 وما يليها). وهذا الشرف مسألة تهم الرجال، ولكن نقطة ضعفه تقع بجانب النساء، أي في مجال الجنس. فالرجال يثبتون شرفهم بمدى تحكمهم في النساء. وهنا أيضا يتعلق الأمر ببنية قائمة: فشرف الرجل يتأتى أساسا من اعتراف جماعة الرجال برجولته ومن المكانة التي يحظى بها وسط هذه الجماعة. وشرف المرأة هو الآخر يتأتى من المكانة التي تحظى بها وسط النساء، لكن هذه المكانة تتبع أساسا للشرف الذي يحظى به الرجل في الخارج. وبما أن الشرف يتطابق مع الرجولة، فإنه يمكن القول إن المرأة لا تعترف برجولة زوجها إلا بمقدار ما تعترف له بها جماعة الرجال. ويظهر التقليد الثقافي أيضا أن شرف الرجل ضرورة نسائية لأنه هو الذي يحدد اعتراف المرأة برجولة زوجها التي في غيابها لا يمكن للمرأة أن تشعـر إلا بالذل والنقص، كما في حالة الرجل الذي يُبدي في الحروب جبنا وفزعا شديدا من العدو. والثابت أن في الاعتراف بشرف الرجل مصلحة تضامنية تهم المرأة والرجل في آن. وما يمكن أن يشكل مشكلة في هذا المجال ليس الاتصاف بالرجولة وإنما العكس. لكن الملاحظ هنا هو أن المكانة التي يحظى بها أحد الـزوجين عنـد الآخـر لا قيمة لها خارج تدخل جماعة تشكل بكاملها دعامة لعلاقتهما. ففي هذا التقليد لا يمكن للرجل أن يحس بقيمته كرجل من خلال اعتراف امرأة به، وإنما من خلال الاحترام الذي يكنه له أنداده.
النسـب الخطـي الأبـوي
تتحدد مكانة الأب بالنسب الخطي الأبوي بمعنى أن انتماء الفرد للعائلة يتبع الخط الذكوري. ويتعلق الأمر هنا طبعا بالبنية المؤكدة، أما القرابة المعاشة فتمتد فيما وراء ذلك، بل تمتد أحيانا خارج حتى علاقات القرابة كما أظهر ذلك هـ. غيرتز (1979). وما أود التأكيد عليه هنا هو أن النسب يتحدد بالقياس إلى الأب لا بالقياس إلى الأم.
إلا أنه إذا كان الانتساب إلى الأم يعد دائما معطى بيولوجيا، فالأبوة تعتبر بالطبيعة موضوع شبهة أو اعتقاد، وهي في جميع الأحوال ليست من النظام نفسه كما يتبين من هذه الملاحظة:
(كان أحد فتيان (القبائل) مختليا بأمه يتحدث معها، فناداه أبوه العجوز الذي كان يشاهده من بعيد وقد بدى عليه التضايق من هذه المقابلة «رأسا لرأس»، ثم قال له: «ماذا تفعل معها؟ فيم كنتما تتحدثان؟» احـذر النسـاء!» ثم أضاف بلهجة ساخرة: «أرأيت؟… يقولون إني أبوك… ولكن في الأخير لا أحد يعلم ذلك سواها…»).
كثيرا ما لوحظ الشك المرتبط بالأبوة. ففي معرض حديثه عن المصابين بوسواس الارتياب، أدخل فرويد الأبوة ضمن الموضوعات الشائكة، كما ذيل أحد نصوصه بهذه الملاحظة (فرويد، 1975: 251، هامش 1):
«يعلم الفلكي بيقين واحد تقريبا من هو أبوه وما إذا كان القمر آهلا أم لا، ولكنه لا يعلم من هي أمه إلا بيقين آخر». وقد حققت الحضارة تقدما كبيـرا عندمـا قـررت البشرية أن تتبنى – إلى جانب شهادة الحواس – شهادة الاستنتاج المنطقي، وأن تنتقل من نظام الأمـومة إلى نظام الأبـوة».
وفي كتاب مكانـة للأب (Une place pour le Père) يستخلص الدكتور ألدو ناعوري (1985) نتائج هذا التباعد القائم بين الحديث والاعتقاد مؤكدا في عدة فقرات أنه إذا كانت الأم مكسبا فالأب يظل مطلبا؛ إذا كانت الأم معطى «طبيعيا» فالأب يجب تأكيده بلا انقطاع. وهذا لا يمكن أن يتم إلا باعتراف الأم. بتعبير آخر لا يكون الأب أبا إلا إذا اعترفت به الأم:
«لا يمكن للأب، وهو يلج عالم طفله من خلال التسمية الأساسية التي تمنحها له الأم، أن يكون سوى وظيفة كلمة، كلمة تتطور بكثافة حول الإسم الذي تنقله، والذي يجب أن يدعمها طوال حياتـه».
ما جدوى هذه الملاحظات بالنسبة للسياق التقليدي المغاربي؟ يبدو أن الإلحاح على النسب الخطي الأبوي والارتياب من المرأة التي لا تستمد قيمتها إلا من دورها باعتبارها أمّاً لا يسهلان قيام علاقة بين الرجل والمرأة بالشكل الذي يفترضه الاعتراف بمكانة الأب.
ويظهر أن السياق الثقافي يقصي علاقة الحب، هذه، بين الرجل والمرأة. فالثقافة التقليدية تمنع كل علاقة بين الفتى والفتاة قبل الزواج كما يشهد عليه الأدب والممارسة بشكل كبير. فقد أظهر أندريه ميكيل (1984 (a) و 1984 (b)، والمجنون، 1984) جيدا في كتبه المخصصة لأشهر عاشقين في الأدب العربي، هما المجنون وليلـى، سلسلة المآسي التي لحقت بهما إثر تشبيب قيس بحبيبتـه. ليكن ذلك. ولكن حب الزوجين هـو الآخر لا تنظر إليه الثقافة بعين الرضى على الإطلاق. فالأم تتعلق بابنها بشدة، ولذلك فهي لا تحتمل إلا بصعوبة كبيرة شغف ولدها بزوجته. والوسط الذكوري يسخر من الرجل الذي قد يذهب به الضعف إلى حد الهيام بزوجته. وفتنة المرأة، كما أجادت التعبير عنها فاطمة المرنيسي (1983 (a))، هي كل ما يمكن أن يقوض رجولة الـرجل وينال من شـرفـه.
ويسجل حسين بندحمان (1984: 218) في كتابه الذي خصصه لـ الـوظيفة الأبـوية في المغـرب العـربي أن:
«المرأة المغاربية لاتقيم كبيـرَ اعتبار لزوجها في خطابها لابنها، بل إنها لا تتحدث عنه إلا بسخرية. وبالمقابل، فهي تتحدث بطريقة شبه صوفية عن أبيها الذي تحفظ اسمـه وتصفـه بإجلال ممـزوج بالخـوف».
هل يمكن اعتبار التمسك بالنسب الخطي الأبوي لدى العالم الذكوري طريقة في الانغلاق على الذات؟ تسجل مونيك شنايدر (1985: 184) حول مشكل الأبوة عند فرويد ميلا عند هذا الأخير إلى القول بوجود «نسب بالآباء» يشكل اقتصادا للأنثوي، نسب ذكوري تشبه فيه علاقة الأب بالإبن علاقة المعلم بالتلميذ، ويشكل فيه الإبن استنساخا للأب أو «عائدا» له. وتحيل المؤلفة على تأملات مماثلة قامت بها نيكول لـورو (1981: 13) حول الإغريق القدماء وأساس المتخيل السياسي الأثيني: «رواية لأصول الفرد دون المرور من النساء». ونرى هذا «الاستبدال لـلأم بالأب»، أو «المحسوس بالمجرد» استبدالا لـ«تغير الحياة» – المرتبط بالعالم الأمومي – بـ«الخلود الممجد للنظام المقدس» المشروك مع العالم الأبوي.
هكذا يتم سد ثغرة الريب المرتبط بالأبوة بصرامة. إلا أن هذه الأخيرة لايمكن أن تتماسك إلا بدعم من الثقافة وجماعة الرجال. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه حينئذ هو: لماذا يتميز هذا النظام الذي يبعد ما هو أمومي، ويبعد «تغير الحياة» قصد استبداله بنظام معقول، كما تشير إلى ذلك أيضا ملاحظة فرويد المذكورة أعلاه، أقول لماذا يتميز بصرامة من هذا النوع؟ هل هو غير واثق من نفسه؟ هل تبدي هذه الأمهات الحاضرات بمنتهى العلانية في الولادة والممحوات بعناية من أشجار الأنساب، هل يبدين، رغم كل شيء، «إفراطا في الحضور» إلى حد يستوجب الاحتياط منه؟ وبتعبير أوضح: هل تخفي هذه الصرامة وجود خوف لدى الرجال من النساء؟
لا يتردد بعض الباحثين في المضي ضمن هـذا الاتجاه بإدخال شخصية «الأم ذات السلطة المطلقة» إما كحقيقة أو كاستيهام. وهـذا هو الاستنتاج الذي خلص إليه حسين بندحمان:
«هكذا، وعلى العكس من المظهر الخادع الذي تتراءى به البنية الاجتماعية المغاربية: مظهر بنية أبوية، ومجتمع ذكوري، إلـخ، فإن الشخصية الأساسيـة والمركزية (…) تبقى بدون جدال هي الأم…».
وفي أطروحة حول الطب التقليدي في المجتمع القبائلي أوردت نادية موحيا (1985: 321) إشارة مماثلة. فقد كتبت في معرض حديثها عن حالة رجل مُسَّتْ رُجولته فلم يتمكن من استهلاك زواجـه:
«تعتقد الجماعة أن مرض (سعيد) ليس كباقي الأمراض. فخاصية مرضه تكمن في كونه قد تجرأ على المجادلة في إحدى القيم المؤسسة لثقافته، وهي الرجولة. كما تكمن هذه الخاصية – في نهاية المطاف – في كونه يكشف للجماعة نفسها ما تكبته. يكشف عن سلطة الأم المطلقة التي تحمل القانون القضيبي (أو الفلوسي (Phallique. فكلمة «أنتَ لستَ رجلا» تمثل فشل إحدى وسائل الدفاع الثقافية الأساسية لدى الجماعـة ضد قلق الخصـاء».
كما أن التأكيد على سلطة النساء يحظى بحضور كبير في التقليد الثقافي العربي. ويجد هذا التأكيد – الذي لا شك في ارتباطه بالفتنة – تعبيره في مصطلح الكيـد، كما يشهد عليه هذا التعنيف الذي يوجهه القرآن للنسـاء: «إن كيدكن عظيـم» (سورة يوسـف: 28).
ويحتل موضوع قدرة النساء على الكيد مكانة كبيرة في الأدب الشعبي والحكايات الشعبية بالخصوص. وسأكتفي بالإحالة على الحكاية التي نشرتها فاطمة المرنيسي (1983 (a)) حديثا تحت عنوان عربي هو: كيد الرجـال وكيد النسـاء وعنوان فرنسي هو: Qui l’emporte l’homme ou la femme?، وهي قصـة تدور حول امرأة جميلة ومحتالة تتمكن من الإيقاع بابن الملك باستمرار. وترى فاطمة المرنيسي أن هذه الحكاية «تبرهن على أن الرفض النسائي لتفوق الرجال موجود في ثقافتنا، أي أنه “لم يفِدْ من باريـس”». ومن خلال عنوان هذه الحكاية، يبدو أن الأدب الشعبي قد قلب تماما الآية الشهيرة التي سبقت الإشارة إليها: «الرجال قوامون على النساء». ومن ثمة، قد لا تكون سلطة الرجال الظاهرية سوى التعبير المقلوب عن سلطة النسـاء الخفيـة. وتقودنا هذه الفكرة إلى التأمل في ظروف تطور «الكفاح من أجل تحرير المرأة» في المغرب العربي.
فمادام هذا الكفاح يؤكد فكرة امتلاك المرأة لسلطة، وبالتالي يدعو إلى ضرورة مساواتها مع سلطة الرجل، فإنه لا يمكن إلا أن يثير مقاومات كبرى، خاصة وأنه يردُ في سياق يحس فيه الرجال لا شعوريا بالسلطة المفرطة التي تملكها المرأة. ومن ثم، فإن تحرير النساء لا يتم إلا عبر رفع استيهام سلطتهن المطلقـة.
تظهر الدلالة العميقة للنسب الخطي الأبوي أيضا في خط نقل الإسم. وبهذا الصدد يورد حسين بندحمان (1984: 267) مثلا مغربيا يقول: «هنا، في الأرض، نحمل إسم أبينا. وهناك، في الآخرة، نحمل إسم أمنا»، ويؤوله باعتباره دعوة إلى تعليق الرغبة الحالية للأم مقابل يقين الوصول إلى «التوحد المطلق مع الأم المستعادة» في الآخرة. وفي سياق آخر، بعد الفقرة المحال عليها أعلاه، يعود بندحمان إلى المثل نفسه، ولكن لإعطائه في هذه المرة تأويلا آخر يبدو لي أكثر ملاءمة، وهو: «هنا (في هذا العالم، في الظاهر) نحمل إسم أبينا، وهناك (في الآخرة، في الباطن، في اللاشعور) نحمل إسم أمنا» (نفســه: 258).
السلطــة الأبويــة
يعتبر المغاربيون سلطة الأب من البديهيات. وتصفها نفيسة زردومي (1970: 162) كما يلي:
«مبدئيا، تظل سلطة الأب داخل العائلة المتمسكة بالتقاليد سلطة مطلقة وغير مشروطة. وتقوم هذه العائلة – التي تشكل الوحدة الاجتماعية القاعدية – على تبعية جميع أعضائها المطلقة للرئيس. فالأب هو السلطة الإلهية في يد مخلوق بشري. والطاعة التي يحظى بها تستمد أصلها من الخضوع لله. ونظرا لتشبع هذه العائلـة بالثقاليـد، فهي تكن إعجابا شديدا للأب: فهو كل شيء، وشخصيته تمحو سائر من في البيت».
بدل الاسترسال في إيراد الإحالات التي تصف معيش هذه السلطة، أفضِّلُ إعادة تركيب مشهد عودة الأب إلى المنزل كما تركته لديَّ مطالعات عديدة:
(الوقت نهاية يوم صيفي حار. في صحن الدار، حيث لا يصل إلا نور شعشع، يسود نشاط كبيـر. نساء يتضاحكـن ويتكلمـن بصوت مرتفع. أطفال يجرون ويلعبون وسط ضوضاء كبيرة. وفجأة تصل طفلة من الردب جارية وتصرخ مخبرة بوصول الأب. في الحال يخيم على المنزل صمت كبير. تتفرق جماعة النساء والأطفال. يدخل الأب صامتا، ثم يتجه ليتقرفص بوريته. تسرع إحدى الطفلات لتحضر له بابوجه، تقدم له إحدى النساء بصمت صينية وإبريق شاي وكأسا. لا أحد يجرؤ على التكلم معه. وهو نفسه لا يفوه إلا بكلمات قصيرة كي ليطلب الطعام. وحالما يؤتاه يستغـرق في تناوله وحيدا صامتا تحت نظرات أهل البيت العابرة).
ويُتَرْجمُ احترامُ سلطة الأب عادة بنوع من التقدير التبجيلي. وبهذا الصدد أحيل أيضا على نفيسة زردومـي (1970: 167):
«الخوف هو الكلمة المفتاح. ومفهوم الاحترام – الخوف هو أحد ثوابت التربية التقليدية الشعبية. ولكي يحافظ الأب على الوقار الذي يلفه، فإنه يخلق حوله صورة الرجل المهاب المحترم الوقور. واختلاف البنوة، في نظره، يترجم باحترام المسافات وبالغياب الموسوم بالألفة».
ومما يميز السلطة الأبوية أيضا خاصية قلة الكلام بين الأب وباقي أفراد العائلة من نساء وأطفال. فاحترام الأب، كما تقول نفيسة زردومي، «يتجلى قبل كل شيء في الصمت الذي يسود حوله حينما يكون بصدد الكلام» (نفسـه: 166). ويرجع السبب في ذلك بدون شك إلى أن الكلمة لا تدور إلا بين الأنداد، وإلى أنها تعني أيضا التبادل. هكذا، فحينما تجرؤ الزوجة أو أحد الأبناء على «مواجهة» الأب بكلمة، فإنه لا يحس بهذه الكلمة إلا باعتبارها شبه تَحَدٍّ لسلطته. لكن هذا المنع الذي تلقي به العادة على الكلمة يعني أيضا وضع مسافة جسدية بين المتكلمين، ويهدف إلى تلطيف أثر فتنة الصوت التي لا يمكن لسلطة الرجل إلا أن تقع في شركهـا. ويفهم ذلك من دلالة مفهوم الفتنة الذي يعني في آن واحد الغواية والإغراق والاضطراب، كما يطابق «الأثر الذي يولده الجمال لا شعوريا في عدد كبير من العشاق على شكـل إثارة البلبلة والاختلال في العقول» (كازيميرسكي، 1960، ج 3: 539). وفي معرض تحليل فاطمة المرنيسي لموقف الإسلام من المرأة، كتبت هذه الباحثة (1983 (b): 28) أن:
«هذه الأخيرة تُهاجَمُ باعتبارها تجسيدا للفوضى ورمزا لها. فهي الفتنة وَمَرْكَزُ ما لا يمكن التحكم فيه، كما أنها التجسيد الحي لمخاط الجنس وطاقته الهدامـة التي لا تعرف أي حدود».
وحول السلطة الأبوية هناك خاصية أخرى يجب الإشارة إليها وتتمثل في العنف. عنف الصمت وعنف الكلام، بل وحتى عنف الجسـد. والآية القرآنية التي سبقت الإشارة إليها (الرجال قوامون…) تبيح استعمال العنف الجسدي في حق النساء العاصيات. ويرمي هذا العنف بمختلف أشكاله إلى تجنيب سلطة الأب من كل ما من شأنه أن يعرضها للمس. فبدون هذه السلطة لا يبدو الأب خارج المنزل إلا رجلا ناقصا وعديم الشرف. إلا أنه فيما وراء هذه الاعتبارات يمكن التفكير أيضا في وجود علاقة بين غياب الكلمة وحضور العنف. فقد يكون هذا الصمت «تواصلا رغم كل شيء» ونوعا من الكلام الضمني الذي لا يمكن أن يتمظهر بكيفية أخرى. ومن ثمة، فقد تكون دلالة العنف في هذا السياق هي الضيق الذي يشعر به ممارس العنف أمام عجزه الذاتي أو الثقافي عن مجازفة تحقيق تواصل بواسطة الكلمة مع ما يقتضيه هذا التواصل الكلامي، بالضرورة، من مراجعة للذات. وهنا أود إضافة ملاحظة على شكل سؤال: تحمل عدة ملاحظات – يجب التأكد منها بالضرورة – على التفكير في أن ممارسة هذا العنف الأبوي قد اتسع مع تفكك العائلة الموسعة وانعزالها على شكل عائلات ذرية تعيش في المدار الحضري. والسؤال المطروح هو: هل يمكن اعتبار هذا العنف خاصية مميزة لوضع ثقافي بيني (بين عالم تقليدي تسمع فيه الكلمة «الاجتماعية» بما فيه الكفاية، فيضطلع الجميع بمهمته، وبين عالم عصري يتمكن فيه الأب من التعبير عن كلمته كفرد) لا تستطيع فيه الكلمتان معا أن تحظيا بالنطق ولا بالإنصات؟ في هذا السياق، يمثل العنف الشكل الأدنى لإرساء القانون ونقله. ولعل هذا هو ما توحي به قولة واحد ممن استجوبهم بندحمان (1984: 223) أثناء حديثه عن أبيه: «لو لم يكن قاسيا لما وصلتُ إلى هنا [الجامعة بفرنسا]، ولربما كنتُ الآن منحرفـا».
الإيصــال الثقافـي
يتصف النسق الذي كونته الثقافة المغاربية التقليدية في موضوع الأب بانسجام ملفت للنظر، ويشكل موضوع ترسيخ رمزي قوي. كما أن النظام السائد داخل العائلة – سلطة الرجل، الفصل بين الجنسين – يقابل نظيره السائد في المجتمع. فهو يرتكز على مبادئ التقابل بين الخارج والداخل، العمومي والخصوصي، المذكر والمؤنث. وكل شيء يُفكَّرُ فيه باعتباره تأكيـدا لقوة خارجية ذكورية يجب عليها، لكي تحمي شرفها، أن تفرض نفسها على عنصر داخلي أنثوي. وهو ما يمكن التفكير فيه أيضا باعتباره قوة خارجية تضطر للاحتماء من تهديد داخلـي.
ومما يلفت النظر أيضا ذلك الإجماع القائم في المجتمع التقليدي حول الإيصال الثقافي. أن ينقل الرجال سننا (Code) يضعهم في مكانة متميزة، فليس في ذلك ما يدعو للاستغراب. ولكن ما يدعو للدهشة هو ملاحظة أن النساء، والأمهات تحديدا، هن اللواتي يضطلعن في المقام الأول بهذا الإيصال. فالأم هي أول من يعلم ابنها كيف يكون رجلا، وكيف يعوض أباه في غيبته، ويتحكم في أخواته… ويؤكد حسين بندحمان (1984: 211) ذلك انطلاقا من تصريحات مستجوبيه كما يحيل على شهادة لمولود فرعون، مماثلة لرأي نفيسة زردومي، تبيـن كيف أن الأم تساهم في تعذيب البنات مسخرة لذلك ابنها الذكر. ومشاركة النساء، هذه، في إعادة إنتاج ما يسميه البعض بالوضع القامع للمرأة تسترعي الانتباه. هل يمكن اعتباره طريقة في هذه الثقافة يجريها كل واحد، أي المرأة والرجل، لحسابه؟ وإذا كان الأمر كذلك فأين يتم؟ وكيف؟
أخيرا يبدو مـن الواضح أن هـذا الإيصال لا يمكن أن يتحقق إلا داخل الوسط الاجتماعي وبمساندة منه. وهذا مما يوحي إلى أي حد يمكن مراجعة الموقف الأبوي حينما يبدأ الوسط في التفكك والإيديولوجيا الإسلامية في الضعف. آنذاك سيجد الرجل نفسه أمام امرأة لم تعد تعترف به مطلقا: «شْكُـونْ هَذا؟ شْكُونْ بْغَا يْكُونْ هُوَ؟ [من هذا (الشخص/الرجل) وماذا يحسب نفســه؟][2].
ب – التحولات المؤثـرة في وضـع الأب
تنحو التحولات الحديثة تحديدا نحو مراجعة مرتكزي سلطة الأب، وهمـا الهيكلة الجماعية للوسط الاجتماعي وحصرية الإسلام المعيارية. وبما أن الأمر يتعلق هنا بمعطيات معروفة جدا، فسأكتفي بالإشارة إليها من أجل قياس نتائجهـا.
استبـدال سلطة الأب بسلطة الدولـة
لقد أدى بناء الدولة في المرحلة الحديثة، بعد الاستقلال بالخصوص، إلى تقليص المكانة الرفيعة التي كان يحتلها الأب، وذلك بأشكال متعددة. لكن أكثر هذه العوامل حسما في هذا التقليص هي:
– تفكك بنية «الأب الجماعي»: لقد كانت الوظيفة الأبوية تمارس في الماضي بكيفية شبه جماعية من طرف جماعة الآباء، والأعمام والأخوال، وأبناء الأعمام وأبناء الأخوال، وحتى الجيران. ولكن التطور الذي دشنه الاستعمار، وتواصل بعد ذلك بفعل التحضر والهجرات، قد بدأ يجعل الآباء يمارسون وظيفتهم بكيفية فردية أكثر فأكثر. وقد تكيفت الذهنيات مع هذا التحول، فلم يعد الآباء، مثلا، يقبلون أن يتعرض أبناؤهم لتأديبٍ من الجيران.
– إقامة مؤسسات بديلة عن سلطة الأب: لقد أدخلت المدرسة سلطة المعلمين في الوظيفة التربوية على أساس نموذج تربوي كثيرا ما يختلف عن نظيرة التقليدي ويجهله الأب في بعض الأحيان. أما مؤسسة العمل المأجور، فقد وضعت حدا للمقاولة العائلية، وما كانت تجره على الأبناء من تبعية اقتصادية للأب. لقد قال أحد الأعراب: «إن أشتمْ ابني يتوجَّهْ إلى الإدارة ويحصل على بطاقة تعريف، ثم يلتحق بالجيش». وقد تحقق هذا الطور الأول من تحرر الأبناء في المغرب العربي منذ وقت طويل، حتى وإن كان هناك بعض الشباب العاملين الذين يسلمون أجرتهم لآبائهم. أخيرا، فإن مجموعة كاملة من المؤسسات – من خلال خطابها حول الوقاية والصحة والسكن والمال – تقع في تعارض مع القيم التقليدية الموروثة. وقد حلت قيمة المال محل قيمة الشرف، فلم يعد المرء يحظى بالتقدير لما أحرز عليه من شرف وسط الجماعة اكتسبه عن أجداده أو حسن أفعاله، وإنما لما يملكه – باعتباره فردا – من مال حصل عليه إما عن استحقاق أو بالعمل أو الحظ. وهذا الاستبدال يحرم النظام التقليدي من المحرك الأساسي لديناميته.
مـراجعـة وضـع المــرأة
يعتبر وضع المرأة كما حددناه أحد المعطيات الأساسية في الثقافة الإسلامية كما تتجلى في التقليد والفقه. إلا أنه تحت التأثير الغربي التحديثي سينتشر تيار تحرير المرأة تدريجيا في العالم العربي. أما في المغرب العربي، فقد أوقف الاستعمار هذا التيار. ذلك أن حجاب المرأة كان قد تحول إلى رمز لرفض الاندماج في قيم المستعمر. ومع ذلك فقد تسربت الأفكار، وأحيانا حتى الممارسات شيئا فشيئا. ويمكن الإشارة، على سبيل المثال، إلى الكتاب الذي ألفه التونسي طاهر الحداد (1936، 1980) سنة 1930، وهو يدافع فيه عن تحرير المرأة. وبعد ولوج دول المغرب العربي مرحلة الاستقلال تطور هذا التيار بأشكال مختلفة: فهو يحظى بتشجيع كبير في تونس، مرغوب فيه في المغرب، ومكبوح في الجزائر. والمهم في هذا ليس هو الحالة الراهنة للتشريعات والممارسات، وإنما الطبيعة الحتمية التي أخذها هذا التطور في اعتقاد أغلب رجال المغرب العربي، وطعم «الإحساس الذكوري بالخطيئة» الذي انتشر، والارتباك الكبير الذي يبدو في الصحافة والأدب والأفلام حول المسألة.
والنتيجة التي ترتبت عـن التحولات الاجتماعية وظهـور الوعـي النسائي هي تعايش ذري صعب التحقق حيث يجد الزوجان المعزولان، الرجل والمرأة، نفسيهما وجها لوجه دون دعامة اجتماعية سابقة أمام بلبلة في القيم. وما التحرر الجنسي الذي ينشره الإعلام الدولي إلا أقل مظاهر هذه البلبلة إثارة للقلق. ثم إن ضمانات الأبوة التقليدية التي كان يؤمنها الضغط الذكوري قد أخذت تتضاءل إمكانية ممارستها وتبريرها تدريجيا. وإذا كان الحل الوحيد الذي يبقى أمام الرجل هو وضع الثقة في المرأة، فإنه يصطدم بتقليد ثقافي بكامله يقوم على الارتياب في المرأة والحذر منهـا.
وفي هذه المسألة يبقى الإسلام هو المجال الوحيد الذي يمكن للرجل أن يعثر فيه على ملاذ. فالإسلام، بتقليده التاريخي والفقهي وبسمعته العالمية، هو وحده الذي يستطيع أن يقدم تبريرا للحال التي كانت عليها الأشياء قديما، ويضع حاجزا أمام السيل التحديثي. فهو حتى في أشكاله الأكثر إصلاحية يقدم للرجل دعما أكيدا. وهنا، بدون شك، يكمن عامل أساسي في نجاحه الحالي. ولكن ليس من المؤكد أن يظل لوقت طويل معقلا بخصوص هذه النقطـة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب التذكير بأن وجهة نظر الإسلام إلى المرأة ليست حكرا على الرجال. فالنساء من حيث مشاركتهن في نقل القيم التقليدية قادرات على الاهتداء – من خلال تشبتهن بالإسلام – إلى طريقة لتحسين تمسكهن بتلك القيم وإيجاد أشكال جديدة مطابقة لهـا.
وتعتبر «مشكلة المرأة» في سياق التحولات الاجتماعية العميقة التي يشهدها المغرب العربي حاليا من أكثر ظواهر هذا التحول إلحاحا على العموم. ومما سبق، يبدو أن المشكل قد يكون أساسا «مشكلا للـرجل» في ثقافة تأسست بكاملها على منحه وضعا متفوقا يحميه الوسط الذكوري الجماعي والإسلام. إلا أن الإسلام قد خفف من صرامته، والوسط الذكوري تعرض للتفكيك، فوجدت الذكورة نفسها محرومة من مرتكزاتها القديمة. ومن هنا يأتي هذا القلق الشديد الذي يمنعها مـن كـل تكيف مع الأشيـاء في وضعها الحالي. والسؤال الذي يمكن طرحه هو: هل ستتمكن ضرورة الاعتراف بالـرجولة باعتبارها مرتكزا للأبوة من الانتقال من الحالة السابقة، حيث كان الوسط الذكوري وحده هو الذي يمنحها، إلى حالة أخرى تصير فيها نتيجة للاعتراف الممنوح والمكتسب من الجنس الآخر، أي حالة يصير فيها معنى الرجولة هو إحراز الرجل على اعتراف المرأة بهذه الرجولة، ومعنى أن يكون أبا هو حصوله على هذه التسمية من قِبَلِ أُمٍّ؟
2 – اللغــة الممنـــوعة
لا يستمد تحديد مكانة وظيفة اللغة أهميته إلا بالقياس إلى التحولات العميقة المعروضة أعلاه. والمسألة هنا تتعلق بمعرفة أي شيء تنقله لغة المغرب العربي في سياق هذه التحولات.
لا تكون لغة ما لغة حقة إلا إذا تمكنت من التعبيـر عـن الأساطيـر ونقـل الأنظمة الرمزية التي يقدمها التقليد كجواب عن الأسئلة التي يطرحها الأفراد بدون أن تشكل موضوعا للمعرفة العقلانية، كالأسئلة المتعلقة بأصـل الحياة، ونهايتها، والهوية، واختلاف الجنسين (ج. بول فالابريغا 1980: 52 وما يليها).
وفي هذا المجال يمكن لبعض التعديلات أن تتأتى من أحد جانبين: جانب الأنظمة الرمزية نفسها التي تتغير أو تنبذ، وجانب اللغات التي لا تعود قادرة على نقل هذه الأنظمة. وعلى سبيل الاحتمال، يمكن القول إن التقاليد تتغير حينما لا تبقى هناك أي لغة لنقلها. وهذا ما يتم عندما تكون اللغة مشبعة بالكلمات، كلمات السلطة وكلمات العلم وكلمات الإعلام التي لا تدع أي مجال للتعبير. وفي هذه الحالة، لا تبقى اللغة على الإطلاق نقلا لقانون الجماعة، وإنما تصبح رهانا للسلطة بين الجماعات المتنافسـة.
أ – نظام اللغـات في المغـرب العربـي
كجميع الدول ذات الثقافة العربية، يعيش المغرب العربي ازدواجية اللغة الكلاسيكية واللغة – الأم. وغالبا ما تُدْعَى هذه الأخيرة التي تكون إما بربرية أو عربية لغة دارجة. وفي الماضي كان يسود تنوع كبير داخل كل مجموعة لهجية. فقد كانت اللهجة تختلف باختلاف الجهات أو المناطق، وأحيانا باختلاف القرى مما يبين أن اللغة الأم كانت تطابق تنوع الجماعات الإثنية أو السكانية بحسب مناطق سكنهم. وما يميز اللهجة، عربية كانت أو بربرية، هو مغالاتها في الإقليمية، وبذلك يمكن اعتبارها لغة للداخل في مقابل لغة الخارج المتمثلة في العربية الكلاسيكية المتماهية مع الإسلام والكونية أو الشمولية مثله. ومع تطور وسائل التواصل في العصر الحديث تحقق نوع من التوحيد داخل هذه اللهجات. وهو يتواصل الآن على الصعيد الوطني. لكن يمكن اعتبار اللهجة أيضا لغة للحميمية باعتبارها شفهية خالصة تفلت، لهذا السبب بالضبط، من الرقابة الأكاديمية وتتمكن من الحفاظ على ديناميتها الخاصـة.
وفيما عرفت مرجعية اللغة العربية الكلاسيكية للإسلام نوعا من التقلص في المشرق العربي ابتداء من القرن XIXم، عندما بدأت تستخدم استخداما عصريا، ظلت هذه العربية الكلاسيكية في المغرب العربي معاشة بعمق يوازي علاقتها الوثيقة بالإسلام، وبقيت في وضع كلاسيكي وذات مرجعية رمزية إسلامية أساسا، نظرا لأن الانفتاح على الحداثة تم في هذه البلدان باللغة الفرنسية بسبب الاستعمار. وقد بدت هذه الخاصية بوضوح شديد في الجزائر التي تعرضت لأطول فترة احتلال، والتي ظل فيها الإسلام المرجع الأول لهوية المجتمع نظرا لانعدام وجود أي بنية رمزية أخرى كالملكية في المغـرب أو البكويـة في تونـس.
لقد طرحت سياسة التعريب المتبناة في المغرب العربي بعد الاستقلال مشكلة إيجاد لغة عربية قادرة على الاستجابة لمعايير اللغة الوطنية ومتطلبات التعبير في مجتمع حديث. وبتعبير أوضح، لقد كان الأمر يتعلق بالبحث عن عربية من شأنها أن تمكن من الحفاظ على مكانة الفرنسيـة. ولذلك فإن مرجعها الأساسي كان سينحاز إلى الفرنسية الغربية أكثـر بكثيـر من انحيازه إلى العربية الكلاسيكية التي كان يجب، مع ذلك، أن تستعيد «حللها»، أي بنياتها وعوامل جاذبيتها. وفي الواقع، كان على لغة التعريب، هذه، أن تظهر كلغة للدولة وإدارتها وشرعيتها أيضا (ج. غرانغيوم، 1983).
لقد احتفظت اللغة الفرنسية التي كانت تعتبر لغة رسمية طيلة فترة الاحتلال بمكانة هامة في المغرب العربي بعد الاستقلال، وذلك بإرادةٍ من دول المنطقة. وعن طريق انتشار المدارس وتأثير وسائل الإعلام أصبحت هذه اللغة معروفة لدى الجمهور بشكل أوسع مما كان عليه الأمر إبان المرحلة الاستعمارية. وهذه اللغة الفرنسية المفروضة في السابق تحمل بكل تأكيـد علامة الاضطهاد والجـور الاستعمارييـن. ولكن باعتبارها كانت أيضا لغة للانفتاح على عالم مختلف بتقنياته وقيمه، فإنها تستفيد من الإغراء والجاذبية اللذين يمارسهما هذا العالم. ومن هنا ذلك التعارض الوجداني (Ambivalence) الذي يطبع موقف الجمهور المغاربي إزاءها.
وسأحاول فيما يلي أن أبـرز علاقة هذه المجموعة من اللغات بضرورة التعبير الرمزي الخاص بكل ثقافة طارحا جانبا الجوانب السياسية واللغوية للمسألـة.
ب – اللغـة والممنـوع في المغـرب العربـي
من المؤكد أن اللغات تستمد قيمتها من الاستعمال الذي تخضع له. ومما لا يقل تأكيدا عن ذلك كون اللغات تكف في مرحلة معينة عن التفاعل فيما بينها. الأمر الذي يدل على أن كل واحدة منها تحيل على عالم رمزي خاص له قوانينه وممنوعاته الخاصـة.
اللغـــة الأم
أقصد باللغة الأم تلك التي يتكلمها الطفل داخل محيطه العائلي الأول. ويطلق على هذه اللغة عادة في المغـرب العـربي إسم لهجة، عربية كانت أو بـربـريـة.
والخاصية الأساسية لهذه اللغة الأم هي إحالتها على القيم التقليدية. فهي تنقل هذه القيم كما تنقل بالخصوص الكيفية التي يتصور بها الوسط الشرف باعتباره يرتكـز على اختلاف الجنسيـن والفصل بين العالمين الداخي والخارجي. وذلك يتضمن استعمـالا نوعيا للكلمة، داخل الوسط، يجد مرجعه في الفصل بين الجنسيـن. وهذا ما يبينه المثـل القائـل: «صمت الرجـل رفـض وصمت المرأة قبـول». فالكلمة في ملائها تعتبر خاصية ذكورية. وهذا التمييـز بين الجنسين يحتوي أيضا الكلمة بحيث تروج جيدا داخل الجنس الواحد، لكن بصعوبة كبيرة بين الجنسين. كذلك الشأن بالنسبة لاختلاف الأجيال. فالإبن مفروض عليه أن يصمت في حضور أبيـه، والبنـت أيضـا، بـل وبشكـل يفـوق الإبـن لأن حواجـز الجنس وسلسلة النسب تتضاعف في حالتها. إلا أن هذه الحواجز التي تمنع الكلمة الفردية تفسح بالمقابل المجال لعبور الكلمة الجماعية، أي عبور ما تقوله التقاليد والاستعمالات حول ما يجوز فعله وما لا يجوز في العلاقات الاجتماعية.
وهذه اللغة الأم هي التي تنقل أيضا أولوية الرجولة، وكذلك – وبدون شك – استيهامها المطابق، أي استيهام السلطة النسائية المطلقة. وهي تحتوي أيضا على منع لـ«التبـادل الحـر» بين الجنسين وبين الأجيال. وبذلك، فهي تخضع التعبير الفردي لأولوية الكـلام الجماعـي.
ورغم التحديث الظاهري الذي عرفته اللغة الأم عن طريق إدماج عدد كبير من الكلمات الأجنبية، فإن خاصيتها الأساسية لم تتغير. ذلك أن هذه الكلمات انصبت قبل كل شيء على الأشياء والتقنيات أو الموضات الجديدة. ولا شك في أن هذا هو ما يسمح لهذه اللغة بأن تلعب دور المرجع للأصل والمجسد له، ويمكنها في سياق التحول من دعم استيهام العودة الممكنة للأصل. ويبدو أن هذا الأصل يطابق تنظيما للعالم المأمول ببقائه ثابتا. إلا أنه يلاحظ بشكل مؤلم في بعض الأحيـان أنه يتعرض لمراجعة جذرية في الـواقـع.
ومما يقوي استيهام العودة للأصل تلك الهجومات التي تقع ضحيتها اللغة الأم، والتي تأتي من جانبين: جانب اللغة العربية العصرية التي تؤكد الدولة عزمها على أن تجعل منها لغة وطنية، ثم جانب الإعلام الذي يستعمل اللغة الأم بطريقة خاصة حيث يعمل على توحيد اللهجات مع تفضيل لهجة العاصمة التي «يهذبها» عبر استعارة كلمات من العربية الكلاسيكية وتعابير ذات نكهة قريبة من التعابير المحلية. وما يتم مع اللهجات العربية له نظيره في اللهجة البربرية: فالبرامج التي تذاع بهذه اللغة تميل باستمرار إلى إدخال كلمات عربية (راجع فاطمة ينترن، 1985: 22 – 25). ومهما نظر إلى استعمال اللهجات في الإعلام بعين الرضى، فإن هذا الاستخدام يشكل بمحتواه هجوما متزايدا على اللغة الأم. فهو يقول العصري أكثر مما يقول التقليدي، يقول الامتثالي أكثر مما يقول المعيش، كما أنه يعبر في أغلب الأحيان عما هو بورجوازي حضري أكثر مما يعبر عما هو شعبي قروي. ويمكن العثور على أمثلة عن ذلك في البرامج العربية المخصصة للنساء كبرنامج «البيت السعيد» الذي يذاع في الجزائر (إلهام نياتي ونايلة قباتي، 1983)، و«دنيا المرأة» الذي يُبَثُّ في المغـرب.
يرتبط الممنوع الذي تنقله اللغة الأم أساسا بما هو جنسي بقدر ما من شأن هذا الأخير أن يميل، من خلال تحريره للرغبة الفردية، إلى مس النظام الرمزي القائم على التفوق الرجولي. وبما أن الكلمة هي خاصية المهيمن ورمز سلطته، وبدون شك مخاطرته، فإن هذا الممنوع يقصي تبادل الكلمات الفردية بين من يفرقهم الجنس أو الجيـل.
عـربيـة القــرآن
لقد أشرت أعلاه إلى طبيعة الظروف التي ظلت عبرها علاقة اللغة العربية الكلاسيكية بالإسلام في المغرب العربي علاقة متميـزة.
فالإسلام يعتبر تأكيدا للوحدة الإلهية. وفي سياق المغرب العربي يعبر هذا التأكيد أساسا عن منع عبادة الوسطاء وورثة العبادات الطبيعية والممارسات التي يشجبها بقوة المتمسكون بالأرثذكسية، كزيارة الأولياء وتعاطي السحر وطقوس الشفاعة (راجع إميل درمنغهايم، 1954). وبما أن اللغة البربرية هي أساس الثقافة المغاربية القديمة وأن التعريب في الماضي كان دائما يقترن بالأسلمة، فإن استمرار هذه اللغة في المغرب العربي يبدو بمثابة عدم اكتمال لتلك الأسلمة.
وتعتبر اللغة القرآنية في المغرب العربي أيضا الرمز الأكثر ترسخا للهوية الإسلامية. فقد شكلت طوال المرحلة الاستعمارية القطب الذي تتحدد حوله معالم هوية مختلفة عما كان يمثله الغرب. وبذلك، فإنها تنقل السنـن الثقافي الذي تتم بداخله مقاومة القيم التي ينشرها الغرب، وخاصة ما يرتبط بـ«لب» هذه الثقافة، ألا وهو العائلة والجنس.
ومع جهلنا الحالي بالثقافة السائدة في مجتمعات المغرب العربي قبل الإسلام نلاحظ أن البنية الرمزية لهذه المجتمع تمارس قيم الإسلام. والقرآن يؤكد في عدة مناسبات علىالتفوق الذكوري. بذلك فإن تأثير اللغة القرآنية إنما يعمل في ذات اتجاه اللغة الأم. ولهذا السبب يجد المشكل الثقافي الذي يطرحه الإلحاح علىالرجولة – أو الدفاع عنها بشكل مضطرب – يجد نفسه طاغيا على إطار المغرب العربي الضيق.
ويمكن إدراك حجم المنع الذي تحمله اللغة القرآنية في تعبير الكُتَّاب المغاربيين المعاصرين. فقد صرح عدد كبير منهم، وبالخصوص الطاهر بنجلون، بأنهم لم يستطيعوا الكتابة باللغة العربية في بعض الموضوعات التي تمس الجنس. ويمكن الإشارة، على سبيل المثال، إلى السيرة الروائية لمحمد شكـري (1980) المعنونة بـ الخبـز الحـافي. فقد رفضها الناشرون العرب لعنفها، فلم يتأت نشرها إلا في ترجمته الفرنسيـة.
اللغـة الفرنسيــة
كانت اللغة الفرنسية التي أدخلها الاستعمار إلى المغرب العربي محملة بنفي شامل ليس للثقافات المحلية فحسب، بل وكذلك للثقافة الإسلامية. لقد جسدت بحضورها في المغرب العربي قانون المستعمر، لكنها جسدت أيضا، وبشكل أساسي، علاقة هذا المستعمر الأكيدة مع قيم الحداثة والتقدم والعلم. ومن ثم، فما تتضمنه اللغة الفرنسية إنما هو كبت مجموع الثقافة المغاربية باعتبارها ثقافة «متخلفة» و«لاعقلانيــة».
وإذا كانت هذه اللغة تدعم بسهولة القطيعة مع محرمات القيم التقليدية كما تعبر بجموح عن عدم الإيمان – على الأقل ما يخص منه العقيدة – فإنها تظل حاملة لمنع قوي فيما يتعلق بما يسمى باللاعقلاني. وتكشف شهادات المطببين المغاربيين أنه بينما لا يمكن قول ما يتعلق بما يسمى بالممارسات السحرية كـ«العين الضارة» (مالك شبل، 1984) إلا باللغة الأم، يميل القول الموجه لممارسين فرنكوفونيين بلغتهم إلى الارتكاز على نمطهم التفسيري العقلاني، أو يلزم على الأقل الـتـزام حذر ترقبي.
اللغـة العربيـة العصـريـة
توجد اللغة العربية التي أسميتها في مكان آخر لغة التعريب (ج. غرانغيوم، 1983: 24) في المغرب العربي للتعبير عن قانون الدولة من منظور تنموي. وإذا كانت هذه اللغة في محتوياتها الأساسية تستلهم اللغة الفرنسية، فإنها تأخذ من وجهة نظر القيم التي تنقلها مكانة اللغة القرآنية. ولكونها تخدم الدولة، فهي تحمل منعا مزدوجا: منعا للغات المحلية، والبربرية أساسا، لفائدة الوحدة الوطنية، ثم منعا للفرنسية لصالح الوطنية الدولاتية. وهذا المنع المزدوج هو الذي يقود المسؤول القروي، إذا ما اضطر للتحدث في المذياع، إلى الاعتذار عن حديثه باللغة الدارجة، ويقود الموظف السامي الذي يجهل العربية إلى طلب المعذرة لكونه سيتحدث بالفرنسية. وإذا تمسك الإثنان بالتكلم بالعربية العصرية، فقد الأول تلقائيته وفقد الثاني وضوحه. وهذه الوقائع السائدة في الحياة اليومية بالمغرب العربي تكشف بسهولة عن حجم المنع الذي يثقل كاهل هاتين اللغتين، اللغة الأم واللغة الفرنسية، والمرجعيات الثقافية المقابلة لكلتيهما.
وعلى العكس من ذلك، ففيما يخص القيم المركزية تستعيد هذه اللغة العربية العصرية القيم نفسها التي تؤكدها اللغتان الأم والقرآنية، خاصة ما تعلق منها بأولوية الرجولة. ولا يستثنى من ذلك سوى تيار لغوي جد أقلي قد يرتكز على الإيديولوجيا العلمانية المنغرسة في المشرق، وهي إيديولوجيا تقترح تعريبا بدون أسلمـة.
ج – كيفية القول أو الممنوع / داخل – القول
لنتذكر أن اللغات تستعمد قيمتها أساسا من طريقة استعمالها. وتسمح معاينة ما يجري في المغرب العربي ملاحظة أنه في بعض الأحيان يتم كسر ضغط اللغات، وأن لغة الحياة تتمكن من العوم عبر كلمات التقليد أو التراث، والوطنية أو العقلانية. يتحقق ذلك بتصرف أفراد يتوصلون في مواجهتهم لعدد من الصعوبات والمحرمات والممنوعات إلى خلق فضاء حر لكلماتهم الخاصة بهم، وذلك بالاحتيال على كلمات لغة واحدة أو باللعب على تعدد اللغات. وقد فهم هؤلاء أنه لا يمكن انتظار أي حرية من السلطة، وخاصة داخـل اللغـة.
وإلى جانب لغة أم تردد كلمات التقليد داخل العائلة وشعارات الامتثالية في الإذاعة توجد لغة أم أخرى تقول الرغبة في الحرية وضمان المصير رغم الصعوبات التي تعترض ذلك. وتلك هي حالة عدد كبير من المغنين في المغرب العربي، أفراداً أو جماعات (م. درنوني وب. زولف 1980: 3 – 13، وفاطمة ينترن، 1985)، وكتاب المسرحيات (زهرة زياغ، 1984). ويكشف النجاح الذي يحرز عليه كل هؤلاء عن أثر التحرر الذي ينتجه داخل اللغة انبثاق اهتمامات معاشة على شكل أفكار ممنوعة أو استيهامات متعذرة المنال. وفي الممارسة الصحفية يؤدي تحول متواصل إلى خلق لغة جديدة. أب جديد يستطيع التكلم مع ابنه، رجل يستطيع إعلان حبه لامرأة[3]، حتى ولو اقتضى ذلك استعارة حيل اللغات المرموزة كتلك التي يطلق عليها في المغرب إسم لْغَوْصْ (محمد أسليم، 1985)، وهو اسم مشتق من جذر عربي يدل، فوق ذلك، على الغـوص…
لكن اللغة الأكثر استعمالا في هذا المجال هي الفرنسية باعتبارها اللغة الأكثر ابتعادا عن المحرمات التقليدية التي يثير انتهاكها الحيرة والتردد ما لم يثر القلق. كما أن استعمال هذه اللغة قد يتيح الدخول إلى «القارة المجهولة» مع الحفاظ على وهم أو رغبة البقاء في علاقة مع العالم الأكثـر طمأنـة، عالـم القيم التقليدية الذي تستمد منه الرجولة ضمانتها.
من الصعب جدا الإحاطة بحالة اللغة العربية نظرا للثقل الذي ينزل عليها. فهي تتلقى ضغطا قويا في المغرب العربي من قبل الإسلام والدولة. وما يقال بها يجب أن يكون إسلاميا أو وطنيا. وكون هذه اللغة لا تستعمل في التخاطب اليومي يمنعها من اكتساب المرونة التي من شأنها أن تمكِّنَ مستعمليها من الاحتيال على الممنوعات. وهذا السبب أيضا هو الذي يجعل التعبير باللغة العربية العصرية يبدو في أغلب الأحيان موسوما بامتثالية تولد الإحساس بالملل كما يحصل لدى تقديم النشرات الإخبارية المتلفـزة.
يحاول بعض كتاب اللغة العربية رفع هذا الثقل بتحرير اللغة من الداخل. غير أن ذلك لايتم إلا بصعوبة في المغرب العربي لأن المؤلفين القادرين على تحقيقه يفضلون غالبا اللجوء إلى اللغة الفرنسية حيث يتطلعون إلى العثور على حرية أكثر في التعبير، علما بأن هذه الحرية تتوفر في اللغة العربية على خلفية ثقافية متينة ضمن أدب ليس كله ورعا ونسكا. فمن خلال عدد كبير من الأبحاث والحكايات والرسائل – التي يزودنا الباحث عبد الوهاب بوحديبة (1975) بفكرة عنها – يتضح أن أدب هذه اللغة يتوفر على واجهة صلبة مخالفة لما هو معروف عن الحشمة الرسمية. إلا أنه ليس من المؤكد أن القائمين على الرقابة حاليا يرغبون في ذلك. فحكم الإحراق الذي وقعت ضحيته حديثا بالقاهرة الطبعة الكاملة لألف ليلة وليلة (لوموند 25 – 5 – 1985) بدعوى أنها «مخلة بالأخلاق ومناهضة للإسلام» يشكل مثالا مقلقا لما يمكن أن تكون عليه مشاغل بعض الأوصياء على اللغة العربية في هذا الباب.
3 – حـول اللغــة والأب
عندما يشهد مجتمع من المجتمعات تحولات جذرية – سواء تم الاغتباط بها أو لا – هل يمكن للغة أن تستعمل كلمات تجهل هذه التحولات أو تتجاهلها؟ هل وظيفة اللغة هي التمسك بوهم الثبات والعودة الممكنة للأصل من خلال جعل هذه التحولات وكأنها ليست سوى تأثيرات عابرة لتدخل أجنبي؟ هل يمكن التأكيد على أن كل شيء يتغير ولكن القيم تظل كما هي؟
لقد عرفت المجتمعات كيف تشيد أنظمة رمزية وأخرى تفسيرية لما يظل سرا غامضا بالنسبة للنـاس، ولكنـه يقع في صلب اهتماماتهم، كلغز الأصل، واختلاف الجنسين، والموت. وما يميز المجتمع الحديث هو نبذه لكل ما لا يقبل أن يشكل موضوعا للمعرفـة العلمية. وكثيرا ما وقع مدبرو عالم الألغاز التقليديون أنفسم في أسر اللامعقول مشاركين بذلك في «تبديد أوهام العالم»، هذا، الذي يتحدث عنه مارسيل غوشي (1985). وقد ترتب عن الإنكار الذي عرفه الرمزي في العالم الحديث عموما عودة ما يسمى بالممارسات اللاعقلانية كالشعوذة والسحر أو – بكيفية أبسط – إعادة نسق المعتقدات القديمة كما في حالة التيارات الأصولة.
لقد أخذت هذه الحركة العامة وما يرتبط بها من شعور بالضيق، بل وحتى القلق، في الاتساع لأن لاشيء من ذلك كله وجد مكانا له داخل اللغة. لقد كان غرضي هنا هو إظهار كيف أن اللغات تجد نفسها، في حالة المغرب العربي، أمام صعوبات. تجد نفسها أسيرة داخل كلماتها لتقول ما لم تكن تقوله أو ما لم يحدث من قبل: رجولة لازالت تشكل موضوع تأكيد، لكنها محرومة من دعامتها، تصور للشرف مقتلع من مرجعياته، و – بصفة عامة – سلوكات تتخذ من الجماعة مرجعا لها في وقت حلت فيه محلها مجموعة من السلوكات الفردية الغفلة. فقواعد السلوكات التي كان التقليد ينقلها بعناية ويفسرها من وجهها وظهرها، في ظاهرها وباطنها، قد استبدلت بتعليمات تنشرها بشكل متزايد تلك الموضات المبتذلة والسريعة الزوال التي يذيعها الإعـــلام.
كان يجب تمكين كل هذه التحولات من القول. لكن اللغات مشحونة بالممنوعات ومشبعة بالكلمات: كلمات السياسي، والعقلاني، والخطاب الإعلامي. وهذه الكلمات لا تترك داخل اللغة مكانا لتعبير النقل والإبداع. وفي الواقع، ما من لغة إلا وتكون رهان سلطة يحتوي على ما يجب أن يقال وما لا يجب أن يقال: لغة خشب، لغة اصطلاحية ترغم كل فرد على الاحتفاظ لنفسه بالأسئلة التي تخامره، إن لم ترغمه على كبتها لأن الكلمة هي خاصية الناطقين بلسان الحال بمختلف أشكاله: السياسي، والديني، والعلمي… وقد يكون بديل ذلك هو لغة متحررة من كلمات السلطة، تتيح لكل فرد أن يعبر عن الرغبة بأشكالها المتعاقبة والمتعارضة وجدانيا، بل وحتى الغامضة.
ليس بمقدرة أي لغة أن تستجيب كليا لهذا المتطلب، لأن ما من كائن بشري أو مجتمع إلا ويخفي منطقة لا شعورية فيه، متعذرة المنال لكنها تدخل ضمن ما يشكل جوهر لغته. وبين اللاشعور والشعور، بين الباطن والظاهر تحقق اللغة الممتلئة هذا الرواج الذي تعرفه الكلمات والأساطيـر والاستيهامات، والذي يشكل متنفسا لهذه اللغـة. ولكن عندما صارت اللغة سجينة الكلمات وعاجزة عن نقل الكلمة الحقيقية لمجتمع ما أو فرد ما، فإن ذلك قد أفضى إلى نوع من الاختناق أو الشلل. والشيء نفسه يحصل عندما تعود مكانة الأب غير قادرة على التعبير عن نفسها بسبب فقدان سمات الرجولة (محمد شعبان، 1984). ويوم يتم الاعتراف بالمذكر في لقائه مع المؤنث وليس في إقصائه أو رفضه، آنذاك يمكن لتداول جديد للكلمة أن يحل محل الاستيهامات والمتخيل.
لقد قال لي ذات يوم صديقٌ مختصٌّ في التحليل النفسي: «عندما تصير اللغة رهان سلطة، فإن مكانة الأب هي الْمُـهَدَّدَةُ ». وهذا بالضبط هو ما حاولتُ إظهاره في الصفحات السابقة.
——–
الهـوامـش والمراجـــع
ACHA, G.
1985, Les hommes ont sur elles une prééminence, thèse de Doctorat, Paris III, ronéo.
ASLIM, M,
1985, «Comment dire ou la langue de lghaws au Maroc», Peuples méditerranéens, N° 33, Oct. Déc., pp. 103-107.
BENDAHMAN, H.
1984, Personnalité maghrébine et fonction paternelle au Maghreb (Oedipe maghrébin), La pensée universelle.
BOUHDIBA, A.
1975, La sexualité en Islam, Paris, P.U.F.
BOURDIEU, P.
1972, Esquisse d’une théorie de la pratique, Genève, Drose.
1980, Le sens pratique, Paris, éd. Minuit.
CHABANE, M.
1984, «Virilité et paternité. A propos des plaintes somatiques des hommes au Maghreb», Psychanalystes, N° 12, Juillet, pp. 19-38.
CHEBEL, M.
1984, Le corps dans la tradition du Maghreb, Paris, P.U.F.
CORAN.
1967, L’édition bilingue, Dâr Al kitâb Allubnânî, Beyrouth, Traduction D. Masson, Gallimard.
CHOUKRI, M.
1980, Le pain nu, Récit autobiographique traduit de l’arabe par T. BENJELLOUN, Paris, Maspéro.
DERMENGHEM, E.
1954, Le culte des saints dans l’islam maghrébin, Paris, Gallimard.
DERNOUNY, M.
et ZOULEF, B.
1980, «Un chant protestataire marocain», Peuples méditerranéens, N° 12, Juill. Sept., pp. 3-31.
FREUD, S.
1975, Cinq psychanalyses, Paris, P.U.F.
GAUCHET, M.
1985, Le désenchantement du monde, Paris, Gallimard.
GRANDGUILLAUME, G.
1983, Arabisation et politique linguistique au Maghreb, Paris, Maisonneuve & Larose.
GEERTZ, H.
1979, Meaning and order in Moroccan Society, Cambridge, Univ. Press.
KAZIMIRSKI, A.
1960, Dictionnaire arabe-français, Paris, Maisonneuve, T. II.
LORAUX, N.
1981, Les enfants d’Athéna, Maspéro.
MAJNOUN LAYLA
1984, L’amour poème, traduit par A. MIQUEL, Seuil.
MERNISSI, F.
1983 (a), Qui l’emporte, la femme ou l’homme? conte populaire marocain recueilli par Fatima MERNISSI et illustré par SALADI, Casablanca.
1983 (b), Sexe, Idéologie, Islam, Tierce.
MIQUEL, A.
1984 (a), Layla ma raison, Seuil.
MIQUEL, A.
et KEMP, P.
1984 (b), Majnoun et Layla: L’amour fou, Sindbad.
MOHYA, N.
1985, La thérapeutique traditionnelle dans la société kabyle, Thèse de Doctorat, Paris VII.
NAOURI, A.
1985, Une place pour le père, Paris, Seuil.
NIATI, I et
KEBBATI, I.
1983, El – Bayt es sa’îd (البيت السعيـد): mythes et réalités, Analyse d’un discours culturel, mémoire d’Université d’Oran, Institut des Sciences Sociales.
RIFFLET – LEMAIRE, A.
1970, Jacques Lacan, Bruxelles, ch. dessard.
RODINSON, M.
1984, «L’intégrisme musulman et l’intégrisme de toujours. Essai d’explication», Raison Présente, N° 72, 4ème trim., pp. 89-104.
SCHNEIDER, M.
1985, «Père, ne vois – tu pas…?», Le père, le maître, le spectre dans l’Interprétation des rêves, Denoël.
SIAGH, Z.
1984, Les usages linguistiques dans le théâtre amateur algérien (1978 – 1981), thèse de Doctorat, Université de Paris V.
TILLON, G.
1966, Le Harem et les cousins, Paris, Le Seuil.
VALABREGA, J. P.
1980, Phantasme, mythe, corps et sens, Paris, Payot.
YANTREN, F.
1985, Chants kabyles modernes et expressions d’identité, mémoire de l’E.H.E.S.S.
ZERDOUMI, N.
1970, Enfants d’hier, l’éducation de l’enfant en milieu traditionnel algérien, Paris, Maspéro.
الحـداد طاهر، مرأتنا في الشريعـة والمجتمع، تونـس 1936، أعادت طبعه الدار التونسية للنشر سنـة 1980.
———-
هوامــــش
[1] – يوجد تفسير لهذا اللقاء في كتاب أنيكاريفلي بوميـر (1970).
[2] – ملاحظة أوردتها زهور بنشمسي [من المغـرب] ضمن مداخلة لها في إحدى الحلقات الدراسية الخاصة بأنثروبولوجيا العالم العربي بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريـس خلال الموسم الجامعي 1984 – 1985.
[3] – وقد عالج مؤخرا الفيلم الجزائري عمر قتلاتو (عُمَرٌ قَتَلَتْهُ [الرجولة]) تعقيد نمط جديد من العلاقة داخل الثقافـة.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 20-09-2012 09:23 مساء