موضوع هذا البحث دلالة مفهوم الجماعة. وفيه أريد أن أدرس ما يمكن لمفهوم اللغة أن يقدمه لاستيعاب نظيره الجماعة.
لن أنطلق في هذا التأمل من المفهوم الأخير. فهو يبدو فضفاضا جدا فضلا عـن كونـه يشكل موضوع هذه الصفحات. وبالمقابل، سأكتفي بقول إنه يأخذ مظهرا مزدوجا: مظهر الواقع الاجتماعي، ومظهر شكل رمزي. وعلاقته باللغة تتم في المظهر الثاني بالتحديد.
في المرحلة الأولى من هذه الدراسة سأتساءل عما تقدمه اللغة للجماعة، وفي الثانية سأحاول رؤية حدود هذا التقديم فيما يخص الجماعة بالمغرب العربي.
1 – اللغــة والجمـاعـة
لدى دراسة وظيفة أي لغة من اللغات، يمكن الانطلاق من جانبين: الأول يتمثل في اعتبارها أداة للتواصل تُمَكِّنُ الناس من تبادل معلومات فيما بينهم. وهذا المظهر واقعي، ويمكن إدراكه بكيفية مباشرة جدا، غير أنه يُعَدُّ المظهر الأكثر سطحية في اللغة. ومن شأن الاهتمام به في المقام الأول أن يقودنا إلى الحديث عن الجماعات اللغوية باعتبارها جماعات بينها تفاهمٌ لغويٌّ يمكن ربطه بعناصر اجتماعية أخرى كمستوى العيش والسكـن والنشاط المهني، إلخ. وفي هذا المستوى تُنْجَزُ الدراسات السوسيولسانية. وهي تتوصل طبعا إلى نتائج هامة.
ومع أنني لا أنكر ما لهذه الوظيفة الأولى من أهمية فسأتركها جانبا لأقتصر على تناول المظهر الثاني من وظيفة اللغة لأنه يقدم تصورا أكثر شمولية. وبالفعل، إذا كانت اللغة تصلح للتواصل فهي تصلح أيضا – بل وربما أساساً – للوجود. فالفرد يُشَيِّد هويته داخل هذه العلاقة بين التواصل والوجود، وعبر اللغة التي ندرس صِلتَها بالجماعة.
يمكن صياغة ما أود قوله هنا على النحو التالي: اللغة هي ما بِهِ وعبْرَهُ تتحقق التنشئة الاجتماعية للفرد وهَيْكَلَةُ وجوده الاجتماعي. هذه اللغة التي تُدخلُ الفرد في علاقة مع المجتمع تُدرِجُه في عملية مزودجة حيث يُعترَفُ له بهوية – هوية عضو داخل المجتمع – ويحصُلُ على اعتراف مقابلَ قبول قانون الجماعة. بهذا المعنى، فاللغة تحدد البنية الرمزية للجماعة.
اللغة مكــان التنشئة الاجتماعية
إذا كان الطفل يدخل في عملية التنشئة الاجتماعية منذ مرحلة الحبل، فإن هذه العملية في الواقع لا تتحققق بعمق إلا بوصوله إلى اللغة. وهو أمر يتم في المحيط الأول، أي في المحيط العائلي. فالطفل لا يحصل على صفة عضو في العائلة إلا بالكلمات التي يسمعها ثم يرددها. وفضلا عن ذلك، فإن تسميته نفسها تعود إلى هذا المظهر بالضبط، إذ يقال له «Infans» (الذي لا يتكلم). والاندماج التدريجي للطفل في محيطه لا يتم بمحاكاة خالصة أو بمجرد ترويض، بل يتم أساسا باللغة، أي داخل هذا المكان الذي توجد فيه الجماعة العائلية واللغة الأم في آن واحد.
ومن خلال التفكير في ما يتم في هذا «الاندماج الاجتماعي» للطفل في العائلة بواسطة اللغة يمكن أن نفهم ما يجري داخل العائلة نفسها. ففعل التكلم يقتضي من الطفل أن يتخلى عن عالمه المتخيل متمثلا في الأشياء بحيث لا يقول منه إلا ما تسمح له به الكلمات التي منحه إياها محيطه. لكن التخلي عن الأشياء هو في الوقت نفسه امتلاك لها عن طريق تسميتها، أي تعويض عن غيابها الرَّضِّي[1] بحضورٍ رمزي للإسم. وهذه التجربة يعيشها الطفل في البداية مع أمه باعتبارها أهم الموضوعات بالنسبة له.
وبذلك، فانتقال الطفل إلى اللغة يكلفه فُقدانَ ثراء عالمه الفردي – الذي تعجز الكلمات كليا عن تسميته في كليته – وتحقيقَ انتقال في اتجاه الخارج، أي دخول إلى عالم الكائنات المحيطة به. وهذا الأمرُ مـن الصحة بحيث عادة ما يُفَسَّرُ بطء الطفل في تعلم الكلام باعتباره تعبيرا عن رفضه لمحيطه. وعلى العكس من ذلك، فتكلمه الذي يرفع عنه صفة infans يشكل انطلاقة لاندماج جديد واعترافا من المحيط بأن الطفل قد أصبح «شخصا».
وبذا تتضح الحركتان اللتان تفضي إليهما اللغة: الأولى تتمثل في اعتراف الجماعة بالفرد باعتباره أحد أعضائها، الأمر الذي يُمَكِّنُه من معرفة أنه فرد، أنه كالإسم العائلي يأتي ليحدد الإسم الشخصي. أما الحركة الثانية، فتتمثل في كون الفرد لا ينال هذا الاعتراف إلا مقابل قبوله لغة الجماعة، أي قبول ما يُمنَح له من كلمات بأصواتها، ومعانيها، وقواعدها الصرفية والتركيبية. وكل هذا يمثل في الواقع قانونا وإطارا وتصورا – للعالم المحيط بالفرد – مفروضا ومُحَدَّدا مُسْبَقا. ورغم أن هذا القانون المفروض على الطفل يبدو «طبيعيا»، فإنه في الواقع تخطيط في منتهى الدقة تفرضه اللغة على تلقائيته، وتفرضه الثقافة فيما وراء ذلك. ونقصد هنا بالثقافة مجموع القيود التي تفرضها الحياة الاجتماعية.
يتضح مما سبق أن اللغة تتجاوز مجرد أداة للتواصل. فهي تشمل مجموع الإطار الاجتماعي بضغوطه ومتطلباته. ولذلك يمكن اعتبارها والثقافة متكافئتين: فهما معا تشكلان القوانين والقيم التي على الفرد أن يقبلهما كي يُدمَج في المجتمع ولا يتعرض للنبذ والتهميش، ويُعْتبَر بالتالي غير ســـوي.
وما يحدث على الصعيد العائلي يتم على صورة ما يتكرر في كل مرحلة من مراحل التنشئة الاجتماعية. إنه قبولٌ للتكلم بلغة جماعةٍ من أجل الحصول على اعتراف بعضويةٍ داخلها. يقتضي الأمر دائما قبول قانونٍ مقابل التخلي عن هويةٍ، فقدانَ «فرادنية» من أجل الحصول على اعتراف، خضوعــاً مقابل هوية.
هذه التنشئة الاجتماعية بواسطة اللغة تتم أولاً داخل العائلة. وكون العائلة أول جماعةٍ يعرفها الفرد في حياته ليس بالأمر الخالي من الأهمية، إذ يبدو لي أن عبارة «جماعة عائلية» تتجاوز مجرد تسمية. أعتقد أن كل استعمال لكلمة «جماعة» يوحي بإحالة على النموذج العائلي، يوحي برفض تراكم طارئ لفائدة نموذج رابطٍ أكثر عمقا. لكن، ألا تجتمع العائلة بوثاق الكلمة أكثر مما تجتمع برباط الدم؟
نستنتج من هذه العلاقة القائمة بين اللغة والجماعة أنها تتم في اتجاه تنشئة اجتماعية للفرد. تتم عنده بتبني لغة بالمعنى الكامل، أي بقبول القانون الثقافي لجماعة ما، بدءا من جماعة والديه، ومن ثم فالفرد يستفيد من الهوية التي تعترف له بها هذه الأخيرة ضمنيا بأنه قد صار عضوا فيها، الأمر الذي يتيح له أن يعثر خارج نفسه وفي واقع الكائنات على نقطة ارتكاز ليست متخيلة، نقطة عدَّلهَا واقع الكلمات.
بتعبير آخر، اللغة هي القانون الذي تفرضه الجماعة على الفرد، هي الشرط الذي تضعه الجماعة أمام الفرد كي يحصل على هوية اجتماعية مُعْتَرَفٍ بها. بهذا المعنى يجب أن يكون لكل جماعة لغة خاصة بها تعبر داخلها عن ثقافتها، أي عن مجموع القيود التي تفرضها على الفرد مقابل حصوله على صفة عضو والاعتراف به.
2 – اللغة والجماعة في المغرب العربي
يمكن وصف الوضع اللغوي في المغرب العربي انطلاقا من ثلاثة مستويات: مستوى اللغة العربية المكتوبة التي تسمى عربية كلاسيكية، ومستوى اللغات الشفهية التي تسمى عموما لهجات – عربية أو بربرية – والتي نفضل أن نسميها بلغاتٍ أمٍّ، ثم مستوى اللغة الفرنسية التي أدخلها الاستعمار والتي تحتل مكانة مترسخة في السياق الراهن. وسنترك الآن جانبا ما يُصطلح على تسميته باللغة العربية العصرية الكتابية التي تستعمل في الصحافة والإذاعة والتلفزة، لأن مَرجعها الجماعي ليس واضحا.
فيما يخص اللغات الأخرى، تتأصل كل واحدة منها في جماعة ما. فاللغة العربية، كما يؤكَّدُ عليه كثيرا حتى اليوم، هي لغة القرآن. وهي تحيل أساسا على الأمة. ورغم أن استعمالها في سائر العصور لم يكن دينيا خالصا، فإن جميع المسلمين المغاربيين لا يتأثرون بها إلا في إطار هذه الإحالة الأولى؛ الإحالة على جماعة إيديولوجية وليس سياسية (رغم الميولات التي لا يكف أنصار الجامعة الإسلامية عن ترديدها). وهي جماعة لا تعيش تناقضا مع أي جماعة أخرى، باستثناء جماعة الكفار والمعادين للإسلام كما كان عليه الأمر مع حالة الجماعة الاستعمارية. وأكبر علامة على ذلك هو طقس حفظ القرآن الذي كان إلى وقت حديث جدا يُفْرَضُ على الأطفال، في إطار المدرسة القرآنية (الكتاب أو المسيد)، دون اكتراث بمعاني هذا النص. فقد كان التفاوض مع مَحْمِيَة القرآن يشكل طقس اندماج في الأمة الإسلامية.
ترتبط اللغات الأم بعلاقة وثيقة مع الجماعة الأصلية. وما قلناه أعلاه عن التنشئة الاجتماعية ينطبق أساسا على اللغة الأم، إذ بواسطتها يقيم الطفل أول علاقة له مع المجتمع. فضمن أي جماعة تتأصل اللغة في المغرب العربــي؟
يجب البحث عن هذه الجماعة في الخريطة اللغوية. وأول تقطيعٍ موجودٍ في هذه الخريطة يقومُ بين اللهجات العربية والبربرية. لكن هذه اللهجات ليست متجانسة. فاللهجات العربية رغم كونها تتيح لمتكلميها التفاهم فيما بينهم، ليست متماثلة لديهم جميعا. إذ يمكن التمييز فيها على الأقل بين لهجات تونس، بتنويعاتها الحضرية والقروية، ولهجات الجزائر الشرقية، ولهجات الجزائر الغربية، ثم لهجات المغرب. واللهجات العربية الصحراوية تتضمن هي الأخرى تنويعات جهوية. وأحيانا يكون التمركز محصورا جدا كما في حالة لهجات تلمسان ذات الأصالة المعروفة.
أما فيما يخص اللهجات البربرية، فالجزائر تشتمل منها على ثلاث مجموعات هي: القبائلية والشاوية والمزابية، بينما يشتمل المغرب على بربرية التاشلحيت وبربرية التامازيغت ثم بربرية الريف. ومع أن مختلف هذه اللهجات تشكل «مِهَاداً» جغرافية، فإنه لا يمكن القول إنها تطابق أقاليم جغرافية محددة بشكل دقيق، وذلك نظرا للتزايد المطرد لنسبة المتلكمين بها. ومن ثمة، فاللغة هي التي تتيح معرفة ما إذا كان هذا الفرد أو ذاك شلحا أو تلمسانيا، حتى وإن وُجِدَ هذا الشخص بعيدا عن المنطقة التي ينحدر منها.
أما اللغة الفرنسية فتتأصل في جماعة أجنبية تقع خارج البلد. ومع ذلك، يمكن التساؤل عما إذا كانت قد أصبحت تشكل في المغرب العربي، وبكيفية متزايدة، لغة اجتماعية نخبوية النزعة.
وفيما يخص الجماعة التي يمكن أن تحيل عليها لغة ما، يجب إقامة تمييز هام بين حالتين: حالة تكون فيها هذه الجماعة أمَّة، كأن تكون جزءا من أمة كحالة الجماعات البربرية، أو جماعة تغطي عدة أمم كما هو شأن الجماعات الكردستانية.
وبالنسبة للمغرب العربي، سندرس حالتين تظهر فيهما بكيفية واضحة هذه العلاقات القائمة بين اللغة والجماعة. الأولى حالة لغة دولة ليس لها جماعة، وهي حالة اللغة الوطنية في التعريب. والثانية حالة لغات جماعة بدون دولة، أي لغات ليست وطنية. ورغم أن هاتين الحالتين تهمان مجموع المغرب العربي، لأن مشكلة التعريب مطروحة في الدول الثلاث واللغات المتكلمة فيها كلها لهجات، فإنه يمكننا حصر التأمل في نقطتيهما الأشد سخونة. يتعلق الأمر بمشكلتي التعريب ولغة القبائل في الجزائر.
3 – التعريب والجماعة الوطنية في الجـزائر
تهدف السياسة التي تسمى بسياسة التعريب في الجزائر إلى جعل اللغة العربية الكتابية لغة وطنية تُستَعمل استعمالا فعليا. ورغم أنه لا يقال بوضوح ما إذا كان يتعين على هذه اللغة أن تعوض اللهجات في الاستعمالات اليومية، فإن هذا الهدف قد لا يكون غائبا. والمكانة التي يتعين على لغة التعريب أن تأخذها هي المكانة نفسها التي كانت – ولا زالت – اللغة الفرنسية تحتلها في مختلف قطاعات الحياة بالبلاد.
إجراء لشرعنـة نظام الحكم
لقد قاد هذا الإجراء دول المغرب العربي إلى تطوير لغة وطنية باعتبارها علامة ووسيلة للارتباط بجماعة. وهو إجراء لا يخص المغرب العربي وحده. فقد عرفته جميع الدول منذ ولادة النزعة الوطنية. فالثورة الفرنسية اختارت التعدد اللغوي في البداية، سنة 1870، إلا أنها تراجعت بسرعة كبيرة عن هذا الموقف لصالح لغة وطنية موحدة. والجمهورية الفرنسية الثالثة ذهبت بتحقيق هذا التوحيد اللغوي متماهيا مع الوعي الوطني الجيد إلى حد تصفية اللهجات الجهوية. فماذا عن دول المغرب العربي؟
ما من نظام حكم في بلدان المغرب العربي الثلاثة إلا ويحمل ببنيته علامة أصله الاستعماري. وإذا كان وهمُ استمرار الدولة طوال حقبة الاستعمار قد قنَّعَ هذا الأصل في المغرب وتونس، فإن الأصل نفسه يظهر بوضوح كبير في الجزائر. فالسلطة الدولاتية – التي يجب الفصل بينها وبين الأشخاص الذين يمتلكونها – غريبة بأصلها وغريبة بالمهمة التي عليها أن تحققها باعتبارها «رسالة»: مهمة إنجاز التنمية التي بدأها، بل وأساء بدأها الاستعمار، والتي تتمثل في السعي إلى تحديث البلاد من خلال زرع أدوات وممارسات وقيم مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في الماضي.
ورغم قلة التشديد على هذه الارتباطات الخارجية للحكم، فإنها تظل مُعْطى واقعيا وتَجرُّ عليه قلقا يضطر معه إلى البحث عن نيل اعتراف به باعتباره حُكما نابعا من الداخل، وذلك بلجوئه إلى نوع من التكريس الرمزي لشرعنة نفسه. كذلك، من مظاهر منطق سياسة التعريب محو الأثر الأجنبي في غلاف لهجة مُعترَف بها باعتبارها لهجة نابعة «من الداخل». وهذا هو الدور المسند للغة العربية: دور تحقيق نوع من الإدماج للمضامين الأجنبية من خلال إعادة قولها باللغة العربية.
لغة الدولة تبحث عن جماعـــة:
اللغة المستعمَلة في هذه العملية هي اللغة العربية التي تسمى عادة العربية العصرية، ويقال لها أحيانا «اللغة الثالثة». وهي لغة عربية في بنياتها الصرفية والتركيبية، لكن مضامينها تتسم في العمق بكثرة المنقولات الخارجية العصرية.
وهي لغة مكتوبة، إذ رغم كونها تشكل أداة للتواصل في ظروف رسمية فهي لغة لاتعود ملكيتها لأي أحد، ولا تشكل لغة للتخاطب لدى أي جماعة من الجماعات. وأقل من ذلك، فهي ليست بلغةٍ أمٍّ لأي جماعة (تحَدَّدُ هذه الأخيرة أسطوريا، أحيانا، فيقال إنها تنحدر من صحراء سوريا أو حدود الربع الخالي…). وهذه اللغة في الجزائر هي لغة جهاز الدولة، أو على الأقل هي اللغة التي يريد هذا الجهاز أن يستخدمها. وهي تبدو لأجيال المسنين بمثابة لغة هجينة، غير مفهومة، بل ومقلقة خاصة عندما يجد المرء نفسه مرغما لاستعمالها في سياقات محددة.
ولكونها لغة لا تتأصل في أي جماعة، فهي لغة دولية. إنها لغة المواطَنَة العالمية، تُمرِّر في تكيفها مع العالم المعاصر محتوى دلاليا أجنبيا. إنها «حصان طروادة للتغريب» في مضامينها كما في صيغها. وكما يقول جاك بيرك، فـهي «لا تملك نكهة اللهجة ولا عمق العربية الكلاسيكية». وهي في الوقت الراهن لا زالت توجد في وضع اللغة الأجنبية. إنها بصدد البحث عن جماعة قد تكون، في منطق التعريب، هي الجماعة الوطنية.
تسير الحجج التي تقدَّمُ عادة للدفاع عن التعريب في اتجاه البحث عن «تثبيت جماعي». وهي تنقسم إلى نوعين: الأول يرغب في تبني اللغة العربية بحجة أنها اللغة الأم، والثاني يرغب في ذلك بحجة أنها لغة القرآن. فماذا عنها في الواقع؟رغم أن الفكرة الأولى تَتردد بكثرة، فهي خاطئة كليا لأنها لا تنطبق على المتكلمين باللغة البربرية كما لا تصدق على الذين لغتهم الأم واحدة من اللهجات العربية، لأنه لدى كتابة أي لهجة من هذه اللهجات يتضح أنها لا تطابق اللغة المعنية. فالذين لم يتعلموا هذه اللغة العربية العصرية لا يتمكنون من التعبير بها لسبب وحيد يعود إلى لغتهم الأم. والواقع هو أن اللغات الأم موجودة وأنها مختلفة. ولولا ذلك لما طُرح مشكل التعريب ولطُرحَ بدله مشكلُ محو الأمية.
أما الحجة الثانية فهي ليست أكثر إقناعا من الأولى: أن تحظى العربية الكلاسيكية بالقبول والاحترام لكونها لغة القرآن، فهذا أمر بديهي. لكن الجزائريين ظلوا مُسلِمين مع حفاظهم على لغتهم الأم، عربية كانت أو بربرية. وهذه الأخيرة تكيفت دائما مع دراسة لغة القرآن المقدسة، بل وحتى مع استخدامها استخداما كتابيا لأغراض دنيوية. لقد كان الانتقال إلى الكتابة في الماضي يتم دائما باللغة العربية، لكن دون أي نيل من قيمة اللغة الأم أو الكف عن استعمالها اليومي بذريعة أنها ليست لغة للإسلام أو أنها غير لغة القـــرآن.
وبذلك يتضح أن المشكل ينحدر بالتأكيد من إدخال لغةٍ جديدة مصاحبة لإدخال بنية جديدة وجهاز جديد وطريقة جديدة للتفكير في المجتمع باستدعاء مصطلحات الأمة والدولة والسلطة المركزية التي تفرض الاعتراف بها.
4 – الإحالة على حقيقة الواقع السياسي
نظرا لأن اللغة العربية العصرية لا تحيل على أي جماعة محددة فهي ترتكز، في سياق التعريب بالجزائر، على حقيقة واقعها السياسي. وهو يبدو وثيـق الصلة بواقع الجهـاز الدولاتي، أي لا يبـدو كظاهـرة مشاركة متجانسة وإنما كحركة أو فعل سياسي.
أحد مظاهـر هذا الواقع يتعلق بشرعنة الحكم. ففي السنوات الأولى لسياسة التعريب كانت هذه السياسة تبرر نفسها بالإسلام أكثر من غيره، لأنه يعتبر مصدر الشرعنة الداخلي الوحيد المعترف به في الجزائر. وقد رُبطَتْ تلك السياسة بشكل غير ملموس بفكرة الأمة، وذلك تدريجيا مع تقوية سلطة الدولة والنفوذ الذي أحرزت عليه بفضل منجزاتها، لأن هذا النجاح أتاح لها أن تجعل من نفسها مركزا مستقلا، ومن ثمة أن تتحول بمعنى ما إلى مركز لترميز الحكم.
مظهـرٌ آخر لهذه الحركة السياسية يتمثل في هذا الميل إلى اتساع الرقابة الذي يطبع كل سلطة دولاتية. بهذا المعنى يمكن أن يبدو التعريب بمثابة انغلاق داخل عالم متميز وقابل للرقابة، سواء تمثل ذلك العالم في الصحافة أو وسائل الإعلام أو مجموع الحياة العمومية، لأن تلك الرقابة تحدث قطيعة مع بعض مضامين اللغة الأجنبية التي تفتح على فضاء خارجي.
أخيرا يمكن للتعريب، باعتباره فعلا سياسيا، أن يبدو بمثابة إوالية للانتقاء الاجتماعي وتنظيم ولوج مختلف مواقع السلطة. فوراء مظهر دَمقرَطَة التعليم، مثلا، يمكن للتعريب بالخصوص أن يجعل تعلم اللغة الأجنبية حكرا على الشرائح المهيمنة. الأمر الذي يضمن لها متابعة الدراسات العليا في الخارج ثم الوصول بعد ذلك إلى الوظائف العليا في مختلف الأجهزة. ومن جهة أخرى، يمكن للتعريب أن يشتغل في اتجاه معكوس بإقصائه الذين لا يُتقنون استعمال اللغة العربية من وظائف هامة وجعل هذه الوظائف حكرا على المعربين.
ظاهــرة اللغة الوطنية
كيف يمكن تصور مستقبل لغة وطنية في منطق الحادث الوطني؟ لكي تصير هذه اللغة لغة وطنية، يبدو أنه يتعين عليها أن تكون لغة كتابية. يجب عليها أن تصير لغة للاستعمال اليومي، بل أن تصير اللغة الأم. وهذا ما حدث في فرنسا منذ 1789 إلى أيامنا هذه، حيث أزاحت اللغة الوطنية اللهجات الإقليمية كليا وحلت محلها. بهذا المعنى، قد يكون مستقبل اللغة الوطنية العربية هو أن تأخذ المكانة التي تحتلها حاليا جميع اللهجات العربية والبربرية أو تتحد معها على الأقـل لتشكيل لغة موحدة.
يمكن القول أيضا إن التعريب في منطقه يهدد اللهجات، ومن ثم فهو يهدد الثقافات المختلفة. وبذا لا يمكن الاندهاش من كون التعريب لا يلقى صدى كبيرا لدى الجماعات، البربرية بالخصوص، التي تعد مسألة الحفاظ على اللغة الأم عندها عنصرا أساسيا لضمان استمرارية خصوصيتها الثقافية. ومما يميل بنا إلى تأكيد هذه النقطة الأحـداثُ التي وقعت مؤخرا، بخصوص اللغة القبائلية، مباشرة بعد حملة ضخمة لفائدة التعريب.
5 – لغة بدون دولة: البربرية
اللهجات هي التي تشكل واقع اللغة الأم في المغربي. لقد تحدثنا عن العلاقة القائمة بين اللغة الأم والجماعة. ويمكننا الآن تأمل حالة اللغة القبائلية في الجزائر، والعواقب التي يخلفها سياق الكتابة والأمة المزدوج في اللغة الشفهية.
سيــاق الكتابـة
لكون اللغة القبائلية شفهية خالصة، فهي تبدو للوهلة الأولى مهددة في بقائها ضمن عصرنا هذا الذي يعتبر عصر كتابة بالأساس. إلا أن الأمر في الحقيقة ليس واضحا تماما. فالشفهية تخلص اللغة من الرقابة الأكاديمية، وتتيح لها أن تتكيف باستمرار وتحافظ على حيويتها. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فالانتشار الذي تعرفه حاليا الوسائل السمعية البصرية يضمن هذا المد الذي تشهده الكتابة. فمن الآن فصاعدا، يمكن حفظ العديد من الوثائق الشفهية دون المرور بطـور الكتابة.
ويتمنى مناضلو القضية القبائلية بحماس كبير هذا الانتقال إلى الكتابة. فمطالبهم الأساسية تتمثل في تدريس اللغة القبائلية في المدارس والجامعة. وواضح أن الأمر هنا لا يتعلق باللغة الشفهية، لأن التلاميذ يتكلمونها سلفا، وإنما بتدوينها كتابيا. إلى هذا ينضاف أن مناضلي القضية القبائلية ينحدرون أساسا من المثقفين: هكذا، فهم ربما يميلون إلى اتباع السيرورة نفسها التي تقود اللغات الشفهية إلى التحول إلى لغات كتابية مع ما تستأثـر به الكتابة من سلطـة ورقابـة.
ورغم وجود نوع من المبالغة في اعتبار هذا الانتقال إلى الكتابة بمثابة ترياق فعال، فهو بالتأكيد أفضل من انقراض اللغة. لكن يمكن أن نرى في هذا المطلب بالخصوص إرادة من اللغة القبائلية للحصول على وضع مساواة مع اللغات التي تُنْعَت بالعليا لكونها كتابية.
سياق الأمـــة
لكن المشكل الأساسي يتمثل في الصعوبة التي تلاقيها كل لغة في البقاء ما لم تدعمها أو تحميها دولة ما. وأمام هيمنة لغة معينة يبقى الملاذ الوحيد أمام اللغة المهيمن عليها هو السعي إلى الحصول على وضع مساواة مع الأولى. وانتقال لغة ما إلى مقام «اللغة الوطنية» المعتَرفِ به يعادل، في الواقع، اعترافا بالجماعة التي تتكلمها؛ اعترافا بها في هويتها وثقافتها بوصفها جماعة. إلا أن واقع اللغة القبائلية اليوم هو أنها تعتبر في نظر متلكمي اللغة العربية بمثابة نوع من «البقية المُخْجِلة» (Survivance honteuse) يُذكِّر بما هـو سابق للإسلام، أي بالوثنية والجاهلية.
يمكن التساؤل لماذا تحس اللغة البربرية – فيما يبدو – بأن اللغة العربية تهددها أكثر مما تهددها اللغة الفرنسية؟ عندما يُعْتَرفُ للغة ما بحاجتها إلى الاتصال بالخارج، فإن ذلك يمكن أن يقودها إلى اختيار لغة أجنبية متميزة بشكل واضح، ومن ثمة يقل تعرضها لقابليةِ خلطٍ بينها وبيـن اللغـة الأم. على العكس من ذلك، تمثل اللغة العربية خارجاً غير مباشر. فهي تتبنى الحداثة التي تتضمنها اللغة الفرنسية، وبذلك فهي تخون المرجع القرآني والاختلافَ المرتبطين بالعربية الكلاسيكية. أكثر من ذلك، فهي تُحدِثُ غموضا في الداخل والخارج. تعرض نفسها كأنها تريد أن تحل محل اللغة القبائلية. ومن ثمة، فهي تهددها.
كل هذا يظهر أن الجماعة القبائلية تحس بذاتها عبر لغتها، وهو ما يطرح مشكل علاقتها بالجماعة الوطنية. في حالة القبائليين، لم تتم المطالبة على الإطلاق بالاستقلال السياسي، وإذاً فالأمر يتعلق برغبة في الحصول على استقلال ثقافي ولغوي ربما لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار تعددية ثقافية ولغوية يُعتـرفُ بها على صعيد الجزائر. إلا أن المشكل يكمن في معرفة ما إذا كانت البنيات الرمزية للسلطة قوية بما فيه الكفاية لقبول مثل هذا التعدد والتخلي عن التوظيف الرمزي الذي تجريه الدولة الـ«يعقوبية» في مجال الاحتكار اللغوي.
خلاصــــة
ترتبط اللغة ارتباطا وثيقا بالجماعة، أي بالبيئة الاجتماعية التي تهيكل هذه اللغة وتحددها، بحيث يمكن التساؤل عم إذا كانت توجد جماعات بدون لغة خاصة بها، نقصد بالجماعة تجمعات يطلق عليها الإسم (أي إسم جماعة) ومن شأنها أن تشكل اقتصادا للبنية الرمزية التي تحملها اللغة.
لقد أدخلتِ الحقبة الحديثة – التي جاءت بأولوية الكتابي والإطار الوطني – ظاهرةَ ارتباط السلطة بالدولة في هذه العلاقة القائمة بين اللغة والجماعة، وذلك بخلق وضع مهيمن متمثل في الربط بين اللغة والجماعة الوطنية. وآنذاك طُرحَ المشكل بالنسبة للغات غير الوطنية، أي لغات الجماعات التي ليس لها دولة. في هذا السياق أصبحت اللغة مدعوة للعب دور حاسم مماثل لدور جهاز الدولة من أجل إحداث نوع من التوازن مع اللغة الوطنية التي تستأثر بسلطة مفرطة[2].
————-
هوامـــش
[1] الرضي (traumatisant): من رضَّة (trauma): صدمة نفسية، هلع. (م).
[2] كنا عرضنا بإسهابٍ الأفكار الأساسية الواردة في الدراسة الحالية ضمن أطروحة تقدمنا بها لنيل دكتوراه الدولة، نوقشت يوم 19 فبراير 1983 بجامعة السوربون (باريس III)، تحت عنوان: العلاقة بين التحولات اللغوية والدينامية الاجتماعية في المغرب العربي المعاصر. مقاربة أنثروبولوجية.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 20-09-2012 09:18 مساء