ما يتعلـق به الحديث في كتاب «حديث الجثة» هو إضاءة الجثة، بل ليس حتى بإضاءة، مادامت الجثة ذاتها هي الضوء ذاته. لنـر أين تضع صورة الغلاف علامة الجثة. فهي تتوفـر على حيز خاص بها أبيض، في حين يأتي «حديث الجثة» بهذا التعتيم الذي تقوله الصورة، في مرتبة تالية وإن كان به الابتداء، ومرقش بحروف سميكة.. ومع ذلك فهذا الحديث ليس محض «كلام عن»،
إنه إضافة لهذا «الشيء الجديد» الذي لا يجد له منبتا في السالف بشكل واضح. وهذا بعض من جدة حديث الجثة، النصوص السردية لمحمد أسليم. وإن كان اسم الكاتب أكثر ضمورا كصورته الشمسية على ظهر الغلاف، مما يوحي بشبه غيابه، فالأمر لا يزيد عن تأكيد كون الإنسان بما هو كرامة وحرية مغيبا. لينفسح في المجال للجثة بما لها من صلة مع موته فيها، محتفظة بالإكراهات المنخرطة والممرغة فيها، حدّ اختصارها إلى أجساد لا تخرج عن ممارسة جنس الكفاف. ولو ذهب أحد فرأى في علامة الكفاف تلعثما ما وأراد تصحيحها ليس لدينا أي احتراز. ولو حذف «آف» الكفاف سيظل في الحقل الدلالي لما ينبره كتاب الجثة بحدَّة. هذا بعض من منطوق ورسم الغلاف الذي يتأطر بالجسد وفيه، فما الذي يقوله النص المكتوب؟ هذا ما سنحاول بسطه تاليا.
– I –
«ما لانستطيع الكلام عنه الحرص على الصمت فيه ضرورة»
فتجنشتين.
في نص «نداء الموت» سيطلب الراوي مقابلته. وتقوم ثمة محادثة بين الطالب والمطلوب، ترصدات، ارتقابات، توريطات، سلسلة بكاملها من المحاولات للقبض على المطلوب. لكنه كان أكثر زئبقية. يروم السكون إلى الانفلات لا غير. الإعلان عن حضوره يكون بالجثث التي يهدمها. لكن لا كفاية في الإقناع، لأن ثمة قناعا حرص أسليم على تشفيفه. هكذا تُعمى عنه الأبصار. المطلوب هو في نهاية النص ذرات ساكنة في كل شيء. كما لا تسكن أي شيء، هي هنا مهدومة ومعدومة. ثمة إمكانات مستعصية على التفكير ومع ذلك اختار أسليم الكلام في مقابل الصمت. أمر واحد يثير، أن كل هذا الكلام هو من أجل قول شيء واحد ووحيد. إنه يقول صمته. وما الانفعال الذي آل إليه عند قوله «والآن أتحسبون أن الموت يهمني وحدي؟»[1] إلا تأكيد على الصمت الجاثم عليه في عزلته، وحدّته. لكن ما لا نستطيع الكلام عنه، وهو الموت هنا، ألا يحتاج إلى معرفة توضحه؟ تخرجه من كمونه؟ لم يكن لهذه الأسئلة أن تطرح بهذه الصيغة ببساطة لأن ما نبحث عنه معروض أمام أبصارنا على الدوام. تجربته مع الموت، هنا، هي كما تفرضها عليه انسحابات أهله المتولية، يطبعها التكرار حد الرتابة:
«ثم واصل الموت زياراته له بكثافة، فانتشل منه الجدة، والأم، والأب، وأخوين له، وزوجته الأولى، وطفليه الأوليـن. في كل مرة كان يسود النهار في عينيه، ويهوى به المنزل، ولايصدق، ثم يعود فيصدق، ويزور المقابر يوميا، وينثر باقات زهر وريحان، ويقرئ قـرآنا، ثم يقلِّص الزيارات، فيقطعها بالمرة…»[2].
غير أن تفكير الموت في «حديث الجثة» يجد ارتباطه مع الحل الصوفي لمسألة الموت من خلال التعالق الناشئ بين المتكلم والله. من خلال تكلم الأخير عبر الأول. والتخيير مع «الهذيان» لا يخرج عن المسار ليبقى الأسلوب الخاص بالموت هو ما يحدد الميت مادام ذلك الذي لا يُكل من طلبه. لن يموت المرء من كثرة ترداده لأحاديث الموت، ومشهد الفتاة على قنطرة وسلان، ترجمة نظيفة لهذا الخروج المباغث، الحاجة إلى فضاء الفراغ مخلفا(ة) الجثث تزهو داخل ثيابها، وأحيانا فرض حالة من الاشمئزاز لدى الذات الداركة لعبث المشهد الذي تعيشه. وهذا ما يميز الذات العالمة، كما يذهب غيلفتش، بتفكيرها الموت مع التحقق من معرفة أنها تموت[3]. تلك النقطة الحد تظل مع ذلك تضم حدودا صغيرة. ننتهي غالبا بنسيانها. لتكن فتاة قنطرة وسلان، أو رؤية الدم الكثيـر (ص. 26) أو لفظ البحر لنازليه أو مشهد شيخ ممدد (ص. 57).
– II –
هـل يليـق بنا الفصل بين الحياة والموت؟ وهل هما قطبان نهائيان؟ أود التنبيه إلى قطب الخلود. هو هنا مع أسليم مجرد «وهم» لأنه يتحدد كقطب خارج الخاص بالموت والقطب الحياتي. ما الحياة؟ ما الموت؟ تورط، تورط يدفعك للقبض على تخومها من خلال الانخراط بسعار في اللحظة الآنية وبزهد في ما يخص الانتظار. كل تعلق سيكون هباء، سواء بالحياة، أما مع الموت فهي ذاتها هذا التعلق: تعليق الحياة. لتأخذ مواقع القطبين في التمازج حتى يستحيل التمييز وبألفاظ يوريبيد نقول معه: «من لا يعرف لو أن الحياة ليست الموت وأن الموت ليس الحياة»؟. الأمر الذي لا يتميز عما آل إليه متكلم «صوت الموتى»، حين «أننا جميعا أحياء وأموات في آن واحد»[4]. لكن كم يلزم من الوقت للاقتناع بأن الوجود البشري لا يزيد عن رمشة عين وأنه لا يستحق كل العناء الذي يمرغنا. فللموت حضوره الخفي في الأشياء التي تعرض أمامنا، أو التي تعرض لنا. متغيراته عديدة. واشتباهاته هي التي تجعلنا نتردد بصدد ما نعتبره حقائق أبدية. من هنا اختلاف الصمت والكلام. بل وأكثر أن الكلام ربما من كان يتكلم (ص. 45). يبقى أن هذه الاشتباهات لا تمر في صمت ما دامت تزرع الوجود بالرعب وتحيله إلى أشباح.
ما الكـلام؟
حالة وجود بكاملها. وهي لاتنتهي بالمحو والرحيل الأخير إلى ما وراء المدار البشري. وفي محاوراته الطويلة مع الموت وجدناه يذهب إلى تشخيصه ككلام (ص. 75). وملكة الكلام لا تتعطل بأي حال. إنها هناك على الدوام، وحتى عند اجتياز الحد الحياتي. ما ينقص هو القوة التي ستتكلم: «كنت أدرك كل شيء، لكنني كنت في منتهى العجز والضعف»[5]. ولم نعرف إن كان الكلام بعد الرحيل الأخير يلج مرحلة الكمون التي يظل ينتظر هل سيخرج منها أم لا. وعلى فرض أن المجتازين للحاجز الأخير ظلموا محتفظين بملكتهم الكلامية وهذا ما نراه يتفادى الخطأ. لنتذكر الإلحاح على جعل فعل الموت لا يقتصر على الماضي. ومن ثم الإبقاء على وجه من الحياة الأولى التي تتميَّز بالكلام. هل في الأمر ما يدعو إلى التخلص من الوسائط وكل ما يود الإنابة عن الأموات؟ بمعنى هل الإبقاء على الكلام للأموات إهابة بهم لحسم أمورهم بأنفسهم بدلا من إناطتها لغيرهم؟ ما دام الوجود بكامله قابعا في الحياة والموت في آن «نحن أسرى داخل موت مطلق أو حياة مطلقة»[6]. والتخيير الأخير ليس زائدا لأنه يجمع الحياة في الموت أو بالعكس. وتساؤل يوريبيد السالف يجيب في جزء منه على هذا التخريج[7].
نص «حديث الجثـة» هو إمكانية من الحرية التي يشترطها نيتشه[8] فيما يجمع الأصدقاء في فقرة من المعرفة المرحة تقول: بالحرية أمام الموت. وتجد هذه المتوالية تجسيدها في اللحظة التي سينفصل فيها عن الجسد. وتغير الضمير من متكلم (لم أكن) إلى ضمير الغائب هو «أثناء دفنه». هذا الانفصال سيمكنه من إعلان وجوده «كمحو داخل حياد مطلق»[9]، أي محايثه لهذا الواقع في كل الأحوال. هو هذه المرة ظل يحتفظ بأنا أخرى جديدة بدلا من «هو». بعد أن دفع بجزء أو بأنا أولى عن آخرها. وقرينتها تظهر في اللحظة التي يصف فيها التهام النار لجسده. طبعا بعد أن تخلى عنها. لكن سؤالا سيبرز مع هذا الانفصال. إنه سؤال الجنون.. الذي يجمع ما لا يجمع. إنه نوع من التأرجح، غير مقبول في مملكة الواقع وربما العقل. لأنه هو من يرى في التأرجح تلويث صفاء الموت بضجيج (ص. 21). كلامه، ما سيشفع له هذا الارتباط هو التساؤل (تساؤلات) بصدد التوقيع الخاص بجثث الميت، والتي ستؤول به إلى «قارئ خطاب موته»، الذي هو انهمامه وعذابه ليس إلا. بهذا تفهم الهوة / الجسر الذي يربط وجوده وانعدامه. توجد أصداء فكرة تقول بالإنسان كمرحلة أو جسر يلزم تجاوزه.
يطرح أمر «لا تحزنوا على فقداني» نهاية هوس طبع جيلا بكامله، ولم يفلت من آثاره كثير من اللاحقين. وهذا الانعقاد جزء أساسي من هذا التأثير. ولو انتهى به بذلك إلى التخلص من ثقله، ومن ذاته. «تشبيهات، إدانات، ترحيبات وجملة دوال اختصارية أخرى تلملم فيما بينها لتلامس لنا الموت. هذا المحو المثابر في عمله دون كلل. إن الجهد المبذول لتصريف حالة الموت لا يجد مبرره إلا في الموروث الفلسفي. إنك في نص «عودة ميت» إزاء نزعة من الموت إرادية؛ «إذا لم تسبق إلى مداهمته بادَر هو» (ص. 19). في حين أن الدخول إلى الموت يلزمه أن يتم دون سبق ترصد وإصرار. بهذه الطريقة ربما يكون الاحتفال بالموت أكثر جدوى من المراهنة على الإتيان الآخر. تعود بنا لفظة «دخول» الواردة في بداية النص والتي يربطها بالحمام / الموت إلى نص «الحمام» معروف عند عبد الفتاح كيليطو، يقيم فيه تشابهاته وتقاطعاته مع الجحيم وما يتضمنه من موت كحضور ملازم له. فكما الحمام مجالا للخلوصية، أي الانفكاك من الأدران، فالموت في وجه من وجوهه هو هذه العملية المنتهية من الجسد. أو هي هذا الاستثناء الذي يكون الموت هو هذا الخروج بما يذخره من حرية، أي متى شاء، دونما حسابات وقياسات. هنا فقط يكون الموت مسلوبا في ما يشكل جوهـره.
– III –
الاحتفال الجنائزي يبعد الأنا ليضع الآخر مكانه. لكن الموت الذي يأخذنا أو يود ذلك ما دمنا مرهونين له، لما يؤجل المجيء إليها بدلا من انتظارها. هكذا تتساءل الجثة المسكونة بالصقيع والارتجاف، بل والحقد على الأشباح المحيطة به. كونها تنتظر نهايته أو محوه كما يقول. لكن انفراجا ما يتبدى، تكشف الرؤيا. إنها ترى في بكائهم تدميعا على موتهم الذي حضرهم سلفا. يبقى الموت يضم في فضائه الدلالي دوال أخرى تقوله بشكل مختلف. أو ربما لأننا لم نتعود أن نراه إلا كذلك. الموت كطريقة أخرى لممارسة الموت. وإن كانت الطريقة هذه غير مقبولة ومذمومة في مرجعية ثقافية كالإسلام، فهناك من الثقافات التي لا تروم ذلك، حيث الموت مرادف للقتل الذي هو عسف ممارس على الذات.
وإن كان الفعل جوهريا يبقى واحدا. والاختلاف هو في ترتيب عناصر التصور الذي نقيمه عليه. هكذا يغيب دال الموت في ثقافة كالأمازيغية. وما نجده هو تصوره كعنف الذات على ذاتها لكي تمنحها نهايتها. وليس الشكل الذي يطلبنا في الموت ونفسح له ليعنفنا.
ينشئ أسليم تقابلات قلما تمَّ الالتفات إليها لأنها غير مألوفة أو ببساطة لأنها تستفز. هكذا يشرع لمقولة حِكم الأموات للأحياء مع التأكيد على وجود أكثر من بعد لمقولتي الحياة الموت: «هم موتى داخل أجسادهم الحية وأنا حي داخل جسدي الميت»[10] لتبقى التنسيبات الشيء الذي ميز الحياة بكاملها، مادام الانسحاق يبدأ بالأصغر ولا ينتهي به لأنه بدوره سيلعب قوة أكبر إزاء عنصر أصغر منه. المشهد الخاص بتمديد المتكلم في نص الحديث ترى فيه الحضور لحظة هلوسية لعجزها عن فك لغة التمدد. في مقابل التأسف الذي تبديه إزاء من أخذ يهلوس / المهلوس، لم تمر دون فعل من جانبه. أولا بإقصائها من فضاء بصره. لم يعد يرى فيها سوى نسخ، بل ومُسخ، مادامت متشابهة تفتقر إلى ما يميزها. إنها أشبه بقطيع من الشياه. أخيرا بأخذها أشكال قباب الأضرحة (ص. 14)، هذا التعارض يسلمه للحظة الخواء، بما فيها اللامبالاة. أي ما سيجعله يساوي بين معاني الأشياء. هل الاحتضار وحتى الفقرة الخاصة به أليست انغلاقا موضوعا لمواجهة انغلاق آخر؟ أي تعيين خانة الأموات الأحياء ليتمكن من التخلي عنها.
– IV –
قف! تمهل لحظة! أنا ما تعبت من الركض وراء القبض على الأحلام التي تفرخها المخدات أو حروف الأفكار. وإن أنتهي إلى الانسحاق. لا أود التنازل ولو عن السقوط الذي أؤول إليه من السقوط. المهمة: البحث عن مكمن تستقر به السعادة التي أحلم بها. لكن سدى! لحظة العثور على مبتغاي لا ينتهي بي سوى للتعثر والخسارات المتتالية. في حين يبقى أن «سيدات النهار اللواتي يغتصبنني يوميا داخل الأوتوبيسات وسيارات الأجرة، هن أيضا تطيح بهن الرغبة… [و] سيدة الليل هذه هي بديل سيدات النهار قاطبة»[11]. يكفي الالتفات إلى ما يحيط بنا. ثمة هبات وأسرار تنتظر الكشف عنها بديلا من التيه في السماوات البعيدة. ولا يفتر سعي أسليم لفتح أعيننا عن الشعري الذي يخفيه اليومي، والذي تزدريه المؤسسات التي تحوز سلطة الأمر والنهي: «إن هبة الساحرة وقد قام عنها طابور الرعاة لأنقى وألذ مما تستنقيه وتستعظمه نساء النهار قاطبة»[12]. الموت كالعنف مفرد في مضمونه لكن بأسلوب متنوع. من هنا التأكيد على الحضور الخاص به سواء جاء سهلا أم صعبا.
من الدوالّ التي تعاود الظهور، وبالتالي التأكيد عليها، علامة الزاهد. وبإشارة الكاتب في بداية مقطع (ص. 59) أنه سيتحدث من وجهة نظر ميت، إشارة ذكية بحيث تساعدنا على تعيين حقلها الدلالي وربما لمرة من خلال تسوية ومقابلة الزهد بالموت بما هو فقر، وقشف وبحث عن درجة الصفر من التلذذ. بمعنى أن حرمانه بمثابة طريق للتزهد. حين يكون المرء معدما يفتخر بكونه زاهدا وهو الأمر الذي يمكنه من إدانة كل العلاقات الاجتماعية التي يعجز هو عن تحقيقها. بل يبحث له عن سند في النص يقيم عليه دعواه. من هنا يبدأ طريق الأصوليات. وبالضبط حين «تتموقع في جهة ما من الزمن الماضي»[13] ولكي يخرج المستقبل بما هو إمكانية غير متحققة تسمح بالتحقق ذكر الماضي فقط. لكن ما تقوله المتوالية يضم المستقبل كذلك بإشارته أن الحياة هي «حيثما كنتَ وميتا حيثما غبتَ»[14]. إذن كل غياب هو موت وكل تغييب للذات هو تزهد.
يعرف النص الذي يأخذ عنوان الكتاب (ص. 51)، تعددا من الفقرات مؤطرة بلازمة يتكرر فيها فعل «يدور» الذي طبع النص ذاته بفعله. إنه نص دائري، ينتهي من حيث بدأ. إنه دورة حياة بكاملها من الميلاد، من الموت، من الجرح النرجسي، من الخوف، من الحلم، من الارتطام والشجار، من الخروج عن التزهد. كممارسة يجد الشاب الوسيم نفسه أكثر استدرارا للشفقة. إنها اللحظة التي تسلمه إلى معانقة سيداته بعد تكشف أن «التزهد إفلاس»[15]، ومن ثم (فيليب كامبي دائما) المثابرة للبقاء في الفجور أبكارا. ثمة رابطة تقوم بين الموت واللذة. وهي رابطة لا تستقيم إلا بالتطاحن والحرب. وهذه العلاقة قد لا تتأخر في عقد علاقة استئناس. لكن كيف أمكن إيجاد علاقة بينهما (الموت / اللذة)؟ لن يتم لنا العثور عليهما إذا لم نقف على أوجه الموت. هذه الإبدالات التي بدونها لن يستقيم هذا الربط. هكذا من خلال التشطير الذي عرفته الأمبراطورية إلى شمال تنتشر فيه رموز اللذة، وجنوب حيث تتمركز رموز العلم والمعرفة وبشكل عام كل ما يمت بصلة إلى العقلانية، تلك الأسوار التي ستكرس عملية التشطير الأمر الذي لن ينتفي إلا بتحطيم هذه الأسوار المقامة في عقل الإنسان. سيترتب عن هذه الوضعية تداخلات ستزيد من تعقيد عملية التحقق من هويات هذين الطرفين. يقول أسليم: «لم يعد كل إيروسي الشارة بإيروسي الهوية ولا كل أثيني العلامة بأثيني الهوية»[16]. والمستفيد من هذه التعمية بالأساس هم الأثينيون بما وجدوه في الفلسفة والتأمل من تخف: «قبل أن تفرض أخلاق جديدة تجعل الإنسان يخجل من جسده، وإقامة فهرست غير محدود من الممنوعات مع تحويل لذة الجسد إلى خطايا روحية»[17]. ولن يتأخر هذا المنظور في كسب المجتمع مع ما يفرض ذلك من تواطؤ في تمجيد التزهد واستبعاد كل اهتمام باللذة وبالتالي الاقتصار على جنس الكفاف. الأمر الذي لم يتأخر في الكشف عن أوهام كل العقل التي تمثلتها أثينا، فبدت متقنعة فيما يخص ظاهرها. أما باطنها فهو موت. ومن ثم الإفلاس الذي يهدد كل حياة[18].
هوامــش
[1] حديـث الجثــة، ص. 80.
[2] حديـث الجثــة، ص. 27.
[3] ج. غيلفتـش، Le pur et l’inpur، ص. 261.
[4] حديــث الجثــة، ص. 41.
[5] حديث الجثـة، ص. 92.
[6] حديـث الجثــة، ص. 94.
[7] أفلاطـون، جـورجيـــاس، فقرة 492 س 493 ب، ص. 236 (يوريبيـد).
[8] نيتشـه، العلـم المـرح، الترجمة الفرنسية لـ ب. كلوسـوفسكي، غاليمار، ص. 60.
[9] حديـث الجثــة، ص. 20.
[10] حـديـث الجثــة، ص. 12.
[11] حـديـث الجثــة، ص. 54.
[12] حديـث الجثــة، ص. 54.
[13] حديـث الجثــة، ص. 61.
[14] حديـث الجثــة، ص. 61.
[15] فيليب كامي، العشق الجنسي والمقدس، ترجمة عبد الهادي عباس، دمشق، دار الحصاد، 1992، ص. 116.
[16] حديـث الجثــة، ص. 100.
[17] موريس سارتـر، أمبـراطـوريـة الحواس، عالم الكتب، 1997، ص. 7.
[18] نور الدين الزاهي، «حديث الجثـة: منافذ للقراءة»، دراسة منشورة ضمن الكتاب الحالي.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 19-09-2012 09:14 مساء