سأنطلق في هذا العرض من تعريف للثقافة، ثم سأحدد منه النزعة الإنسانية والإنسانيات الأوروبية. بعد ذلك سأحلل هذه المفاهيم في السياق المعاصر وخاصة فيما يتعلق بفكرة ما بعد الإنسان، لأختتم بالتساؤل عن آفاق النزعة الإنسانية اليوم.
1) أولا وقبل كل شيء، ما هي الثقافة؟
يمكننا أن ننطلق من بعض التعريفات المقبولة بسهولة. الثقافة بمعناها الواسع هي مجمل خصائص شكل من أشكال الحياة الإنسانية. لنقدم أمثلة على ذلك. هناك شكل حياة المزارعين المستقرين، وشكل حياة الصيادين، وشكل حياة رجال الأعمال الدوليين، وشكل حياة جماعات المغتربين أو المهاجرين من أصل معين داخل بلد ما – مهاجري هايتي في نيويورك، سكان مالي المقيمين في فرنسا. بهذا المعنى الواسع، الثقافة هي نمط حياة مجموعة ما، وتتألف من عناصر متنوعة ومختلفة: العادات الغذائية، وأنماط اللباس، وأشكال العمل، والسلوكات الجنسية، ورمز الشرف، ولغة واحدة أو أكثر بلهجات فرعية، وربما منتوجات فنية أو أنماط استهلاك فنية، الخ .. الخ.
الثقافة بمعناها الواسع تشمل جميع جوانب أشكال الحياة، من العادية جدا إلى الأكثر تعقيدا. وأشكال الحياة البشرية عديدة جدا، كي لا نقول إنها لا تحصى بسبب وجود عدد لا يحصى من الجماعات البشرية متفاوتة الحجم. بعض الثقافات تكون عبارة عن ثقافة مجموعات صغيرة من المؤهلين (الهاكرز، القوطيون) أو الناجين من عصر في طور الانقراض (رعاة الانتجاع). وتكون ثقافات أخرى وطنية و – لماذا لا اليوم – عالمية لأنها تهم مجموعات أوسع بكثير. وبذلك، فهناك ثقافة عالمية لمشجعي كرة القدم (مع وجود اختلافات محلية) وثقافة الروك والبوب أو تكنو الشباب كلها عالمية على حد سواء. هذا التعريف الواسع للثقافة ينتمي إلى الأنثربولوجيا الثقافية، إذ لا ينطلق من التفريق بين الثقافة العالية والثقافة الشعبية. فكل مجموعة ثقافتها الخاصة.
من ناحية أخرى، لدينا فكرة أخرى عن الثقافة، هي فكرة الثقافة العالية، وهو مفهوم نخبوي و«مثقف». لدينا في الثقافة الأوروبية أشكال تعبير أدبي أو موسيقي عمل (الرواية، السينما، الأوبرا، الخ.)، يمكن تحديد القيم التي تحكمها، والتي عندما تنفذ بالكامل تؤدي إلى ولادة أعمال فنية رائعة.
وقناعتي هي أن الثقافة بهذا المعنى «العالي» ليست شيئا آخر سوى مجموع القيم التي تقوم عليها أشكال الحياة بالمعنى الأول للثقافة، ولكنها تكونُ مصقولة ومُطوَّرة. فروايات جوزيف كونراد، مثل «الإعصار» أو «زنجي نارسيساس» هي تطوير على نحو مثالي لرواية المغامرة وقصص البحارة. و«المطبخ الكبير» الذواق هو تحقيق للقيم العليا لأنماط الطهي الموجودة في الثقافة بالمعنى الواسع.
وعليه فالثقافة العليا ليست هي فقط ثقافة أوروبا العليا، أي ثقافة المثقفين أو الطبقات المثقفة أو المصقولة، إذ يمكن أن تنشأ في أي مجموعة بشرية بوصفها تطويرا وتحقيقا للقيم العليا الموجودة في الثقافة بمعناها الواسع.
مرة أخرى لنأخذ أمثلة. اليوم هناك، على سبيل المثال، ثقافة راقية للكتابة على الجدران تصوغُ القيم الحالية للثقافة الشعبية للشباب الذين يكتبون على الجدران. في مؤتمر حديث حول الفن المعاصر، كان بجانبي أخصائي في الكتابة على الجدران وصف بشكل دقيق معايير جودة الكتابة الجيدة على الجدران (الحجم واللون، والحركة، وغياب القيم التجارية، والمخاطر التي يتمَّ اجتيازها للكتابة) وأكَّد أنَّ ذلك لا علاقة له إطلاقا بفن أهل المتاحف المثقفين زعما… فهو يرى من الواضح أن هناك ثقافة راقية للكتابة على الجدران وثقافة العلامة، ولكنها ليست ثقافتنا الراقية.
لن أتوقف طويلا عند وظائف الثقافة، لأن موقفي لا يحمل أي جديد إذ يلتقي مع أغلب الكتاب المعاصرين، مثل هابرماس. الثقافة هي نوع من الوسط الثاني أو الأوسط الذي به تنظم جماعة بشرية نفسها وتنظم علاقتها بالوسط الخالص، أي بما قد نميل إلى تسميته بالطبيعة أو البيئة ما لم تتدخل الثقافة في تعريف هذه الطبيعة والبيئة فيصير من المستحيل الحديث عن بيئة «عارية» أو «خامَّة».
إن عدنا إلى مثال ثقافة البحر، فجميع سمات شكل الحياة البحرية توَحِّدُ المجموعة وتقوم بدور الوسيط بين الجماعة على متن الباخرة والعنصر الطبيعي الذي يسمى «البحر». هذه الثقافة تجعل الجماعة تطلق أسماء تقنية جدا على الرياح والتيارات والأسماك والأخطار. وسنكون مخطئين إذا ظننا أنه يوجد في مكان ما بحر خام، أي عنصر طبيعي خالص. تعمل الثقافة البحرية مثل وسط ثان بداخله يرتبط الرجال فيما بينهم بعلاقات ويتواصلون ويواجهون «الطبيعة البحرية» بشكل جماعي. وهذا يعني أن الثقافة تكون دائما جماعية وأنها تغطي عناصر رمزية كثيرة لا سيما فيما يتعلق بالنقل. الثقافة هي مجموع المواضعات الرمزية التي تنظم وترتب علاقة الجماعة البشرية بمحيطها.
تتضح هذه النقطة أكثر إن ننظر إلى الثقافة التقنية أو الثقافة الجسد. فالبشر هم حيوانات اخترعت أدوات وتعرف كيفية تناقل تقنيات التصنيع والاستخدام. فبأداة اسمها القدوم يستطيع الرجل أن يحفر بمفرده جذع شجرة ليصنع منه مركبا، ولكن يبقى من الضروري أن يعرف بعض أفراد الجماعة كيف يصنعون فؤوسا وأن يتعلم الآخرون استخدامها. حتى أوضاع التي ينبغي أن يأخذها الجسد لاستخدام أداة ما، وللنوم أو للراحة، كلها يتم تعلمها ثقافيا.
تقوم الثقافة إذن على مواضعات رمزية، أي على تعاريف وقواعد لمزاولة أنشطة: نجد فيها خليطا من وصفات الطبخ ومهارات الحركات الجسدية التي يجب معرفتها لاستخدام أداة ما، وتربية الحيوانات، والتعاون مع أناس آخرين، وقواعد المجاملة ومدونات الشتائم، الخ.، ومعايير فنية لتحديد قصة، أو ملحمة، أو لوحة الدينية، الخ .. الخ.
من هنا يمكن أيضا أن نفهم لماذا تصلح قيم الثقافة العليا: إنها نماذج لنقل المواضعات وتلقينها. فهي تقول لنا كيف يجب أن تكون الأمور، وكيف ينبغي القيام بها، وكيف ينبغي أن تكون عندما يتم إنجازها بطريقة جيدة. هكذا، في حالة وصفة الطبخ أو قاعدة فنية حِرفية، على سبيل المثال، فهي تقول كيف يجب تحضير طبق أو صنعُ كائن ما بكيفية «صحيحة ثقافيا» كما تصلح طبعا لنقل القواعد إلى أعضاء الجماعة.
للثقافة، بالتالي، بالمعنيين اللذين ميَّزتُ قيمة تكيف: فهي تمكِّنُ القادمين الجدد من تعلم طرق حياة المجموعة، كما تسمح بتطوير العلاقة مع البيئة. تجدر الإشارة إلى أنه يمكن الدفع بعيدا بصقل وتطوير القيم التي تشكل أساسا لثقافة ما إلى حدود الإسراف أو الغرابة، كما في شعر الباروك، والطبخ المغرق في التعقيد، والكياسة المتعجرفة، وما إلى ذلك.
قد تكون عناصر الثقافة أصلية، أي خاصة بمجموعة وداخلية المنشأ، ولكنها يمكن أيضا أن تكون مستعارة، أي مستوردة ومُرقَّعة من الاتصال مجموعات أخرى والغزوات والاستكشافات والاكتشافات. ليس هناك مبدأ نقاء ثقافة ما: الأمر هو بالأحرى مسألة فائدة ومواضعة. لا يدخر الناسُ جُهدا لتنظيم علاقاتهم والتكيف مع بيئتهم. يريد بعض الأصوليين أو التقليديين أحيانا تقليل الدخيل أو منعه في حين يريد آخرون على العكس توسيع الثقافة وتجديدها. كلا الحالتين موجودتان.
2. ما النزعة الإنسانية:؟ ما الإنسانيات؟
من هنا، سأحدَّدُ النزعة الإنسانية باعتبارها شكلا من أشكال الثقافة المتقدمة لعالم أوروبي ذَهب للبحث عن قسم من قيمه وأدواته في الثقافة القديمة، وأنتجَ اشكالا جديدة من الاجتماع والجماعة السياسية الأوروبية الصرفة. ظهرت النزعة الإنسانية في القرن الخامس عشر بايطاليا وهولندة وفرنسا وألمانيا، وهي ثقافة أوروبية أساسا. لن أتوقف طويلا عند تاريخ هذا النزعة، فقد تطرقت محاضرات أخرى إلى هذا الجانب، لا سيما تلك المتعلقة بالنزعة الإنسانية الرومانية.
بدأ بناء النزعة الأوروبية مع النزعة الإنسانية القديمة وخاصة مع فكرة الإنسانياتhumanitas لشيشرون. يتعلق الأمر بتحديد ما يميز الإنسان عن الحيوان، والمتوحشين والبرابرة، وما يقتلع الإنسان من حالته الطبيعية. هذه الطبيعة العليا للإنسان ليست مُعطاة، بل تُكتسب من خلال التربية والتعليم والاتصال بالآخرين، ومن هنا الحاجة إلى الاعتماد على مصادر الآداب والفنون، وتعلم البلاغة وقواعد اللغة، والشعر والتاريخ وفلسفة الأخلاق، وكذلك تعلم ما يتصل بالتكوين على الفضيلة وتعلم الحكمة وأساليب الحياة الحكيمة. هذه هي الإنسانيات.
شيئان يحتلان مكانة أساسية في النزعة الإنسانية: جودة العلاقة مع الأعضاء المشابهين الذين هم أيضا أعضاء من النوع البشري يتوفرون على نفس الإنسانية، ثم جودة الصلة بالغير. من وجهة نظر الاجتماع، يتم التركيز على التضامن والعدالة والرأفة والرحمة، أي ما يتعارض مع الشدة والقسوة «غير الإنسانية». ومن وجهة نظر التواصل، يتم التركيز على نوعية التعبير والإقناع (الخطابة) وعلى صفات التهذيب والتحضر (فن المحادثة والتبادل).
كل هذا يتطلب تعلمات، ولذلك تحتل التربية مكانة المركز في مشروع النزعة الإنسانية. يتعلق الأمر بنقل المعارف والعادات الفاضلة من خلال الدراسات الإنسانية والآداب والرسائل الإنسانية، من خلال علوم العقل و«الإنسانيات». والغاية من ذلك ليست دراسية وبحثية، بل أخلاقية وعملية: يتعلق الأمر بتمكين الإنسان من بلوغ أعلى شكل من أشكال الإنسانية بفضل قدرته على التعلم ولُدُونته.
هذا هو جوهر مفاهيم النزعة الإنسانية ونواته التي انطلاقا منها نشأت توجهات مختلفة.
عندما يتم التركيز على الاجتماع، والحياة الجماعية في مجتمع جيد، فالقيم التي تسود هي تلك الاعتدال والعدل والإحسان. أما عندما تضاف موضوعات الأخوة المسيحية والمساواة الاشتراكية فيتم الحصول على تنويعة النزعة الإنسانية المُتعاطفة التي تنتشر اليوم. آنذاك تنكب التربية على الحساسية بدل التركيز على المعرفة، وتستدعي الفنون أكثر مما تستدعي فقه اللغة. ويشكل جان جاك روسو علامة بارزة في هذه الطريق، ولكن علينا أن ندرك أن المطالبة بالمساواة ليست ميزة للنزعة الإنسانية وأنَّ العناصر المسحية، بالمثل، لا تتفق جيدا مع جوهر الموقف الإنساني لدرجة أن المسيحيين يرون أنَّ الإنسان لا كرامة له لم يمنحه الله إياها – وأحيانا لا كرامة له على الإطلاق.
عندما يتم التشديد على تواصل العقول المثقف نكون أمام نزعة إنسانية مُساواتية ونخبوية على نحو مفارق، إذ ما من إنسان إلا وهو مدعو إلى الإنسانية ولكن الذين يحققونَ هذه الإنسانية على نحو كامل هم الذين يدخلون دائرة الإنسان حقا. ويُلخِّصُ هذه الفكرة جيدا مذهبُ كانط حول الإنسانية باعتبارها غاية للإنسان الذي يسمو فوق طبيعته التجريبية. على الإنسان أن ينحت إنسانيته على نحو ما، ولكن هذا ليس هذا في متناول سائر الناس.
أيا كان التوجه، تظل النزعة الإنسانية ثقافة – ثقافة للحساسية والمعرفة وتبادل الرسائل (فقه اللغة)، والعروض (الفنون) والإنسانية. وتحتاج هذه الثقافة إلى النقل عبر مقابلات ومحادثات (الخُلُق وحسن التعامل). هذا هو ثمن تحقيق الفضيلة الإنسانية الكبرى.
على الرغم من الفروق الدقيقة التي سبقت الإشارة إليها، يظل هذا العرض مثاليا، ومن ثمة وجب تصحيحه لأسباب عدة:
الأولُ أنه لم يُشر إلى حقيقة أن النزعة الإنسانية كانت سمة محدَّدة لمناخ ثقافي محدود. فإنسانياتنا ونزعتنا الإنسانية هما إبداعات يونانية لاتينية، وأوروبية، ترتبط بحضارة الكتاب والكتابة، ومن ثمة لا عجب إطلاقا أن تواجه هذه النزعات تحديات لدى الانفتاح على ثقافات الأخرى في العالم.
الثاني أنَّ هذه النزعة تطابق بعض أشكال التنظيم الاجتماعي، وبالتالي أشكال من التسلسل الهرمي والهيمنة. دون الرجوع إلى ظاهرة الرق اليونانية أو اللاتينية باعتبارها شرطا للترفيه الإنساني، حيث تترك وقتا للتثقيف، النزعة الإنسانية هي مسألة رجال الدين، ورجال صادقين، ، ومُربِّين، ومعلمين وخطباء، وسائر الذين كان لهم دور مركزي في التنظيم السياسي في أوروبا، سواء باعتبارهم مستشارين ومعلمين للأمراء أو رجال سياسة أنفسهم. لنتذكر دور فلاسفة القرن الثامن عشر، ودور المحامين في ظل الثورة الفرنسية، وسياسيو الجمهورية الثالثة، وجمهورية الأساتذة.
أما السبب الثالث والأخير، فهو أنَّ النزعة الإنسانية تردَعُ جزءا هاما من الطبيعة البشرية. فهي بحكم تعريفها ووفقا لطبيعة مشروعها نفسه تقمعُ اللاإنسانية وكل ما هو حيواني وبالطبع ما هو وحشي في الإنسان، كما تصُدُّ اللاعقلانية والعاطفة وما هو ديني. بالنظر إلى هذه النواحي، هناك نوع من النقص، بالمعنى الاشتقاقي للكلمة، الذي يدافع من مواقع محسوبة ومعتدلة عن فكرة كائن بشري متوازن ومثقف.
هذه المقاربة الأولى لمفهومي الثقافة والنزعة الإنسانية توفر الخيط الناظم لتأملي.
من الواضح أنه عندما نتحدث عن الثقافة يجب أن نعرف عن أي جماعة نتكلم ما دام ليس هناك ثقافة واحدة بل ثقافات، بحيث يمكن لمجموعة صغيرة جدا أو معرضة لخطر الانقراض أن تريد الحفاظ على ثقافتها بأي ثمن. علاوة على ذلك، فالاعتقاد بأن إرادة الخصوصية أمر جيد هو واحد من قيم ثقافتنا العالمية الحالية، في حين كانت النزعة الكونية هي القيمة السائدة في القرن التاسع عشر.
هذا هو الجانب الأول من مشكلتنا مع النزعة الإنسانية باعتبارها ثقافة أوروبية عليا. فقد شكلت النزعة الإنسانية شكلا من الثقافة المهيمنة، ولكن هذه الهيمنة تتلقى اليوم ضربات من الأسفل ومن الخارج على السواء. يجب أخذ التعبيرين بحذر لأن «الأسفل» هنا ليس بالضرورة «تحت» بمعنى «أسفل» و«الخارج» ليس بالضرورة خارجا بمعنى «الأجنبي».
من الأسفل، يعود التشكيك في النزعة الإنسانية إلى كون جماعات متعددة تُطالبُ بتأكيد ثقافتها ونيل احترام مماثل للذي تحظى به النزعة الإنسانية. ويعتبر سوء الفهم في فيلم «بين الجدران» لوران كارنيت مثلا صارخا عن هذا الصراع بين الجماعات والتنافس بين الثقافات، على نحو ما سبق أن رأيناه بالفعل في تمارين زازي البلاغية للشاعر كينو. ينتابني في بعض الأحيان الانطباع بأن أنصار الإنسانيات يوجدون اليوم في وضع أقلي يدافع بطريقة اكتئابية أو استسلامية عن ثقافة عليا تعرضت للضعف والتشكيك.
أما من الخارج، فالتحدي ليس أقل عنفا بسبب ما يسمى ابتذالا بالعولمة، وبسبب ما قد يليق تسميته بالانفتاح على تعدد الثقافات. وموضوع هذه السلسلة من المحاضرات لن يعني أي شيء بالنسبة لشخص صيني فيما سيثير شيئا مختلفا تماما في آخر ياباني. دون الوقوع في عقدة الذنب، يجب على المرء أن يتوفر على صدق بول فاين وأمانته ليؤكد معه بأن الإنسانيات اللاتينية التي كانت نموذجا لإنسانياتنا ونزعتنا الإنسانية كانت أيضا جزءا لا يتجزأ من النزعة الاستعمارية الرومانية وانتشار القيم الثقافة الرومانية، بما في ذلك قيم الأسلاف maiorum.
هذه التحديات الأولى التي تواجهها النزعة الإنسانية، وهي تحديات يمكن وصفها بالتجريبية والـواقعية: فالعالم يتغير، والآفاق تتسع، والفئات الاجتماعية المختلفة والمجرَّدة الآن من كل تبجيل تطالب الآن بالحق في الكلام الثقافي دون التساؤل عما إذا كان شعر السّْلام أو الرَّاب ليسا في مستوى شعر القصائد الميتافيزيقية الأنجليزية.
3) إعادة النظر في مبادئ النزعة الإنسانية
هناك تطورات أخرى أكثر عمقا وأكثر هيكلية تشكك هذه المرة في مبادئ النزعة الإنسانية. سأبدأ بما يتعلق بالثقافة باعتبارها علاقة مع الطبيعة.
يبدو لي أن ثقافتنا الغربية (وهي ليست وحيدة في هذا الباب) تقوم بشكل متزايد على وساطات مع البيئة متناقضة بقوة مع النزعة الإنسانية ووساطات للعلوم والتكنولوجيا ووساطات الاتصال. والوساطات العلمية والتقنية لا تقتضي التفصيل، فهي ظاهرة ومنتشرة في كل مكان. نحن نعيش في عالم منظم، يشكله وينظمه العلم والتقنية في ارتباط بفكرة التحكم الكامل وشبه الكامل في ما يحدث. وواضح أن هذا لا يعني أن السيطرة تكون كاملة عندما نفكر في المشاكل البيئية والاقتصادية أو مشاكل العنف الدولي، ولكن مشروعنا الثابت هو تحقيق تحكم من هذا القبيل. لقد تحدث هايدغر عن طريقتنا في السيطرة على العالم بالتقنية ولكنه ليس الوحيد في هذا الباب والجميع لم ير الأشياء بطريقة كارثية. فالعلم والتكنولوجيا يُحررانا أيضا من أشياء كثيرة كانت تُعاشُ في الماضي باعتبارها قدرا لا مفر منه (وفيات الرضع، على سبيل المثال). نحن نمتلك وسائل تقنية مُعتَبرة. ويصدق هذا بشكل خاص على علاقتنا بالجسد أو الحياة، إذ نعتقد بوجوب شفاء التئام الأمراض، وإصلاَح الأجساد، ومنع العجز، وإبطاء الشيخوخة، ولماذا لا أن تتوقف هذه الشيخوخة. عندما يفشل الطبي بالجراح في العملية نحن نتابعه كما لو كان من واجبه أن يُحرز على نتيجة جيدة.
ومع ذلك، ولظروف تاريخية مفهومة، لم تعط النزعة الإنسانية أبدا أهمية للوسط التقني ولا للعلم، ولكن فقط للآداب، وصيغ التواصل اللغوية والفنية وتكوين النفس الذي لم يكن وسيلة في حد ذاته. كانت مسألة العلاقة بين النزعة الإنسانية والنزعة الإنسانية والمقاولة، والنزعة الإنسانية والهندسة، أحد مصادر إنتاج «النزعة الإنسانية» النظرية غير المجدية منذ أواخر القرن التاسع عشر. في الواقع لم يتم إدخال حقل المعرفة العلمية والتقنية بالمعنى الواسع، رغم بعض المحاولات مثل محاولات موسوعيي القرن الثامن عشر أو النزعة الوضعية لأوغيست كونت – ولكنها كانت تصنيعية النزعة وليست إنسانية النزعة – أو المحاولات الحديثة لجلبير سيموندرون التي تتساءل عن نمط وجود الكائنات التقنية. هذه نقطة أولى لا يتم أخذها بعين الاعتبار.
نقطة ثانية لا تؤخذ بعين الاعتبار لها علاقة بوساطة أخرى من وساطاتنا مع العالم، وهي التواصل. فقد أصبحت ثقافتنا حديثا ثقافة للاتصالات الفورية والشاملة لكل الاتجاهات، إذ جميع نقط العالم هي من حيث المبدأ متصلة بنا بما لم نعد نجرؤ على تسميته بالبريد، ولكن نسميه شركات الخدمات اللوجستية، والحاويات، والهاتف، والأنترنت، والطائرات، والمصارف، والدوائر المالية. ونحن واثقون من أننا نقع داخل شبكة ضخمة نمثل مجرد نقطة فيها. تصلنا أخبار كل شيء، ونتواصلُ باستمرار (ولو عندما نأخذ الهاتف المحمول لمجرد إشعار الغير بمكان وجودنا).
كل إنسان هو «قريب» لنا، ليس بالمعنى الكاثوليكي ولكن باعتباره جارا افتراضيا. والمسألة هنا ليست هي معرفة ما إذا كانت عولمة العالم هي من أجل الخير أم لا – فالعالم بالتأكيد أقل خيرا مما نعتقد – ولكن المهم هو أننا في ثقافتنا نعتقد ذلك ونتصرف كما لو كان صحيحا. ما من شيء إلا ويتنقل مبدئيا بشكل مستمر، ومتاحٌ على الفور – وفجأة أيضا لم نعد نحتاج لذاكرة ولا إلى نقل الخلف للسلف. ما فائدة المعلمين، والتعلمات، ولماذا جهود الذاكرة، ولماذا فن الحساب العقلي إذا كان كل شيء متاح بنقرة واحدة؟
تتناقضُ هذه البنية التواصلية مع النزعة الإنسانية، إذ بالنسبة لهذه الأخيرة كان التواصل (الذي لم يكن يحمل هذا الاسم، بل كان يسمى نقلا أو تقليدا) هرميا، إذ كان يمضي من الذين يعرفون إلى الذين لا يعرفون، من القدماء إلى المحدثين. كما كان بطيئا، حيثُ كان من الضروري تحقيق النصوص وتفسيرها، والعثور على المعنى بين التفسيرات. وكان ذلك كله مكلفا، إذ كان يتطلب الجهد والاهتمام وكان صعبا، كما كان يتطلب الذاكرة باعتبارها في آن واحد وسيلة (من أجل التذكر والحفظ) وإشادة (لأنه من الجدير بنا أن نتذكر). أتذكر أننا في المدرسة الثانوية في أعوام 1960، كنا نتعلم في كل أسبوع مائة بيت شعري لفيرجيل باعتبارها تمرينا للذاكرة، واحتراما للعصور القديمة وإثراء لثقافتنا. أما اليوم، فيكفي البحث من خلال محرك بحث غوغل عن أي شيء، عبر بضع نقرات على لوحة المفاتيح، وها نحنُ أمام كنوز لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات وتشمل بحوثا من إنجاز باحثين مثلنا…
4. قلق في الثقافة هل انهزمت النزعة الإنسانية؟
انتقلنا تدرجيا خلال هذا العرض إلى القيم الكامنة وراء هذه الوساطات، وهي قيم التقنية والاتصال التي تدخل في صراع ليس فقط مع قيم الثقافة المحلية (يطلق البعض على هذا الصراع اسم حرب الحضارات) ولكن مع قيم النزعة الإنسانية التي تساعدُ كل من التقنية والاتصال في الوقت نفسه على نشرها. في الواقع، بفضل التقنية والاتصال تنتشر قيم الديمقراطية والبيئة والقانون الدولي، ويتطور الوعي بالانتماء إلى كوكب واحد.
هذه المكونات غير المتجانسة تختلط جيدا بهذا القدر أو ذاك، فأحيانا هناك صراعات، وأحيانا تعايشات، وأحيانا تفاوتات أو عدم اتساق فقط، مما ينتج عنه أننا نشعر اليوم بأننا أمام عالم مُوحَّد الشكل ومتنوع في الوقت نفسه. ومن غير المعروف ما إذا كانت القيم توجد في حالة صراع حتمي لا يلتئم، وهل يمكنها أن تتعايش فيما بينها، هل يمكننا أن نجلعها جزءا من تسلسل هرمي يربط بعض الثقافات بأخرى أكثر أهمية. وبما أننا لا نودُّ الحسم في هذه المسألة، فإننا نتطلع أخيرا إلى نسخة إنسية لينة تتيح للعناصر الأكثر تعارضا أن تتعايض: الثقافة والأنترنت، التسامح وحقوق الإنسان، العلم والوعي، التقنية والحرية، وما إلى ذلك.
تولد هذه التفاوتات والتناقضات الشعور بقلق في الثقافة، وهو قلق قوي بحيث لا تفيد معه العلاجات التقليدية للنزعة الإنسانية إلا قليلا. تقليديا، لمواجهة تأزم الثقافة أو انحطاطها كان يتم الدعوة إلى التقليد، واستعادة القيم القديمة والمعتقدات القديمة، أساس الماضي وقاعدته. هذا ما أسميه بالجواب «الروماني» أو الجواب بالفضيلة، وهو جواب المدافعين اليوم عن الإنسانيات والمتمسكين بالتقاليد والذين يسعون جاهدين للحفاظ على الثقافة الإنسانية ونشرها.
أما الجواب الآخر، فهو المطالبة بمزيد من الأنوار والذكاء – وهذا ما أسميه بجواب القرن الثامن عشر أو الجواب بالأنوار والتنوير.
لا يخلو هذان الجوابان من قيمة، ولكن يجب تبيُّن حُدودهما، ذلك أنَ تطور العالم يمنعنا من العودة البسيطة إلى التقاليد: يجب الرجوع إلى الوراء، إن جاز التعبير، لكي نُعارض القوى التي تمنعنا من العودة إلى الوراء! هناك دائرة يستحيل كسرها: كان في استطاعتنا أن نعود إلى الوراء لكي نعارض مجرى الزمن!
أما فيما يخص الأنوار، على افتراض أنها كانت بلا نقائص فهي ليست قوية بما يكفي لمعارضة الانحرافات التي نريد الإفلات منها: ماذا يستطيعُ الفكر النقدي أمام الإشهار ورغبة التسلية والترفيه، واستهلاك الصور، ومسرحَة المعرفة نفسها، واستخدام النقد من أجل لخق الحدث وخلق الخصومات والمتاعب؟
من الواضح أن أساس الثقافة نفسه قد أصبح اليوم إشكاليا: فنحن نصادف صعوبات كبرى في نقل أي شيء، على الرغم من أنَّ هذا النقل هو القاعدة الذي تقوم عليها الثقافة، ومفارقة مجتمعاتنا هي أنها تقوم أكثر من أي وقت مضى على المعرفة، ولكنها تعاني على نحو متزايد من صعوبة نقل هذه المعرفة. صحيح أنَّ عدد الأطفال المتمدرسين يتزايد في سائر الأنحاء، ولكن الجميع يتشكى من كونهم لا يعرفون أي شيء، وفي ما يُسمَّى بجتمعات المعرفة وما يسمَّى بالراسمالية المعرفية يسود استنكار أزمة توظيف الباحثين الشباب والعلماء الشباب… كما يجري التردد بالخصوص في شأن محتويات المعرفة المُراد نقلها، وهو ما يطبع هذه البرامج بالفوضى التي نعرفها جيدا: العجر عن الربط، التكويم، الخ.
بمعنى من المعاني، لقد تموقعتْ جامعة كل المعارف وتتموقع في جانب التنوير. كانت الفكرة المركزية هي المساهمة، قدر الإمكان، وبالخصوص، في التنوير في مجال العلوم والتقنيات التي تلعب مثل هذا الدور في حياتنا. بدا من المرغوب فيه تقديم معلومات أفضل للناس ومدهم بإمكانيات التأمل في مواضيع هامة جدا في حياتنا. وعلى عكس ما توقع البعضُ، فقد كشف نجاح هذه الجامعة في ما يسمى بالجمهور رغبة قوية في المعرفة والتعرف عن كثب. وبذلك، يكون فضلها الأساسي هو أنها أعادت إدماج الثقافة العلمية والتقنية في الثقافة المعاصرة. وقد أظهرنا أيضا أن الهوة بين الجمهور والباحثين كانت أقل حدة مما كان يُعتقّد وأنها لم تكن مما لا يقبل الردم. قام مشروع جامعة كل المعارف أيضا على تصور للثقافة مفتوح أمام الرؤية النقدية. كان في عالم الثقافات – ولازال – من يرى أنَّ هذا لا معنى له أو أنه أمر خطير جدا ويجب منعه، ولكن سيكون من الوهم أيضا أن نعتقد أنه بمثل هذه المبادرات يمكن التغلب على قوى الغباء والحماقة. لا نحيِّدُ إلا جزئيا تأثير الإشهار، وتلفزيون الواقع، وتلفيزيون الـقمامة، والمعلومة المثيرة، ومنافسة الثقافات الخاصة. والمهمة، إضافة إلى ذلك، هي لا نهائية: ففي تدفق الاتصالات، تطردُ المعلومة معلومة أخرى…
كما لا يمكن إطلاقا التغلب بسهولة على الاختلافات الثقافية بين الجماعات. على الرغم من كل الجهود التي نبذلها فنحن نعظ الواثقين: نقدم أدوات للتفكير للذين يتساءلون بالفعل، وأدوات من الثقافة للذين يملكون منها ما يكفي بحيث يحتاجون إلى معرفة ما ينقصهم منها، ونقدم الفكر النقدي للذين هم بالفعل منفتحون عليه.
لا تدخل ملاحظتي هنا في باب التيئييس، بل هي تقييم لواقع الحال. لن نستطيع إلا جزئيا أن نعارض النزعة النسبية والفكر العقائدي، والظلامية و«العودات إلى …»، فهي مما يدخل في الخيال الحنيني. وباختصار، يبدو أنَّ الشعور بالقلق في الثقافة يسير جنبا إلى جنب مع هزيمة النزعة الإنسانية.
5. ما بعد الإنسان، ما بعد الإنسانية
ربما ينبغي مواجهة الأمور بطرح سؤال ما إذا كانت أزمنة النزعة الإنسانية قد انتهت.
لأجل ذلك، يكفي تفسير التحولات التي تؤثر على علاقتنا مع العالم، أي التحولات العلمية والتقنية والتواصلية التي ذكرتها، باعتبارها تُدخل ليس اضطرابا كميا في الثقافة، بل تغييرا كاملا لها ولفكرتنا عن الإنسان.
قلتُ إن النزعة الإنسانية لم تكن تهتم بالعلم ولا بالتقنية ولكنها كانت تهتم بالآداب. كما لم تكن تنشغل بالتواصل، بل بالتقليد. والسؤال الذي أطرحه هو معرفة ما إذا كنا لسنا أمام تشكُّل يُنذر بظهور إنسان جديد – هو ما بعد إنسان – قد لا يعود للنزعة الإنسانية قياسا إليه أي معنى . فالنزعة الإنسانية تمر عبر فعل في الذات – لكن مهمة التربية وإنتاج الذات. رأى البعض، مثل نيتشه أو سلوتردايك في الآونة، في النزعة الإنسانية ترويضا أو تربية، ما يطرح بطبيعة الحال مسألة أساتذة هذه التربية – وهم القدماء والحكماء والمعلمون والقساوسة، ولكن من المفترض أن يكون هؤلاء قد استخلصوا أفضل ما في التجربة الإنسانية، أي ما يجب أن يكون نموذجا وقاعدة، في إطار ما يحدده الآلهة والخير والله – في حدود تعالٍ لا يمكن تجاوزه. ماذا يحدث إذا انفتح أفق لتجاوز الآلهة أو فكرة الإنسان نفسه؟
لقد تكفل الناس على الدوام بتطوير أنفسهم من خلال التقنية، فابتكروا أدوات من أجل البدء، ثم أدوات تكنولوجية علمية لتنظيم العالم، وتقنيات الحكومة والعنف، والتحكم في السكان والتركيبة الديمغرافية، وتقنيات ناعمة للثقافة.
إلا أنَّ الوضع المعاصر يختلف بسمات جديدة كليا؛ فقدرة النوع البشري على التدخل في نفسه هي أقوى بما لا يقاس مما كانت عليه في الماضي، من جهة، سواء تعلق الأمر بالتدخل في الجسد والمرض والصحة والعُمر والمزاج والأفكار والمعتقدات والإنجاب والنَّوع، فما يمكننا القيام به اليوم يفوق كل ما تصورته الإنسانية في أحلامها الأكثر طوباوية.
جديدٌ أيضا ميلنا المُعلَن والبهيج للتدخل بطريقة أداتية وتقنية في أنفسنا.
لقد دخلنا فعلا زمن استغلال الذات وتجاوز الإنسان. وما بعد الإنسان هو أفق ليس للإنسان الاصطناعي فحسب، أي السايبورغ أو الكائن الحي السيبرنطيقي، ولكن لإنسان مرن إلى ما لا نهاية يستطيع أن يُدخل على نفسه تعديلات. ما يطلقُ عليه بعض المنظرين ما بعد الإنسانية هو تجاوز للنظرة الثابتة لإنسان يتعين عليه أن يُنجز إنسانيته «الإنسانية» لفائدة رؤية إنسان يخترعُ ما بعد إنسانيته. ومن الواضح أن الآفاق التي تفتحها التكنولوجيا البيولوجية وعلم الجينوم، ومجال الروبوتات بهدف تحقيق الانصهار إنسان-آلة – حاسوب وعلوم الأعصاب، تـؤثر على فكرة ما بعد الإنسان هته التي هي حركة مستمرة من التعالي تصير أمامها فكرةُ الله باعتباره حدَّا نفسُها باطلة. وكما يقول مارلين مانسون في أغنيته ما بعد الإنسان: «الله رقم لا يمكن الاعتماد عليه»، «الله مجرد إحصاء».
والعبارات العديدة التي يستخدمها نيتشه لوصف الإنسان الأعلى تجدُ تطبيقا سعيدا ومثيرا للقلق في آن: «الإنسانُ شيء يجب تجاوزه. فماذا فعلتم لتخطيه؟» (هكذا تكلم زرادشت، المقدمة). فكرة ما بعد الإنسان هي أفكار عديدة في آن واحد، كثيرا ما تكون غير واضحة، ولكنها كلها ذات طبيعة مضاد للإنسانية. هي فكرة أن الإنسان قد عفا عليه الزمن وصار من الماضي باعتباره كائنا حيا وبوصفه كائنا ذكيا على السواء، وهو مدعو لأن تحل محله آلات. في رؤية أكثر اعتدالا، مثل فكرة كاترين هايل (في كيف صرنا ما بعد إنسان)، هي فكرة الانفتاح على الصدفة والحرية، ومنظورُ للهويات المتنقلة والمتجددة، ورؤية لعبية متحررة من ثبات الذات المهيمنة.
ومشكلُ المذاهب ما بعد الإنسانية posthumanisme أو الإنسانية العابرة transhumainté التي تحاول الاستفادة من نتائج هذه الرؤى هو أنه يتم البحثُ فيها عبثا عن مبدأ منظم ذي مصداقية. فإما يُكتفى بالاحتفال بالاختراع والحرية والإسقاط على المستقبل عن طريق ترديد الموضوعات الطوباوية أو تيمات من الخيال العلمي مبتذلة جدا مصحوبة بتأكيد موت الله.
أو يُسعى إلى البحث عن التنظيم من جانب توازنات النظام مابعد – الإنسان – الآلة – البيئة، ولكن قول هذا أسهل بكثير من وصفه… أو يتم الرجوع إلى التأكيد النيتشوي القاسي والغنائي للحياة، وإرادة القوة والقوة والفرح، والذي له بالتأكيد معنى نقدي وسلبي قوي، ولكن ليس له معنى إيجابي جدي وإلا معنى الداروينية.
6. تجاوز الإنسانية: كاليبسو أو أوديسيوس؟
من المؤكد أننا وصلنا إلى لحظة صارت فكرة تجاوز الإنسانية فيها تكتسي معنى أوضح من نظيره الذي كانت تحلم به البشرية. هذه الفكرة خاصة تبدو في متناول الجميع، إذ نحن لا نريد أن نموت ولا أن نشيخ ونظن أن هتين الإمكانيتين باتتا قريبتين. وكما تلاحظُ مارتا نوسبوم في «حالة حب المعرفة Love’s Knowledge»، نحنُ نتأرجحً أكثر من أي وقت مضى بين مقترحات كاليبسو وحلول أوديسيوس. ففي نشيد الأوديسا الخامس تقترح كاليبسو على أوديسيوس أن يبقى معها بعيدا عن متناول الموت، «دائم الشباب وخالدا، لا يتعب، ولا يضع حدادا، في لذة هادئة لا تنقطع»، إلا أنه يختار العودة إلى حبيبيته بينيلوب الفانية وتحمل تجارب حياته.
في الواقع، كانت معضلة كاليبسو-أوديسيوس حاضرة بالفعل في التعارض بين الخير الأفلاطوني والسعادة الأرسطية. الخير الأفلاطوني متعال عن الإنسانية وفيه شيء من الإلهي في حين يرى أرسطو أنّ الخير الإنساني يخص الأنشطة البشرية وحدها.
لن أخوض في مناقشة نوسباوم الدقيقة حول مختلف تجاوزات الإنسان لنفسه، إلا أني أقول معها بأنَّ الاختيار لا يكونُ أبدا محسوما، وأنَّ هناك تخط أول للإنسان لطبيعته العادية وتفوقا ثان من خلاله يتوق إلى الكمال الإلهي – هذا الوجود الإلهي الذي ليس فيه موت ولا شيخوخة ولا حداد ولا تنكيد سعادة. واجهت جميع تحليلات السلوك الأخلاقي في وقت أو آخر، وعلى مر القرون، التباسات تجاوز الانسان لطبيعته ومسألة معنى وحدود النزعة الكمالية وحُدودها. وللحقيقة، لا أظن إمكان حل هذه المشكلة لأنها في الواقع مطروحة بشكل سيء.
فإما يبقى الإنسان بهذا القدر أو ذاك كما هو بتعاليه ومحدوديته ومحاولته لتتجاوز نفسه لا يمكن أن تكون شيئا آخر غير حلم أو استثناء إعجازي يصاحب بعض لحظات الحظ. أو يجد الإنسان نفسه فعلا، بما أن هذا ممكن، يمتلك قدرة التحول إلى ما بعد إنسان فلا تُطرحُ آنذاك مسألة التعالي شأنها شأن مسألة النزعة الإنسانية أو ما بعد الإنسانية، إذ نكون قد انتقلنا إلى صورة أخرى مغايرة تماما، تدخل في حقل البيولوجي أو الإحصائي الذي يدرس تفاعلات «الجزيئات الأولية»، ومجال المنظم العظيم الذي يحكم تفاعلات هذه الجسيمات، ولا تدخل في مجال الفيلسوف سواء أكان إنساني النزعة أم لا. وبذلك فالسؤال يُحلُّ باختفائه.
على هذا النحو أختم عرضي بطريقة غامضة عبر الربط مجددا بين الثقافة والنزعة الإنسانية. تشكل الثقافة، كما قلتُ، المكان الثاني الذي يضمن تماسك الجماعة ويضعنا في علاقة مع الطبيعة. والنزعة الإنسانية هي شكل أعلى من أشكال ثقافة خاصة بمجموعة من الناس كبيرة هامة تاريخيا، لا تزال هامة نسبيا، ولكنها فقدت تفوقها ليوم. وإذا اعتبرنا أن هذا الوسط الثاني لثقافة النزعة الإنسانية، على الرغم من كونه اصطناعي، هو طبيعي في العمق، بمعنى أنه من سمات الطبيعة البشرية التي تنتج بشكل طبيعي الثقافة من أجل البقاء، فإنَّ مجالا صغيرا للتفكير والنقد يبقى. وأخيرا يجب علينا أن نعترف بأن الحياة هي التي ترتكب أخطاءها وتجد أيضا حلولها، بما في ذلك قيادتنا صوب ما بعد الإنسان. إذا اعتبرنا أن هذا الوسط الثاني يتيح للإنسان أن يأخذ، إلى حد ما، مصيره بيده، ويسمح له بالابتكار والتحرر فإنه يبقى هناك مجال هامش للعمل والتأمل.
من جهتي، أتردد كثيرا بين الرؤيتين. فبالنظر إلى الجنس البشري بشكل عام، أميل إلى تصديق الرأي الأول القول، ولكن باعتباري فيلسوفا مرتبطا بثقافة الأنوار فإني أفضل الثاني، ومن ثمة فإني أجد نفسي في موقع مشابه لوضعية أوديسيوس، ولكن إذا كانت كالبسو بعد كل شيء هي التي انتصرت، فلن يكون الأمر كارثة، بل شيئا آخر – ربما أكثر وداعة وليونة ولكن ربما ممل أيضا. اقرؤوا في هذا الموضوع Houellebecq احتمالُ جزيرة وبالطبع كتاب هكسلي أحسن العوالم. فبعد مسافة سبعين عاما لم يفقد هذان راهنيتهما وبصيرتهما الثاقبة.
إيف ميشو
ترجمة: محمد أسليـم
المحاضرة الأصلية (ألقيت بجامعة كل المعارف يوم 15 اكتوبر 2008)
Yves Michaud, Humanités pour le post-humain?
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: السبت 19-01-2013 10:05 مساء