القسم الثاني: الأخلاق والسياسة في مشروع ابن المقفع
تلتقي الأخلاق والسياسة في كونهما معا يهدفان إلى «تكوين نوع معين من العلاقات الإنسانية، إنشائه والحفاظ عليه، ثم الدفاع عنه وتجسيده، وهي علاقات تتحدَّد بلغة المعنى والقيم»[1]. والأخلاق عند القدماء هي أن يحكم المرء ذاته، إنها أساس الحياة الدنيوية التي يتمثل هدفها في النجاح وتحسين ظروف حياة الناس
تختلف أخلاق ابن المقفع جوهريا عن التقليد الأبيقوري[2]. فهو لا يؤمن بأخلاق مستقلة عن الشأن السياسي، أي أخلاق بيفردية بشكل حصري أو بدون فائدة بالنسبة للحياة العمومية[3]. على العكس من ذلك، يرى ابن المقفع أن «للحكيمِ-رمز» العلم حضورا فعالا اجتماعيا وسياسيا. فهو يتناقش مع العامة، يستنكر، ويحتجّ… ويسهر على ألا يتجاوز الأميـرُ حدُودَ العدل.
وبذلك، فالأخلاق لا تنفصل عن السلوك الإنساني، ولهذا السبب تترسخ تلقائيا في الشأن السياسي.
«الأخلاق» أو «الآداب» هي «علم العادات»، أي المعرفة التي تحدد قواعد السلوك من الرعايا إلى الأمير، مُرُورا بالصحابة.
ولهذه الأخلاق خاصية قليلة الشيوع. فهي، في الواقع، قابلة للتطبيق على الجميع، بيد أنها لا تخلو في ذلك من تنوع بحسب الوضع الاعتباري للأشخاص الموجهة إليهم. فالأميرُ، مثلا، ليس هو الحكيم. بهذا المعنى تعتبر الأخلاق عند ابن المقفع امتدادا لسياسته. قد يكون من السطحي اختزال فكره إلى أقواله وحكمه المجموعة في أدبيه الكبير والصغير، أو محاولة تنظيمها بعيدا عن إدماجها في الشأن السياسي، لأن الأمر يتعلق بأخلاق مُتراتبة موجهة إلى الخواص، وهم الصحابة (صحابة الأمير / الخليفة)، والأمير ثم إلى الحكيم. وبهذه التراتبية نفسها، تصير الأخلاق «سياسة خالصة» تعطى فيها الأولوية لتحسين ظروف عيش الناس. ما هو النظام الأكثر قدرة على تحقيق هذا الشرط؟ وفي أي نوع من المجتمعات؟
لم يكن لابن المقفع أن يختار بين الجمهورية والأوليغارشية أو الملكية، لأن اختياره كان محدودا بين الخلافة التي تعتبر نموذج الحكم الذي يفتقر إلى قواعد قائمة، من جهة، والملكية من جهة ثانية. بيد أن هذا البديل سبق لابن المقفع أن حسَمَهُ؛ الملك هو الذي يشكل – في نظره – النظام الوحيد، مُعتبـرا أنَّ الخلافة ليس لها أي دلالة واقعية وأنها ليست سوى شكل مختل من الـمُلك / الملَكية.
ومفهوم «الملِك» تصوّرُُ وجدَه ابن المقفع في الحضارات الشرقية، ثمَّ دَمَجَه في نظام تفكيره بطريقة منظمة.
يرى المؤلف أن معالجة صفات الملك هو العلم الحق، وهو من اختصاص الحكيم وينبع عنده من الانشغال بتحقيق العافية في العالم الدنيوي. هل يتعلق الأمر بامتداد للنظام الأخلاقي أم بمستوى خاص من هذا الفكر؟ قد لا نجد سبيلا للإجابة عن هذا السؤال، ولكننا نميل إلى اعتبار أن عدالة الأخلاق وفعالية الشأن السياسي ليسا سوى وجهين لعملة واحدة…
امتدادا للأخلاق أو للسياسة، هل مشروع ابن المقفع قابل للتحقيق؟ إن التاريخ يحث ابن المقفع على الاعتقاد بقابلية تحقيق ذلك. وهو – فوق ذلك – غالبا ما يثيرُ لحظات تاريخية محدَّدة، فيذكر دبشليم الملك الفارسي، وبُزُوردج ميهي، والإسكندر، وأردشير، الخ.، وملوك آخرين من الهند، والصين وبيزنطة[4]، وكلها وجوه تاريخية ترافِعُ، في اعتقاد ابن المقفع، من أجل مثالٍ قابل للتحقيق.
————–
هوامـــــــــــــــش
[1] Polin, R., Ethique et politique, Paris, 1968, p. 104.
[2] في هذا الصدد، انظر:
Bergson, H., Les deux sources de la morale et de la religion, Paris, 1959; Levy Bruhl, L., La Morale et la science des moeurs, Paris, 1959; Goby, I., Les niveaux de la morale, Paris, PUF, 1961.
[3] حول مثل هذه الأخلاق، راجع:
Le Senne, R., Traité de morale générale, Paris, 1967, pp. 159-183.
[4] مثلا كليلة ودمنة (الترجمة الفرنسية)، م. س.، ص. 72-73.
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الخميس 20-09-2012 10:45 مساء