Notice: Function _load_textdomain_just_in_time was called incorrectly. Translation loading for the all-in-one-wp-security-and-firewall domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. Please see Debugging in WordPress for more information. (This message was added in version 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
الرقمية ونهاية الأعلام الادبية – محمد أسليـم

الرقمية ونهاية الأعلام الادبية

1385 views
الرقمية ونهاية الأعلام الادبية

(الملحق الأسبوعي لصحيفة الاتحاد الاشتراكي (إبداع وفكر)، أبريل 2005، وتم تحيينها سنة 2019)

يبدو أن إمكانيات النشر الجديدة التي فتحتها الرقمية، ممثلة في الأنترنيت أساسا، سوف تلحق تغييرا عميقا بالوضع الاعتباري للأدباء على نحو ما عرف حتى اليوم. فإلى عهد قريب ظلت الكتابة ممارسة محصورة في دائرة صغيرة من الناس، هم أولئك الذين ينجحون في المرور من المصفاة أو قنوات التصفية، متمثلة في النقاد وهيئات تحرير الصحف والمجلات ولجان قراءة دور النشر، ومن ثمة يصلونَ إلى نشر أعمالهم في الوسائط التقليدية للقراءة، الورقية طبعا: كتب، مجلات، صحف. وهي دعامات مكلفة، مما يجعل جانب الربح والخسارة يطرح نفسه عاملا حاسما في قرار نشر هذا العمل أو عدم نشره، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى حرمان عدد من الأعمال من الوصول إلى القراء «ظُلما»، أي لاعتبارات غير أدبية وجمالية[1].
لا ناشر يقبل المجازفة بأمواله لإصدار عمل غير مضمون الرواج الرواج في السوق. إذا اعتبرنا إلى جانب هذا العنصر (كلفة النشر) عنصرين آخرين هما: الحضور – الشعوري أو اللاشعوري – لقدسية الكتاب نفسه، حيثُ اعتمدت الديانات التوحيدية الثلاث الكتاب في نشر تعاليمها، وشيوع الاعتقاد الذي يعتبر الأدب إلهاما ووحيا، فهمنا لماذا كان الشعراء والكتاب يحظون بتقدير كبير ويملكون وضعا اعتباريا غير عادٍ في مجتمعاتهم يجد ترجمته الواضحة – ضمن ما يجده – في ما يسمى بالأعلام الأدبية… ربما يصدق هذا على جميع الثقافات: فكما للفرنسيين ديدرو ومونتسكيو وإيميل زولا وبالزاك، على سبيل المثال، للعرب طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وعبد الرحمان منيف، وما إلى ذلك.
ولكن هيمنة الكتاب لا تعدو مجرد محطة في التاريخ الطويل لعلاقة المعرفة والذاكرة بحَامِلِها (أو وعائها)، والذي يميز فيه الفيلسوف بيير ليفي بين أربع محطات:
– مرحلة المشافهة البدئية: كان حامل المعارف البشرية وخزانها هو الجماعات الحية، عبر الذاكرة البيولوجوية، حيث كان يعادل موت الشخص المسن في القبيلة إحراق مكتبة بكاملها؛
– مرحلة الكتاب: أصبحَ الدفتر فيها هو مستودع المعارف، وظهرت الكتب المقدسة (التوراة، الإنجيل، القرآن)، وأصبحَ مالكُ المعرفة هو الشارح والمفسر لمحتويات الكتب؛
– مرحلة المطبعة: انتقلت المعارف فيها إلى رفوف المكتبات، وأصبحَ مالكٌ المعارف هو الشخص الموسوعي، كما ظهر هاجس تصنيف المعارف وترتيبها لتسهيل الوصول إليها؛
– مرحلة الرقمية: هي التي نعيشها في الوقت الراهن، وتتميزُ بما يُشبه عودة إلى حقبة المشافهة الأولى، لكن بطريقة لولبية، حيث صارت الجماعة الحية مجددا هي مالكة المعرفة، مع فارق أن مكان تخزين هذه المعرفة هو الشبكات الافتراضية، وليس الذاكرة البيولوجية كما كان عليه الأمر في عصور المشافهة الأولى[2].
بخلاف الوضع السابق الذي ساد طيلة القرون الخمسة السابقة التي تسمى بـ «عصر جتنبرغ» نسبة إلى مخترع المطبعة الألماني يوهان جتنبرغ، إشارة إلى هيمنة الكتاب الورقي المطبوع منذ منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، أصبحَ الآن بإمكان أي كان أن يضع ما يكتبه بين أيدي جميع القراء المحتملين بمنتهى السرعة وبأقل كلفة، بل وأحيانا بدون أي كلفة سوى الاتصال بشبكة الأنترنت، إذ يكفيه أن يكتبَ، فيتأتى له نشر كتابته في شبكة الشبكات عبر العديد من القنوات (موقع شخصي، مدونة، شبكة التواصل الاجتماعي، صحف ومجلات رقمية، ما إلى ذلك)، وهو ما يمكن من التحقق منه اليوم بالفعل، إذ يكفي المرء أن يخصص حصة قصيرة للإبحار في المحيط الرقمي: سيجد آلاف المواقع، بل الملايين، التي تتضمن قصائد ونصوصا سردية وأعمالا روائية ومقالات وخواطر… وهو ما قد لا يمكن أن يفضي سوى إلى مراجعة للوضع الاعتباري القديم للكاتب، ومن ثمة إلى نهاية الأعلام الأدبية. أي كاتب يستطيع اليوم أن يستقطب ملايين القراء في الشبكة الرقمية على غرار ما يستقطب كبار الكتاب الورقيين ملايين القراء (الورقيين طبعا)؟ لا أحد بالضرورة لسبب بسيط وهو أن القراءة الرقمية تختلف اختلافا جوهريا عن القراءة الورقية.
هل هذا مؤشر انحطاط؟ «نعم»، سيقول المتمسكون بالكتاب الورقي وعصر الكتاب التقليدي عموما بشقيه »المخطوطي« – إن جاز التعبير – و«المطبعي» الذي دشنه جتنبرغ. لكن، من زاوية أخرى، يمكن اعتبار هذا «الابتذال» للكتابة و«تتفيه الكتاب»، على حد تعبير البعض»، والإنزال للكتَّاب من أبراجهم العالية ثمرةً طبيعية لقرون من العمل وشبه «تأميم» لممارسة ظلت لآلاف السنين حكرا على نخبة محظوظة، في سائر المجتمعات، تيسرت لها وسائل التعلم والقراءة والكتابة…
لا شك أنَّ الثورة الرقمية تنتظم في سلسلة يمكن للبحث التاريخي أن يعزل مكوناتها ويوقف على مسار كل حلقة من حلقاتها، منذ العهود السحيقة إلى يومنا هذا، وستكون النتيجة طبعا هي إسهام كافة الحضارات، كل واحدة بنصيب، إلى أن وصلت الأمور إلى هذا الإنجاز الذي يذهلنا اليوم مع أنه لازال في بداياته. ويأتي في طليعة المساهمين الحديثين في الثورة الرقمية الحضارات الصينية واليونانية والعربية… بهذا المعنى تكون الرقمية ثمرة عمل جماعي للجنس البشري، وأي محاولة لاختزالها إلى ابتكار غربي محض ستكون محكومة بنظرة ضيقة وانسداد أفق. لا ننس أن أسرع حاسوب في العالم اليوم، من حيث سرعة الأداء والقدرة على إنجاز العمليات الحسابية، يُصبحُ متجاوزا في مدة 18 شهرا. في هذا الصدد، هناك من عقد مقارنة بين تطور صناعة الأجهزة الرقمية وصناعة السيارات، فخلص إلى أنه لو كان قطاع السيارات يسير بالوتيرة نفسها التي تسير بها التكنولوجيا المعلوماتية لأمكن اليوم شراء سيارة بثلاثة دولارات. ليس هذا فحسب، بل ولما احتاجت هذه السيارة إلى أكثر من لتر بنزين واحد لتقطعَ مسافة 350 ألف كيلومتر[3]. وهذه النقطة وحدها تجعل جل المختصين في شأن مستقبل الكتاب، وإن كانوا يرون أن الكتاب الورقي سيلقى المصيرَ نفسه الذي لقيه اللوح الطيني ولفافة البردي والمخطوط الورقي، يترددون في الجزم بشأن الصيغة التي سيأخذها الكتاب الرقمي. ومما يغذي هذا التردد تعاقب أجيال هذا الكتاب في وقت وجيز: فمع كل معرض دولي للكتاب يظهر جيل جديد واقتراحات جديدة. وتظل النتيجة اليوم هي أن هذا الكتاب لازال في طور التجربة…
صحيح أن للإسفاف الموجود في الشبكة ما يناظره في عالم النشر الورقي، لكن النشر الرقمي يتميز عن نظيره الورقي بجملة نقط،نكتفي بإيراد اثنتين منها:
الأولى الانخفاض الرهيب لكلفة إيصال النصوص إلى القراء، مما حرر الكتابات من المصافي التقليدية المتمثلة في مهيآت تحرير المجلات والصحف، ولجان القراءة بدور النشر، وبالتالي جعل بإمكان أي فرد أن ينشر ما شاء، وتحت أي مسمى شاء، دون مُصادفة أية عراقيل ولا الخضوع لأي رقابة أو مُحاسبة.
الثانية الانتشار الواسع للنص المنشور. إذا كان الكتاب الورقي يأخذ شكل جسم مادي يتطلب الحمل والنقل والسفر والتوزيع والبيع والشراء، والتنقل داخل حدود جغرافية، وما إلى ذلك، فإن الكتاب نفسه، عندما يتخذ من الحامل الرقمي وعاء له، يتحرر من قيود النشر المادية كافة، وبالتالي يصل إلى مجموع القراء المحتملين، في كافة أرجاء المعمور المتصلة بالشبكة، ويكون رهن إشارتهم 24 ساعة على 24 ساعة. بكلمة واحدة، لقد حررت الرقمية النص من إكراهات الكلفة المادية، والرقابة، والزمان، والمكان.
لقد أشرع هذان المعطيان باب النشر على مصراعيه أمام الجميع، فكان من الطبيعي أن تزحف جيوش الكُتاب «الممنوعة» من عالم النشر الورقي (عدلا أو ظلما) إلى القارة الافتراضية الجديدة بغاية الاستيطان، وتجد فيها ما يشبه جنة عدن…
ثمة من يندد اليوم بهذا الوضع، بل هناك من يعتبره مُهدِّدًا للحضارة البشرية جمعاء. ويقوم التأمل هنا في جوهره على مسألة «المصفاة»، بمعنى أنَّ الغياب التام لكل رقابة على ما ينشر يجعل في متناول أي كان أن يأتي وينشر ما شاء باعتباره ما شاء، مما يؤدي إلى بلبلة وتشويش على الأعمال الرصينة، من جهة، ويتدخل في صلب عملية التنشئة الاجتماعية للأطفال محدثا فيها تشويشا، من جهة ثانية[4]…
لكن، من زاوية أخرى، يمكن اعتبار الوضع نفسه نتيجة طبيعية لعمل في مجال الكتابة والحوامل استغرق عدة مئات من السنين؛ في عصور اللوح الطيني ولفافة البردي والكتاب المخطوط كان تعلم الكتابة والقراءة ونسخ النصوص يستغرق وقتا طويلا، وكان اقتناء النصوص ليس في متناول غير الميسورين والأثرياء، ومع اختراع جتنبرغ اتسعت دائرة الكتاب والقراء وانخفضت كلفة إنتاج الكتاب، فأصبح الوصول إليه في متناول فئات اجتماعية واسعة ، وبالتالي اتسعت دائرة تعلم الكتابة والقراءة وولوج المعارف، ومن ثمة أيضا أصل الأعداد الهائلة للكتاب والشعراء والباحثين اليوم مقارنة بمجتمعات الماضي، والفوران الذي يعرفه قطاع التأليف والنشر حالي في كافة حقول الإبداع والمعرفة ليسَ على الصعيد الورقي، حيثُ يَصدرُ كتابٌ في كل ثلاثين ثانية، وبل وكذلك في المجال الرقمي.
مما سبق يمكن استخلاص أن الرقمية الآن بصدد سحب الأرضية ذاتها التي كان يقف عليها في الماضي ما نسميه بـ «الأعلام»، نظرا لإدخالها تغييرات جوهرية على الكتابة من حيث رفع قيود النشر، ومضاعفة كم الإنتاج، وسهولة الحامل وسرعة الانتشار، لكن أيضا من حيث ممارسة التلقي أو القراءة. فبيئة النصوص الرقمية تختلف كليا عن بيئة النصوص الورقية. من الآن فصاعدا كف النص عن أن يكون جزيرة معزولة، وفي المقابل صار عقدة داخل خيط أو خيطا في نسيج، وبالتالي أصبحَ مستحيلا عليه أن يأسر القارئ الذي تحول بدوره إلى شبه رحال على الدوام؛ صار كل نص بداية رحلة تقود إلى نصوص أخرى… ومعنى ذلك أن صلة الوفاء لهذا الكاتب أو ذاك، من لدن القارئ، على نحو ما كان سائدا في أزمنة الأعلام تتعرض الآن لشرخ كبير… بتعبير آخر، لقد عرضت الرقمية للاهتزاز ميثاقَ القراءة وصلةَ وفاء القارئ للمؤلف. ومن أشهر الأمثلة على ذلك حكاية الكاتب الأميريكي Stephen King، في هذا الصدد، حيثُ أراد في يوليوز 2000، الاستئثار بالعائدات الطائلة لكتابته، بعيدا عن وساطة ناشره الورقي، إذ خاطب قرائه من موقعه كاتبا ما يلي: «لدينا فرصة لكي نصبح أسوأ كابوس للناشرين الكبار»[5]، ثم شرع في نشر روايته الجديدة The plant، على الخط، مُقترحا على قرائه تنزيلها مقابل دفع دولار واحد مقابل كل فصل جديد، بعد أن صمم لهذا الغرض موقعا في شبكة الأنترنت كلفه بناؤه 000 170 دولار، لكن عدد قرائه انهار بشكل متزايد بما جعله يتخلى عن المشروع في شهر نونبر من السنة نفسها، ولم يكن ما كتبه قد تعدى ستة فصول من العمل[6].. هذا المثال يدعم فكرة نهاية الأعلام التي نتوقعها.
من مؤشرات هذه النهاية أيضا ظهور برامج للكتابة (يسميها البعض بآلات للكتابة [الأدبية])[7]، يتيح أحدها للقارئ، على سبيل المثال، أن يختار موضوع القصيدة التي يريد فيتكفل البرنامج القادر على نظم عدد لا نهائي من الأبيات الشعرية، من خلال إنجاز عمليات حسابية، ثم موافاة القارئ بها في بضع ثوان. أكثر من ذلك، منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، استطاع الحاسوبُ، بفضل برامج معلوماتية مصممة خصيصا للكتابة أن يؤلف نصوصا في كافة أجناس الخطاب تضاهي نظيرتها التي يكتبها الإنسان، وبغزارة تفوق قدرات هذا الأخير[8]، الشيء الذي جعل أشهر مصمم هذا النوع من البرامج في فرنسا، يدعو، في بيانه «من أجل أدب معلوماتي»، إلى إعادة النظر ليسَ في مفهوم المؤلف، والتشكيك في امتلاك الكُتاب والشعراء لنبوغ أدبي «مزعوم» يبرر تمتيعهم بوضع اعتباري متميز داخل المجتمع فحسب، بل وكذلكَ التشكيك أيضا في جدوى الكِتَاب والمكتبة[9]. وقد يكون هذا النوع من الكتابة، وربما الأدب الرقمي عامة، أحد مؤشرات زحف الآلة على الأدب في سياق المد الرقمي، ومدعاة للتساؤل مع جان كليمون عمَّا إذا كان الأدب باستعماله للتكنولوجيا الرقمية يُجازف بالتلاشي والتبخر فيها[10]. وفي سياق غزو الحاسوب والآلات الذكية لكافة مرافق الحياة المعاصرة، يُتوقع أن تختفي معظم المهن والوظائف الحالية، في غضون العقدين المقبلين، بما فيها تلك التي تتطلب مجهودات عقلية في غاية التعقيد[11]. وقد لا يسلم الأدب من هذا الزحف. ففي مارس 2015، تناولت العديد من المنابر الإعلامية خبر نجاح فريق من الباحثين بإحدى الجامعات اليابانية في برمَجَة حاسوب لكي يكتب رواية، فكتبها بالفعل، وكانت من الجودة بحيثُ نجحت في اجتياز التصفيات الأولى لنيل إحدى كبريات الجوائز الأدبية باليابان[12]، فتساءل البعضُ إزاء هذا الحدث مستغربا: «ماذا تبقى للبشر؟ فبعد أن هزمهم الذكاء الاصطناعي في لعبة الشطرنج، ثم في لعبة Go مؤخرا، هل سيجردنا هذا الذكاء من إبداعنا الأدبي؟ !»[13]
هل ينتج عالم الرقم أعلامه؟ لقد اجتازت الكتابة حقبة شبه مماثلة، على إثر اختراع المطبعة، حيثُ فُتح بابُ الكتابة والنشر على مصراعيه أمام الجميع، فتمَّت مواجهة ذلك الوضع، بإجراءات عدة، أهمها اثنان: فرضُ إجراء الإيداع القانوني على المنشورات، ثم ظهور مفهوم المؤلف والملكية الفكرية:
«ظهر مفهوما المؤلف والملكية الفكرية مع الرأسمالية والصحافة، ابتداء من القرن الثامن عشر الميلادي. إلى ذلك الحين، كانت الثقافات بدائية وشفوية، كما لم يكن مجتمع القرون الوسطى [الأوروبي] يملك فكرة المؤلف ولا الملكية الفكرية ولا ملكية الممتلكات الرمزية. وقد أدخلت الحداثة الصناعية الفكرة الرومانسية المتمثلة في وجود مؤلف مُلهَم ومالك لإبداعه، وهي فكرة سيتم استعمالها للتكم في رواج الممتلكات الملموسة وغير الملموسة التي من أجلها يتنازل المؤلف عن حقوقه للناشرين مقابل دفعهم إتاوات له»[14].
فهل يحصل شيء مماثل اليوم لوضع حدّ لـ «فوضى» النشر في العالم الافتراضي؟ ثمة من يدعو إلى ذلك، إذ يرى أن هذا الفوران للنشر الرقمي يعود أساسا إلى غياب السلطة وأنَّ فعلَ إعادة إقرار السلطة وحدَه قادر على وضع حدَّ لهذه البلبلة، لكن صاحب الرأي يقر بعجزة عن معرفة من سيستطيع إعادة فرض هذه السلطة[15].
على افتراض أن تنتج الرقمية أعلامها، فإنه من المحقق أنهم لن يكونوا نسخة من أعلام عصر الطباعة الورقية الآيل إلى الزوال، كما من الصعب جدا الجزم بالشكل الذي سيأخذونه بالنظر إلى الآفاق التي فتحتها الرقمية أمام الكتابة التي لم يعد الخط فيها يتجاوز مجرد أحد مكونات النصوص التي صار من الآن فصاعدا بإمكانها أن تحتضن الصوت والصورة، بل وعمليات حسابية، ناهيك عن إمكانية التفاعل مع القارئ الذي صار في بعض الكتابات يختار مسارات للقراءة بحيث يستحيل قراءة النص الواحد بطريقة واحدة في مرتين متعاقبتين، بل ويستحيل إنهاء قراءة النص الواحد على غرار ما نجد في رواية ميكائيل جويس بروايته Afternoon التي صارت الآن من كلاسيكيات جنس روائي جديد ظهر مع الرقمية، يسمى «النص التشعبي التخييلي» Hypertexte de fiction. هذا الشكل الإبداعي الجديد الذي عرف انتشارا واسعا وأحدثت برامج خاصة لإنشائه[16]، يستحيل كتابته وقراءته في الورق نظرا لأنه يفتح إمكانيات عديدة للكتابة والقراءة، يحرر المؤلف من إكراهات الكتاب الورقي (الأبعاد الثلاثية: الطول، السمك والخطية) ومقتضيات السرد الكلاسيكي، ويدخل القارئ في متاهة؛ يضعه أمام خيارات عديدة للقراءة على نحو يجعله هو كاتب ما يقرأ، ويجعل من القراءة عملية تفاعلية، مفتوحة على الدوام، لا يوقفها إلا ملل القارئ أو رغبته في هذا الإمساك….
مهما يكن الأمر، فالكلمة الأخيرة ستكون للمستقبل، كما يرى البعضُ. فمنذ حوالي عقدٍ، قال أحد كبار العارفين بالأدب الرقمي الفرنسي، على حد تعبير جان كليمون: « يجب انتظار خمسين عاما على الأقل، لاستخلاص كل نتائج الانتقال من المطبعة إلى المعلوماتية»[17].
في الختام، لا يفوتنا ملاحظة أن معظم الكتابات الإبداعية العربية المنشورة في الشبكة اليوم لا تستحضر هذا الإبدال الجديد الذي فرضته الثورة الرقمية على الكتابة في عالمنا الراهن، إذ الهم الرئيسي للمبدعين العرب – حسبما ما يبدو – «مبتدئين» في عالم الكتابة ومُكرّسين فيه على السواء هو ثلاثة أشياء:
أ‌) استغلال الأنترنت بغرض النشر لما يوفره هذا الوسيط من سهولة للوصول إلى القارئ وتجاوز للرقابات التقليدية، وتحرك هذا النشر لدى الكثيرين رغبة قوية في الانتشار الواسع، ومن ثمة إرسال النص الواحد، من لدن المؤلف الواحد، إلى عدد كبير من المنابر، وهو سلوك لا يعي حقيقة استحالة تحقيق شُهرة على غرار ما كان يتم في النشر الورقي، لأن الشبكة، كما مر بنا، عالم لا مركز له و لا محيط؛
ب‌) نشر الكتابات رقميا من أجل إعادة إصدارها ورقيا؛
ج) أثر مما سبق، هناك من يتخذ الفضاء الرقمي وسيلة لرقن كتاباته الصادرة في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، في ملاحق ثقافية لصحف ورقية، فيقوم بجمع نصوصه وتدوينها (بالمعنى الحرفي لهذه لعبارة التي يُشارُ بها إلى حركة كتابة التراث الأدبي واللغوي والديني ابتداء من منتصف القرن الأول للهجرة).

[1] Jean Clément, «La littérature au risque du numérique», Document numérique, Volume X – n° X/2001, pp. 1-22:
URL : http://www.cairn.info/revue-document-numerique-2001-1-page-113.htm
DOI : 10.3166/dn.5.1-2.113-134
[2] Pierre Lévy, Essai sur la syberculture: l’universel sans totalité. Rapport au conseil de l’Europe, version provisoire :
http://hypermedia.univ-paris8.fr/pierre/cyberculture/cyberculture.html
[3] Ministrère de la culture, Rapport de la Commission de réflexion sur Le livre numérique, mai 1999»:
http://www.culture.gouv.fr/culture/actualites/rapports/cordier/avant- propos.htm

وكذلك:

– Louise –Caroline Dias, Cyberculture: La fracture [du texte] numérique, Mémoire présenté dans le cadre du DESS, Université Lumière Lyon II, 2002, pp. 31, 71, 83:
http://manuscritdepot.com/edition/documents-pdf/doc-454.pdf
[4] Umberto Eco, Auteurs et autorités (un entretien avec Gloria Origgi, traduction d’Anne- Marie Varigault):
http://www.text- e.org/conf/index.cfm?ConfText_ID=11
[5] Jean Clément, «La littérature au risque du numérique», op. cit.
[6] Christian Vanderdorpe, Pour une bibliothèque universelle:
http://www.uottawa.ca/academic/arts/lettres/vanden/biblio_uni.html
[7] Bernard Magné, «Machines à écrire, machine à lire«, in Études françaises, Internet et littérature : nouveaux espaces d’écriture?Volume 36, numéro 2 (2000):
http://www.erudit.org/revue/etudfr/2000/v36/n2/005258ar.pdf
[8] Jean Clément, «La littérature au risque du numérique», op.cit:
[9] Jean-Pierre BALPE, Pour une littérature informatique: un manifeste…, avril 1994, chatonsky:
http://chatonsky.net/files/pdf/jean-pierre-balpe/jpb_manifeste.pdf
[10] Jean Clément, «La littérature au risque du numérique», op. cit.
[11] Bernard Stiegler, «La société automatique», Conférencé donnée à L’INRIA, date de publicatiob sur youtube le 15 septembre 2015 :

[12] Tech, «Une intelligence artificielle gagne presque un concours littéraire», Futura Sciences, 29/03/2016 :
http://www.futura-sciences.com/tech/actualites/technologie-intelligence-artificielle-gagne-presque-concours-litteraire-62205/
[13] Pierre Fontaine, «Japon: une intelligence artificielle a écrit un roman pour concourir à un prix littéraire», Hightech.bfmtv, le 26/03/2016 :
http://hightech.bfmtv.com/logiciel/japon-une-intelligence-artificielle-a-ecrit-un-roman-pour-concourir-a-un-prix-litteraire-962186.html
[14] André Lemos, «Les trois lois de la cyberculture. Libération de l’émission, connexion au réseau et reconfiguration culturelle», article a été présenté au séminaire «Sentidos e Processos » lors de l’exposition «Cinético Digital», Centro Itaú Cultural, São Paulo, août 2005, Sociétés, 2006/1 (no 91), Imaginaire, technologie, socialité, pp. 37-48 :
https://www.cairn.info/revue-societes-2006-1-page-37.htm#no1

[15] الرأي لميشال ميلو رئيس المجلس الأعلى للمكتبات بفرنسا (سابقا)، أوردته ناتالي كروم في دراستها: «تحول الحيوان القارئ: ممارسات القراءة الجديدة» (بالفرنسية):
– Nathalie Crom, «Mutation de l’animal lecteur : les nouvelles pratiques de lecture», Télérama, publié le 26/12/2013. Mis à jour le 24/12/2015 à 11h32 :
http://www.telerama.fr/livre/mutation-de-l-animal-lecteur-les-nouvelles-pratiques-de-lecture,101239.php
[16] يمكن الوقوف على لائحة لأعمال الخيال التشعبي، بالعنوان:
http://esastgate.com/Hypertext.htm
ومن الأعمال التي يمكن قراءة نصوصها كاملة على الخط، يمكن الرجوع إلى نص «فقدان الذاكرة «Amnésie:
http://www.amnesie.net
و يمكن الوقوف على لائحة لأعمال الخيال التشعبي، بالعنوان:
http://esastgate.com/Hypertext.htm
[17] Jean Clément, «Préface. Une littérature problématique», in Serge Bouchardon (dir.), Evelyne Broudoux, Oriane Deseilligny et Franck Ghitalla, Un laboratoire de littératures. Littérature numérique et Internet , Paris, : Éditions de la Bibliothèque publique d’information, Collection Études et recherche, 2007, Publication sur OpenEdition Books : 14 mai 2013, pp. 1-8.

Breaking News