قرأت باهتمام كبير عمل حميد الدليمي، فوجدته يتيح تحقيق معرفة أفضل بعمل ابن المقفع الذي يعتبر أحد كتاب النثر الأوائل في اللغة العربية (ت. 757م/140 هـ). في الواقع، من الجيد معرفة الأفكار السياسية لهذا المؤلف الذي كان كاتبا للخليفة، مثل معاصره عبد الحميد الكاتب. لا يتعلق الأمر عند ابن المقفع بـتصحيح «نظام سياسي»، لأن لا شيء في فكره منهجي ومُنظم، إذ هو عبارة عن نصائح موجهة للأمير (وصايا عملية تأخذ نماذج لها مرايا الأمراء في الثقافة الفارسية)،
إنه حكايات خرافية يقتضي الوقوف على معناها السياسي القيام بعمل تأويلي. وفي جميع الأحوال، تظل أطروحة حميد الدليمي في هذا الكتاب هي أن الشأن السياسي، بالنسبة لابن المقفع، هو مؤسَّسة إنسانية لا توجد مبادئها في الدين. ولإظهار ذلك، قام حميد الدليمي، في سياق آخر[1]، بتذكير مُسهَب بالتطورات التاريخية لتشكُّل مجموع المسلمين، ختمه بتعريف بابن المقفع…
كان الدليمي على صواب بالتأكيد في توضيحه الانشغال السياسي عند ابن المقفع، وقد سعى إلى البحث عن مصادر هذا الانشغال. ربما هناك مصادر إغريقية؛ لماذا تُجهَل سياسة أرسطو ظاهريا؟ نرى أنَّ هذا العمل لم يُترجَم إلى اللغة العربية، وأنه لم يُقرأ في العصر الوسيط حتى[2]، ومن ثم نجاح المنتحلات التي ينسَبُ إليها هدف سياسي (سرالأسرار[3]، رسائل أرسطو إلى الإسكندر). لذلك، بينما كان يجعل أرسطو من السياسة علما مِعماريا، يضع ابن المقفع الأخلاق في الأساس؛ ولكن أليس هناك صعوبة فيما يخص عَلاقات السياسة بالدين (بما أن التعاليم الدينية تكون دائما ذات طبيعة أخلاقية)؟ يوجد هنا غموضُُ، أحسَّ به حميد الدليمي، ويحتاج إلى مزيد من التحليل.
إذا كان ابن المقفع قد انتقِد من قِبل معاصريه، وافتري عليه حتَّى، وأخيرا تعرض للمحاكمة، أليس ذلك لأنه كان «فوضويا» مثل عروة بن الورد؟ إننا نقلق من المعنى المعطى لصعلوكنا الذي يطلق عادة على «الشحاذ».
أظهر حميد الدليمي، بعمله هذا، أن ابن المقفع سعَى إلى القيام بسياسة عملية أكثر منها نظرية. والحال أنه لم ينشئ مذهبا بشكل فعلي، كما يُردِّد ذلك محرر هذا الكتاب الذي يسجل أيضا الجانب «العلمي» في عمل ابن المقفع. أمام نصوص ابن المقفع، نحن بعيدون عن أفلاطون وأرسطو. وكان من شأن المقارنة بين الفيلسوفين الإغريقيين والكاتب العربي الإسلامي أن تمضي أبعد. فالتمييز بين الحاكم والمحكوم ليس من ابتكار ابن المقفع، إنه معروف جيدا عن أفلاطون، وأرسطو، وبعض الأفلاطونيين الجُدُد. أما الرواقيين، فالدليمي يتحاشى كليا ذكر أن لهم مرامي سياسية وأنَّ عناصر من مذهبهم قد انتشرت بكيفية واسعة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط.
لقد أجاب حميد الدليمي بوضوح، بصواب وإخلاص، عن الأسئلة التي طرحها. وهو يعترف أيضا بحدود عمله. ولإنهاء هذه الكلمة أشدد على فائدة هذا العمل والأهمية التي يكتسيها. فهو يُظهر لنا مُفكرا من القرن الثامن الميلادي وهو [= المفكر] يعرض أفكاره، التي يخلف بعضها اليومَ صدى باعتباره راهنيا. لقد أحسَّ هذا المسلم الشرقي عن صوابٍ بأن الشأن السياسي – في المجتمعات الإسلامية نفسها – لا يمكن أن يُستخلص من الكتاب، وأن مَصادره لا توجد في الدين. كان من اللائق قوله فيما مضى، ومن اللائق تدريسه اليومَ.
البروفيسور م. تييه
أستـاذ بجامعة السوربون
————-
هوامــش
[1] Hamid Dlimi, Ibn Al Muqaffa’. Essai sur la genèse de la science politique musulmane, Thèse pour l’obtention de Doctorat en Droit, Université de Paris X – Nanterre (UER Science Juridiques, Administratives et politiques, 1990.
[2] Cf. la tradition manuscrite grecque.
[3] تم نشره باللغة العربية تحت عنوان: سر الأسرار. السياسة والفراسة في تدبير الرئاسة، تقديم سليمان الأعور، بيروت، دار الكتب للجميع، الطبعة الثانية 1986 (174 ص.) [المترجم].
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الجمعة 21-09-2012 01:38 صباحا