«أيها النهار،
إن سعـادتي عميقة وشقائي عميق ولكنني لستُ إلها ولست حتى جحيم إله،
وما أعمـق أوجاع العالـم»،
(زارا / نيتشـه)
(1-1) لو كُتِبَت نصوص «حديث الجثة» في مغرب الستينيات أو السبعينيات لقيل إنها كتابة «وجودية»، «ميتافيزيقية»، «لا تاريخية»، «هروبية» و«انهزامية»… إلى غير ذلك من «كليشيهات» المرحلة!.. ولكنها – ولحسن الصدف – لم تكتمل في صيغتها النهائية وتصدر بهيأتها الحالية إلا في شروط ثقافية مغايرة، صار مفهوما فيها أن أرض الكتابة هي كل أرض، وجغرافيتها هي كل الجغرافيات. وما الأسئلة «الوجودية» أو «الميتافيزيقية» إلا جزء لا يتجزأ من مشاغل الكتابة في كل أرض وكل زمن.
ومحمد أسليم في كتابه السردي هذا يدشن موقعا جديدا للكتابة السردية في المغرب طالما تجوهل أو اختزل أو عولج بشكل عرضي ضمن سياق أعم، وليس باعتباره «كيانا» قائم الذات. لقد كتب أسليم «حديث الجثة» في تسعة نصوص سردية هي: (ساعة الاحتضار – عودة ميت – هذيان ميت – صوت الموتى – احتواءات وتنكرات – حديث الجثة – نداء الموت – خارج المدار البشري – فتنة الآلهة أو الموت واقعيا)، ويشكل الموت قاسمها المشترك باعتباره موضوعا للكتابة، ومنطلقا للحكي، ومبدءا تنظيميا للسرد، وبطلا روائيا، وأفقا للرؤية. وبهذا الاختيار الصعب تكون الكتابة السردية عند أسليم قد ألزمت نفسها بالخروج من المدارات الإنسانية، الدينية[1] [وبخاصة مدارات الديانات السماوية: الإسلام والمسيحية واليهودية] والأجناسية، وممارسة التخييل ضمن الحدود الفاصلة بين الفيزيقي والميتافيزيقي، بين الدنيوي والماورائي، وهو الرهان الذي قاده إلى خوض مغامرة الكتابة ضمن مفهوم معين لجمالية الإبداع، يتخذ من الشر والقبح والألم منطلقات للكتابة.
(2-1) إن القضايا النوعية التي تولجنا في مآزقها هذه النصوص، تتمثل في الأسئلة التالية: كيف نجعل الأدب ممتعا وهو يمجد الموت والألم واللامعنى؟ كيف نضفي معنى وجمالا على الموت والشر؟ كيف لا نكتب إلا عن الجوهري: الحقيقة.. الجسد.. الخوف.. اللذة.. الألم؟
أسئلة كثيرة تقودنا مع هذا الكتاب إلى تأمل شبكة من الثنائيات ينسجها الموت في مختلف علائقه، من قبيل (الموت والاستيهام / الموت والمعرفة / الموت والجنون / الموت واللذة – الجنس) / الموت والألم / موت الأنا وموت الآخر / الموت والطفولة / الموت الطبيعي والموت قتلا أو انتحارا (الطارئ!) / الموت والتواصل / الموت والتاريخ / الموت والنوع البشري / الموت والعقل / الموت والمعنى / الموت والحقيقة، إلخ) وهي إشكاليات في منتهى الدقة والعمق والجدة على صعيد الأدب المغربي الحديث، يطرِّز سردها معجم مشبع بطقوس الموت والموتى (الجثة / الدفن / القبر / الفقيه / روضة الموتى / الكفن / المغسل والغسل / التراب / العظام / البخور / البرودة / البياض / الاحتضار / التفسخ / الحداد / العفونة / الدم / الأشلاء / التحنيط / الخواء / القرف / الوحدة / الصمت / العري / المحو / الفقدان / النسيان، إلخ.). شبكة معجمية تغطي النسيج السردي بكثافة دلالية وإيحائية، يتحول بمقتضاها موضوع / موضوعة الموت إلى طقس جنائزي مشبع برائحة الموت!!
(2-2) كل هذا يتم في سياقات سردية تأبى التجنس، وترفض أن تتقمط في قالب أدبي قار. فهي تقف في منزلة بين القصة القصيرة والرواية، لحمتها الحكي، وموضوعها الموت، واستراتيجيتها الفنية: اللاتجنيس.
هي حكايات لا نعرف من أين يبدأ فيها الاستيهام (أو التذكر أو المناجاة، أو المونولوج) ولا أين ينتهي. فبقدر ما يكون الحكي مشدودا إلى ضمير المتكلم، بقدر ما يكون موزعا بين أزمنة الحياة وأزمنة الموت.. بين الداخل والخارج.. بين الجسد والجثة.. بين الأنا والجسد. وهذه الثنائية الأخيرة، هي ما يخلق في جل النصوص مسافة توتر تتيح للمحكي أن ينمو في خضم الجدل بين الحي والميت، بين المتواصل والمنقطع، بين الأنا كسارد مجرد والجثة كشخصية ضمن القصة، مما يقود إلى إنجاز تشخيص أدبي لهذه الثنائية البنيوية ومراياها ومضاعفاتها:
«دارتْ بخاطري أفكارٌ كثيرةٌ. انفتحت مغالقُ اللغة بدهَاليز عقلي. أردتُ أن أنقل قدرا زهيدا ممـا أشرقَ علي من المعارف والحِكم والأسرار. لكن كلمـا رُمْت تحريكَ لساني وجدته صلبا كالحجر. أيقنتُ أنني قد غبنتُ. أحاول أن أطلق صرخة مُدَويَة. لا أقوى على فعل أيِّ شيء عدا البقاء في وضع التمَددِ جثة هامدة صامتة ملفوفة بالصمت والغبن والحقد على نفسي وعَلى من تخلفوا من ورائي: على نفسِي لكوني عجّلتُ بوضع حد لها. لماذا لم أترُك هذه الجثة تقتاتُ، وتسير، وتفرَحُ، وتنكِحُ، وتبكي لمدة أخرى من الزمن إلـى أن يناديهـا صاحبُهـا ويمحوها من بعيد؟»[2].
وهذا المنحى في خلق المسافة بين الأنا والجسد هو ما ينحو بالكتابة السردية إلى مد جسر متواصل بين المشهود والغيبي، بين الدنيوي والماورائـي، وبيـن الداخل والخارج.
(2-3) إن «المؤلف» يضعنا في هذه النصوص السردية أمام تشخيصٍ أدبي لموضوعة الموت، مُفرَغٍ من أي تسطيح أو معالجة خارجية تتستر بالطابع الحدثي، الاجتماعي أو التاريخي. فالموت لا يتحقق نصيا كحدث خارجي، أي إن قيمته لا تستمد من مضاعفات دلالاته الاجتماعية أو التاريخية وانعكاساتها على شخوص السرد. إنه – بخلاف ذلك – حدث داخلي، فردي، أو «شخصي». هو قضية العدم بعد الوجود، مطروحة لإنسان منشطر بين الجسد والأنا. أما الآخر (الناس / المجتمع) فلا يشكل حضوره إلا خلفية هشة للسخرية من علاقته بفرجة الموت..
وحيث تنهض طقوس هذه الكتابة خارج التسنين الديني، وفي عري تام عن شعائر المعتقد، فإن الترجمة الفعلية لشكل الموت تتمثل في اقتناص مفهوم التشيؤ: تشيؤ الجسد بعد الموت، انمساخه إلى جثة، وتعرض الأنا للمحو والنسيان والصمت والبياض بتلازم مع فعل التشيؤ. وواضح أن إخراج مفهوم الموت من المدار الديني [مدار الديانات السَّماوية]، هو ما أضفى على رؤية الكاتب الإبداعية طابعا «عبثيا»، وجعلها تنحو في نقد جوانب من الميتافيزيقا (إشكالية الموت) منحى القسوة والكوميديا السوداء، حيث السخرية المُرَّة، والتهكم اللاذع من الحياة / الوهم، بل النقمة والحنق على الموت / الكارثة في مختلف سيناريوهاته المحتملة:
«أما أنا فتذكرت أنني سأَموت. سأنتهي عاجلا أو آجلا إلى جثة هامدة. أخذت أتساءل: «متى سأموت؟ أين؟ وكيف؟». تتوالى أمامِي سِينَاريوهات موتي: «ها أنذا شيخٌ ملقى علَى الفراشِ أَحتَضر، وحولي تحلَّق أبنائي وأحفَادي (…) لا، سَوف تداهمني عجلات قطَار أو شاحنة في وقْت آت لاريـب فيه، ما يفصلنِي عنه سوى الجهلِ بميعاده (…) لا، قَد أنتحر بأن أُلْقي بنفسي من الطابَق العاشر كما فعل جاري البدين منذُ بضعة أيام (…) لا، سيداهـم المدينـة زلِـْزَال مروع فينتهي كل شيء في بضع لحظات: تنهار جدران البيـت فتحيلنـي إلى رميم (…) لكن، من يدري؟ فقد تطبق علي الجدران فأَقْضي بداخلهـا أيّاما مسجونا مختنقا قبْل أن تزهق روحي (…) وما أدراني أن الأمر نفسهُ سيحدث لي دَاخِل قبر حقيقي بعد أن أكون قَد «مت» ميتة طبيعية، فمـا يكاد قطيع الدافين ينصرف حتى تنبعـث في الروح ثانية؟…»[3]؛ «أتُراني كنتُ سأتجنب هذه الكارثة لو لم أضع حدّا لحياتي؟ بالتأكيد لا. فما أجتازه الآن يجتازه كلّ إنسان سواء داستهُ سيارة، أو داهمه قطار، أو أصابته رصاصة، أو غرق في بحـر، أو ارتمى من شرفة قنطرة أو من طوابـق عُليا، أو احتضر في فراش بين الأهل والأقارب»[4].
(2-4) إن كيمياء الموت في هذه النصوص السردية تجعل من الشخوص تكون إما ميتة أو في طور الاحتضار. فهي مجرد أشكال جسدية للموت مُفَكَّكَة ومُبَعثَرَة. وما من شخصية إلا وتمنحه صوتا، أو هيأة، أو إكسسوارا، أو ديكورا لكي يشخص دوره البطولي. أي إنها تخرجه من سديمية العدم إلى مستوى من التحقق التخييلي يضفي عليه طابع «الحياة خارج الحياة!».. وهي محاولة عنيدة قاسية وعنيفة في الآن نفسه، تجعل المشيأ واللامرئي (أنا الجسد الميت) مجسدا وموضوعا موضوع تشخيص أدبي، يراهن على الاستيهام أو التذكر أو المساءلة أو المخاطبة الحوارية. وبهذا المعنى، فإن تجليات الموت تتخذ من حكايات ومصائر الشخوص الآيلة إلى حتفها أقنعة متعددة لوجه واحد بشع، هو الموت، سواء كان طبيعيا أو طارئا أو إراديا (الانتحار).
ولأن شخوص «حديث الجثة» تحتضر كجثث، فكل شخصية (حية) لا تنهض إلا كظل لجثة، أو مشروع جثة، إذ لا حياة لكل شخوص أسليم مادام الحي منهم ليس سوى ميت مع وقف التنفيذ – على حد تعبير إدريس الخوري! -؛ وإذن فإن البطل الوحيد هو الموت، أما الشخصيات السردية، فلا تحضر إلا لكي تكمل المشهد، وتعطي لهذا البطل كل أبعاده من خلال مواقف وأوضاع مختلفة.
هو سرد لا هـاجس لـه ولا إحساس ولا وعي بأي شيء خـارج الموت. وكأن الزمن متوقف. وكأن نسيان الموت خطيئة أو خيانة.. وكأن الحكايات الصغرى التي تتخلل السرد مجرد أشلاء لجثة النص، للجثث التي تتحدث عن حاضرها (الموت) أكثر مما تتحدث عن ماضيها (الحياة). أو ليست الحياة أكثر من مجرد وهم؟: «إن ما نسمِيهِ حياة لا يعدو مجرد وهم يحمله كل منا بطريقته الخاصة وينتهي بانتهائـه»[5].
إنه منحى في الكتابة والرؤية تحكمه «نزعة تشاؤمية» جارفة تستبدل الحلم بالكابوس، واللذة بالألم، والفرح بالبكاء، والخير بالشر، والطمأنينة بالرعب، والوهم بالحقيقة. فهل معنى هذا أن «إرادة الموت» تنتصر على «إرادة الحياة»؟ يبقى الجواب في هذا المقام ضربا من المجازفة!
(2-5) لعل الجانب الأكثر قسوة وبشاعة للموت في التشخيص الأدبي الذي تنجزه «حديث الجثة» يتمثل في محاولة القبض على تلك «العبورية» الغامضة والمباغتة التي يجتازها الإنسان بين الحياة والموت. تلك الهوة التي تفصل بين الوجود والعدم أو بين الحضور والغياب. يقول السارد:
«أنا أتألم، لكنني لا أرجو أن يرفع عني هذا الألم، وذلك ليس لأنني أتلذذ به، أو لكوني قد استأنستُ به، ولكن فقط لأن طعم كل من الألم واللذة لم يعد له أي معنى عندي»[6]؛ «ماذا يتم حينما ألقي بنفسي من هذا العلو الشَّاهق؟ ماذا يحدث عندما تكون جثتي هاوية بسرعة خاطفة إلى الأسْفل بعد ارتمائي من هـذه الشرفة؟ فيم أفكر عندما أكـونُ هاويا؟ بل هل أظل أفكر؟ وهَل لتفكيري معنى حينئذ؟ بالنسبة لمنْ؟»[7]؛ أي إحسَاس يغمرني حينما يتم أول تماس بين جسدي وبين إحدى عجلات القطار؟ إلى ماذا يؤول هذا الإحساس حينما تفصلُ مني اليد، ثم يكسر العظم ثم يعجَن الجسدُ في بضع ثـوان؟»[8].
إنه المأزق السردي، الوجودي والفلسفي الخطير، الذي يواجه الكائن البشري بالأسئلة الصعبة والمحيرة، التي لا جواب لها خارج المعتقد الديني: «إلَى أَين أَنا ذَاهب؟ كيف سينقض علَي الْموت؟ بم سأُحس عنْدما سأَكونُ بصددِ الْمحو؟ إلى ماذا سأؤول بعد انْسحابي من الْحياة؟…»[9].
وفي غياب الجواب الديني عن هذه الأسئلة المحيرة، يتحول موقف الإنسان بإزاء الموت إلى مأساة حقيقية، في مواجهة غير متكافئة بين المشلول والمغلوب على أمره وبين قوة عمياء، غاشمة، موصومة بالصلف والعمى والصمم والجبن والغدر والبطـش.
(3-1) ينطوي السرد في «حديث الجثة» على مادة حكائية غنية ومتنوعة في توحدها. فهناك أمكنة وأزمنة وشخوص وأحداث ووقائع، كما أن هناك تداخلا سرديا بين أوضاع وحالات تتراوح بين رواية ماحدث ويحدث، واستيهام ما هو ممكن الحدوث. ولعل المكون الاستيهامي يشكل العنصر الحاسم في تكوين السرد، لأنه المدخل إلى القفز على الكائن والانخراط في الممكن والمحتمل، أي التأرجح بين الواقع والمتوقع، بين المتحقق والمتوهم:
«تهتز جدران البيت. أتخيل نساء الحي قاطبة قد سمعن الصراخ المرعب وأصوات النجدة فكسرن الباب وتجمهرن داخل المنزل. نِساء يحملن عصيا ونسـاء يحملن مكنسات، نسـاء يتأبطن سطـولا ونساء يشهرن مديات… ينخرط الجمع في قتال أشد ضراوة وعنفا: عصي تكسر ظهورا. سطـول تهشم رؤوسا. مِديات تبعـج بطـونا. أجساد تجـر أجسـادا من رؤوسها وتلقي بها في برك الدمـاء. أجساد تنزلق فـوق الدم المتخثر فتسقط جارة معها أجسادا أخرَى إلى الهاويـة.يتكوم الجمع فيصير كتلَةَ لحم هائلة، أخطبوطا عملاقا من الأيدِي والأرجل والرؤوس البشريةِ. وخلاَل ذلك كله تتعالى أصوات الصراخ والترنح والنجدة والضحك والزغاريد والإنعـاض وأنا جالس على العرش تعصرني لذة منتشية ذاهلة. أغمض عيني. لو أني أقوم وبكلِ مـا أوتيت من قوة أقـذف هذين الطفلين باتجاه هذَا الأُخْطُبوط مقدما إياهُمَا قربَانا لهذه الليلة المرعبة الماجنـة. تعصرني اللَّذةُ. بيني وبين الموت قَيد شعرة. أهو موعدهُ قد حان؟ لو أني أقوم وأبتلع صيدلية المنـزل فأسقطُ جثة هامدة. لو أن قبضة يدي تسع هذا الكوكب الذي يدعى أرضا فأُحكم إطباقَها عليه، وأقذفهُ في اتجاه مجرّات مجهولة. لَو.. لَو.. لَو.. إلى أن صحوت فوجدت أُم ولَدي جالسة على حاشية السريـر تَتَرنـح»[10].
إن الموت ينهض باعتباره إشكالا بنيويا في نصوص «حديث الجثة»، تتناسخ وتتوالد وتتضاعف أشكال حضوره من نص لآخر. فهو تارة واقع قائم، وأخرى وضعٌ متخيل أو محتمل، وثالثة، كابوس جاثم على صدر ورؤية السارد، وفي كل الأحوال، هو مصدر توتر في السرد، وانشطار وتصدع. على أن هذا التدفق السردي تجاه إعادة بناء موضوعة الموت تخييليا، ما يلبث أن يفسح المجال لبروز مكون آخر، يمكن أن نصطلح على تسميته بالمكون الحِكَمِي.
(3-2) إن الحِكَم التي تتخلل النصوص تتعلق بالموت والحياة، وهي، حِكَمٌ تتغيَّا دعم الدلالات الإيحائية للتخييل الحِكَائي من خلال تفعيل الخطاب التقريري بدلالته النظرية الموازية، فنقرأ على سبيل المثال:
«الموت محو داخل حياد مطلق» (ص. 20) ؛ «الموت إفلاس شيء ما أو حياةٌ في حالة إفلاس» ص. 36) ؛ «الميت صاح داخل حلمه، والحي يحلم داخل صحوه» (ص. 36)؛ «الدفن هو أبلد تعبير عن كوميديا الوجود البشري» (ص. 11).
وبموازاة هذا المكون الحِكَمِي ذي الطابع التقريري هناك محاولات دائبة لتقديم تعريف «ماهوي» للموت والحياة كالقول:
«ليس الموت هوَ أن يتوقّف جسدكَ عَن الاشتِغال ويصير جثَة هامدة… أن تموت هو أنْ تتموقع في جهة ما من الزمن الماضِي. هو أن تنتقل من المَا يَجري أو الما هو كَائن إلى المَا جرى أو المَا كان. هو أن تنتَقل من نقطَة ما في شبكة علاقاتك بغيرك إلى نقطة أخرى. ومعنى ذلك أنك تكون دائما حيا وميتا في آن واحد: حيا حيثمَا كنت، وميتا حيثما غبت. وما أنت في العمق سوى هذا الحضورِ-الغياب المتوالي»[11]؛ «… الموت ليس هو سلوك الأحياء إزاء شخص ميت ولاَ كلامهم عن الموت المجرد. الموت سؤال ضخم يستحيل الإجابة عنه بأي خطاب لأنه انتفاءُ الخطاب نفسـه»[12]؛ «[الموت] عالم يلغي كل مَاض في وضع جديد ليس بمقدرتي معرفة ما هو لكونه يتنافَى مع كلّ معرفة إن لم يكن هو المعرفة نفسها لكنهَا لا تتحقق إلا بحتف الكائن لأن حتفه هو وجودها ووجوده هو حتفها»[13]؛ «ما الحيـاة سوى احتضار يمتـد مـن الولادة حتى الموت. وما الموت سـوى محطة بين حياتين: حياة ما قبل الولادة، وحياة ما بعد الموت. وبمـا أن الموت يقع داخـل الحياة فالحياة تقع خارج نفسها»[14]؛ «إن ما نسميه حياة لا يعدو مجـرد وهم سابق للحياة. أما الحياة/الموت فلا علاقة لها إطلاقا بما نحن إياه الآن لأننا لن نكون فيها على ما نحن إياه الآن نظرا لكونِها تقع خارجنا، ولكوننا متى انتقلنا إليها ولجنا منطقة تقَع خارجنا. أن يحيى المرء هو أن يكون داخل نفسه، وأن يموت هو أن يغادرها مغَادرا فيها عقلَهُ وإحساسه. بتعبير آخر: الحي ميت في حياته والميت حي في موته»[15].
وكما سبقت الإشارة، فإن مفهوم الموت في الكتاب يطْرح ضمن شبكة من العلائق تمتد من العلاقة بالحياة، إلى المعرفة، إلى الجنون، إلى الوهم، إلى الجنس أو اللذة الجنسية، إلى الخمرة. وبصدد ذكر الخمرة والمرأة، فإن إضافة هذا الثنائي إلى الموت يشكل ثالوثا ترتكز إليه الرؤية الإبداعية لكتابة «حديث الجثة»، يوازيه ثالوث آخر يتشكل من الشر والقبح والموت بديلا للخير والجمال والحياة. وهي أرضية قيمية مضادة تمجد قيما غير تلك التي ألفناها ضمن مدارات القيم الدينية.
(4-1) هي إذن كتابة ترفض نسيان الحقيقة، تعانق القسوة مبدأ وتمجد الموت تمجيدا لا ينحو منحى تبشيريا سهلا أو رثا، وإنما – كما يقول ميشال فوكو – يسبغ معنى وجمالا على الموت. وبهذا المعنى، فهو تمجيد يحايث فيه الفلسفي الأدبي، والفكري التخييلي، والتقريري الإيحائي، والفيزيقي الميتافيزيقي. إنه ضرب من المقاومة الأدبية والفكرية، والروحية والأخلاقية، والفنية / الجمالية للُغْزِ الموتِ وتَحَدِّيه خارج كل أشكال التصالح الميتافيزيقي التي تنادي بها الأديان السماوية والمعتقدات الوضعية!
لقد انفلتت نصوص «حديث الجثة» من ثلاث مدارات: المدار البشري، والمدار الديني، ثم المدار الأجناسي. وهو انفلات مركَّبٌ جَعلها تشكل في تنوعها وانفتاحها نصا واحدا ينهض على أرضية تيمية أو معجمية، ورؤيوية وأسلوبية مشتركة. تلك الأسلوبية العارية من كل بذخ لفظي، لغوي أو بلاغي زائف. وهذه الخصائص نفسها هي ما جعلها تقف في منزلة بين منزلتي «القصة القصيرة» و«الرواية»، الأمر الذي يعنيه المؤلف ويحرص على التنبيه إليه من خلال ميثاق مفتوح يعقده مع القارئ الذي سيكون عليه أن يدرك منذ الوهلة الأولى أنه بإزاء (نصوص سردية) غير مجنسة.
(4-2) .. وكأن الحكي في «حديث الجثة» خارج المدار البشري محكوم عليه بأن يتوازى مع خروج مزدوج عن مدارين آخرين هما: المدار الديني والمدار الأجناسي، لتشكل المدارات الثلاثة بدورها ثالث الثالوثات في بناء رؤية النص ومعماره.
.. وكأن الحُكْمَ على الإنسان بالموت في البداية والنهاية هو حُكْمٌ مـواز على الأجناس الأدبية (بقواعدها وحدودها وضوابطها) بالمصير نفسه.
.. وكأن كتابة التعرية لا يمكن أن تنجز إلا عبر تعرية الإنسان أولا والجنس الأدبي أخيرا.
.. وكأن المرأة هي الموت، والموت هو اللذة، واللذة هي الخمرة، والخمرة هي الرغبة، والرغبة هي الموت، والموت هو الموت..
… وكأن استحالة تفادي الإنسان للموت حقيقة لا يُوازيها إلا استحالة الكتابة عن الموت في زنزانة جنس أدبي بعينه.
.. وكأن محمد أسليم قد مات قبل اليوم، ثم عاد ليحكي لنا قصته مع الموت.
.. وكأننا بعد قراءة «حديث الجثة» قد عشنا تجربة الموت، بل واستمتعنا برعب الموت!
وكأن.. وكأن.. وكأن…
ويلاه! ما أعمق هذا الموت!
———
هوامــش
[1] يذهب الدكتور حسن المنيعي في إبراز تجليات المكون الديني إلى القول: «يخيل إلينا أن “أسليم” يلح على فكرة أساسية: وهي أن اللذة زائلة بينما يظل الموت أزليا. وبما أنَّ اللذة زائلة، فإن عالمها هو “العدم”. هنا يلتقي الكاتب – أي في هذا المنظور المتشائم عن اللذة – مع البوذية…الخ». انظر: د. حسن المنيعـي، قـراءة فـي الـروايـة، مطبعة سندي، الطبعة الأولى 1996، ص. 108.
[2] حديــث الجثـــة، ص. 90.
[3] حديــث الجثـــة، ص. 57.
[4] حديــث الجثـــة، ص. 93.
[5] حديــث الجثـــة، ص. 61.
[6] حديــث الجثـــة، ص. 13.
[7] حديــث الجثـــة، ص. 28.
[8] حديــث الجثـــة، الصفحة نفسها.
[9] حديــث الجثـــة، ص. 12.
[10] حديــث الجثـــة، ص. 55.
[11] حديــث الجثـــة، ص. 61.
[12] حديــث الجثـــة، ص. 27.
[13] حديــث الجثـــة، ص. 21.
[14] حديــث الجثـــة، ص. 61.
[15] حديــث الجثـــة، ص. 61.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 19-09-2012 09:30 مساء