Notice: _load_textdomain_just_in_time تمّ استدعائه بشكل غير صحيح. Translation loading for the amnews domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. من فضلك اطلع على تنقيح الأخطاء في ووردبريس لمزيد من المعلومات. (هذه الرسالة تمّت إضافتها في النسخة 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
الكتابة والموت: 07 – عبد النبي دشيــن. نشيـد الأعمــاق: – محمد أسليـم

الكتابة والموت: 07 – عبد النبي دشيــن. نشيـد الأعمــاق:

1474 مشاهدة
الكتابة والموت: 07 – عبد النبي دشيــن. نشيـد الأعمــاق:

«حذار أن تقول إن الموت مضادٌّ للحيـاة» (نيتشــه)

يقول أوزيريس آني الظافر:
«أنا الثعبان “ستا” المنتفخ بالسنين.. أنا الذي يموت ويولد ثانية كل يوم. أنا الثعبان “ستا” الذي يسكن أقصى حدود الأرض. أنا أموت وأولد وأجدِّد نفسي وأصير شابا كل يوم»[1].

بنفس هذا الحديث يتكلم النص في «حديث الجثة». إنه نص ثعبان يغير جلدته ولا يغير نسغه، إذ يجعل من موضوعة الموت فريسة لا يتوانى عن الالتواء حولها من غير أن يأتي عليها. لذلك يتخذ الحكي مبددا ومقاوما لها أم تحك شهرزاد لتعطيل فعل الموت؟! من أين للحكي هذه القوة السحرية لتغيير إيقاع الزمن؟! عندما نحكي أو يحكى لنا نحدث ثقوبا في جسد الوقت فيصير الزمن غير الزمن، بل الوجود يتخذ أبعادا أخرى تتجاوز كل تأطير. لهذا ظلت الذاكرة تستعيد الحكايات في تدفق يبعد عنها الشيخوخة.

لماذا تشيخ كل الموجودات وتظل الحكايـة محافظـة على يفاعتها؟ ألذلك تفارقنا عندما نكبر؟! إنها تكره الشيخوخة فهي رديفة للطفولة التي نحاول استعادتها عندما نحكي إلى الأطفال كفعل تعويضي عن الطفل الثاوي فينا، فعندما نحكي نحاول إيقاظه وتصير رغبتنا في الحكي مجرد تعلة.
فلا حياة بدون حكي، لذلك احتمت نصوص أسليم بالحكي لتدافع عن الحياة ليس ضدا على الموت، ولكن ضدا على الحياة. ألم يذهب سقراط إلى أنه «يجب أن نغتم بالحياة ونفرح بالموت، لأننا نحيا لنموت ونموت لنحيا»؟. وهذا ما يجليه هذا الحديث وهذه الجثة كمكونين لغويين يشكلان عنوانا قائما على مبدأ التنافر. فإذا كان الحديث قصرا على الحي كفعل منجز في الزمان والمكان، فإن إضافته إلى ما لا يحمل هذه الخصائص يعمل على خلق مسافة توتر تثير فضول القارئ بعد أن تخلخل ثوابته، إنه عنوان ينهض على خلق الانشراخ، ولعل ذلك ما حاول تصميم الغلاف أن يستثمره، إذ تمَّت موضعة كلمة «حديث» مقابل كلمة «الجثة» في المساحة المتبقية. فإذا كان الحديث يتخذ طابع الخلط والتباين وعدم الوضوح، فإن اللون الذي تمَّ اختياره لتتحيز ضمنه كلمة «حديث» لون يستغور النفاذ البصري ويجعل الرؤية ترتدّ إلى الداخل في حين أن كلمة «الجثة» بسطت فوق لون أبيض وكأنها لفت في كفن محققة بذلك توافق الدال والمدلول. وداخل إطار نلاحظ ثديين منشرخين في وضع تقابلي، وفي تعالقهما مع الجثة يرهصان بالإيحاء المضاد لكونهما مصدر الحياة وأوَّل مزود للتغذية.
يتأطر الكتاب ضمن بنية مغلقة. فأوَّل نص يطالعنا هو «ساعة الاحتضار» لينتهي بـ «… الموت واقعيا» ، خالقا قصدية في ترتيب بنيته، وتأتي العتبة لتوجه الكتاب، إذ تسعى النصوص كلها إلى إعطاء معنى وجمال للموت / المحو.
ارتكازا على ذلك يظل هاجس مقاومة الموت مسيطرا على كل النصوص وبتجليات متعدِّدَة، عبر عنصر التحديد والتعريف، لأننا بتعريفنا للشيء نفقده هالته وغموضه؛ فالأشياء التي تخيفنا وترعبنا هي الأشياء المجهولة والغامضة. أليس التعريف قتلا للمعرَّف؟!
نقرأ في الصفحة 61:
«ليسَ الموتُ هُو أن يتوقَّفَ جَسدكَ عنِ الاشتغَالِ ويَصِيَر جُثَّةً هَامدةً… أنْ تموتَ هو أَن تتموقَع في جهة ما من الزّمن الماضِي. هو أن تنتقل من الْما يَجري أو الْمَا هُوَ كَائنٌ إلى المَا جرى أو المَا كان. هو أن تَنْتَقِلَ منْ نُقْطَةٍ ما في شبكة عَلاَقاتكَ بغيرك إلى نقطة أخرى»[2].
«الحي ميِّتُُ في حياته والميِّت حيّ في موته»[3]، ملغيا بذلك ما اعتدنا على اعتباره ثنائية بذلك ما دامت كل حياة تحمل موتا، ومادام هذا الأخير حياة من مستوى آخر:
«قـــالَ: “ما المــوت؟”
قلــتُ: «هو أن يكُفّ المرءُ عن أن يكون مِلْكاً لنفسه. أن يتحولَ إلى كلمة تتقاذفها وتتلاقفها الألسُن والآذان”[4].
فيتشكل الارتباط الوثيق بين الموت والغياب:
«ومعنى ذلك أنَّكَ تَكُونُ دائِماً حيّاً وميتا في آن واحد: حيّاً حيثُما كُنْت، وميتا حيثُما غبْتَ. وما أنتَ في العمق سوى هذا الحضورِ-الْغِيابِ المتوالي»[5].
وأيضا بين النسيان والتذكر، لأن فعل التذكر يجعلنا نقاوم التلاشي والمحو، إنه يدفعنا على حد تعبير باشلار إلى أن «نعي أن الزمان سيأخذ أيضا، أن معاودة عيش الزمان الغابر معناه تعلمنا قلق الموت»[6].
إنه قلق لا يقل ضراوة عن قلق النسيان. فقد ذهب مرسيا إلياد إلى أن:
«التذكر لا يسعى إلى إقامة الحوادث في نطاقها الزماني، بل إلى بلوغ عمق الكائن واكتشاف الأصلي، الحقيقة البدئية التي صدر عنها الكون وتتيح فهم الصيرورة في مجملها… لذلك كان الماضي بمقدار ما يمكن نسيانه سواء أكان ماضيا تاريخيا أم بدئيا مماثلا للموت. إن ينبوع التيه وهو النسيان يشكل جزءا لا يتجزَّأ م ن مملكة الموت؛ فهرمز، لكي يهب الخلود لابنه إيتاليد، وهبه ذاكرة لا تتغيَّر».
ويمتلك الموت في «حديث الجثة» خاصية دفاعية ناجحة في مواجهة الموت:
«كان محو أخته هو أوَّل لقاء وضَعَه وجها لوجه أمام الموت… واسعفيه أيتها الدموع المتجمدة في ثنايا الأضلع على إزاحة حُجُب الذاكرة الماكرة وفتح طيات النسيان»[7].
إضافة إلى ذلك، يقاوم الموت في النصوص عبر تشخيصه وأنسنته: «كفى! كفى، فأنا الموت»[8]، أو بالموت الإرادي والاختياري للانتشاء بقهره: «لو أيقنتُ أنَّ موتي سيستنزفني قبل محوي لداهمته قبل أن يداهمني»[9]. ومن خلال السَّفر أيضا تتحقَّق هذه الرغبة في مواجهة الموت لما يتيحه – السفر – من حركية واختراق للثبات والتمركز كمظهرين يجليان الموت ويعكسانه:
«بل لو استطعتُ لضربتُ في الأرض سيرا صارفا ما تبقى من عمري في مشقات سفر وهمي إلى أن يحين أجل موتي فلا أشعر ببطء مجيئه»[10].
وقد يتحقق التماهي مع الموت من خلال موت الآخرين:
«ومتى رأيتَ جثة هامدة أو نعشا محمولا إلى مقبرة فاعلم أنَّ ما تلك الجثة أو النعش إلا جثتي وهيأتي»[11].
إلى جانب هذه الإمكانيات المسخَّرَة لإبطال مفعول الموت، يحضر الوصف والتشبيه لتدعيم تلك الوسائل السالفة، إذ استثمر الكاتب مثلا شعبيا لتقريب مفهوم الموت إلى الأذهان (دخول الحمام ماشي بحال خروجُه):
«كاد الموت أن يشبه دخول الحمام يعقبه خروجُُ لولا أن دخول الحمام يعقبه خروجُُ فيما الموت هو الخروج نفسه. هيا انزع حذاءك يا صاح وتهيَّأ لدخول موتك كما تدخل حمَّامَك»[12].
ونقرأ أيضا: «خلعتُ حذائي وملابسي دافعا عراءَ الكائن بداخلي إلى تخومه القصوى»[13].
فتنهض بذلك الإشارة إلى الحمام مومئة إلى طابعه الحامل لمستويين متعارضين: فهو مكان الدنس والطهارة، وقيام عنصر العري فيه يدعو إلى طرد كل ما هو زائد وخارجي. إنه تعبير صارخُُُ عن رغبة ثاوية للتخلص من القيود المادية عن طريق التجرد من الملابس والمعنوية بالكشف عما اعتبرته الجماعة ممنوعا في الخارج، هذه الجماعة التي تعيش فداحة الموت من خلال تماهيها مع الآخر / الميت. يشير شيللر إلى أن الآخرين لا يتعاطفون مع موت الآخرين إلا لأنهم يرون فيه موتهم.
إن ما يفعله كل واحد ممن يحيطون بي الآن، عبر هذه الإجراءات الطقوسية، إنما هو الاحتفال بكونه ليس هو الذي سيموت وإنما آخر [هو أنا]. أنا الآن ذريعة يُتَقَرَّبُ بها إلى الموت»[14]. بل حتَّى البكاء على الميت في «حديث الجثة» بكاء على الذات المنذورة للمحو والهباء.
تتسلح النصوص أيضا، في مقاومتها للموت، بخلق بلاغة تعنف من خلالها المحكي. ويكمن ذلك في توتر الجمل والمجازات الحادة كالنصل القاطع والعناوين الهاجسة بدلالات التوقف وانعدام الحركية، وانقطاع خيط التواصل. وهذا يرفده الالتجاء إلى المنولوج الداخلي الذي بواسطته تهرب الذات بحثا عن تصديات لأحاسيسها والرجوع بالصوت إلى مداه الأول.
——-
هوامش:
[1] كتــاب الموتــى الفرعــوني، القاهـرة، مكتبـة مدبـولي، الطبعـة الأولى 1988، الفصل 87، ص. 101.
[2] حديـث الجثــة، ص. 68.
[3] حديـث الجثــة، ص. 61.
[4] حديـث الجثــة، ص. 38.
[5] حديـث الجثــة، ص. 61.
[6] غاستون باشلار، جدليـــة الزمـــن، ص. 47.
[7] حديث الجثــة، ص. 26.
[8] حديث الجثــة، ص. 65.
[9] حديث الجثــة، ص. 58.
[10] حديث الجثــة، ص. 60.
[11] حديث الجثــة، ص. 73.
[12] حديث الجثــة، ص. 17.
[13] حديث الجثــة، ص. 19.
[14] حديث الجثــة، ص. 10.

الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 19-09-2012 09:16 مساء

الاخبار العاجلة