Notice: Function _load_textdomain_just_in_time was called incorrectly. Translation loading for the all-in-one-wp-security-and-firewall domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. Please see Debugging in WordPress for more information. (This message was added in version 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114

Notice: _load_textdomain_just_in_time تمّ استدعائه بشكل غير صحيح. Translation loading for the amnews domain was triggered too early. This is usually an indicator for some code in the plugin or theme running too early. Translations should be loaded at the init action or later. من فضلك اطلع على تنقيح الأخطاء في ووردبريس لمزيد من المعلومات. (هذه الرسالة تمّت إضافتها في النسخة 6.7.0.) in /home/aslim/public_html/wp-includes/functions.php on line 6114
أ. مولر فرويد أو الغرائز ضد العقل / ترجمة: محمد أسليـم – محمد أسليـم

أ. مولر فرويد أو الغرائز ضد العقل / ترجمة: محمد أسليـم

2029 مشاهدة
أ. مولر فرويد أو الغرائز ضد العقل / ترجمة: محمد أسليـم

(نشر في العرب والفكر العالمي، ع. 13 و14، ربيع 1991، صص. 102-131)

مع / فرويد / نغادر حقل الفلسفة التي تريد أن تكون فلسفة كما كان الحال مع / شوبنهاور/ و/نيتشه/. ففرويد طبيب مختص في طب الأمراض العقلية العقلية العصبي la neuropsychiatre, وكل نظرياته تستدعي تجربته العيادية في هذا المجال. لكن تجدر الملاحظة أنه لا يمكن الفصل نظريا بين المستويين (مستوى التأمل الفلسفي ومستوى العلوم الإنسانية بالمعنى الضيق).
لقد كان شوبنهاور, فيلسوف اللاشعور, مثلا يعلق أهمية كبيرة على اكتشاف Mesmer لل« مغنطيس الحيواني» في نهاية القرن XVIII, هذا ال «مغنطيس» الذي أنكره العلم الرسمي آنذاك بسبب عجزه عن فهم ما كانت تنطوي عليه علاجات ميسمر حتى وإن كان هذا الأخير يعزوه خطأ لتأثير «سيولة» إشكالية. قد يحدث أن يكون الفكر الفلسفي متقدما على العلوم الإنسانية أو متأخرا عنها لكن بينهما دائما تفاعل مستمر وليس انفصالا.
وفرويد نفسه كان يعاني من مشاعر متعارضة وجدانيا تجاه الفلسفة, أو على الأصح تجاه الفكرة التي يكونها عنها. فمع انجذابه الشديد للفلسفة خلال طفولته سيحدث له أن يخط بشيء من الانفعال المسافات التي يتخذها إزاءها. هكذا فقد كتب سنة 1926:
« إني أكره فبركة رؤى للعالم. لنترك هذا الأمر للفلاسفة الذين يصرحون علانية بأن رحلة الحياة تظل مستحيلة ما لم يوجد فيلسوف مثل Baedeker ليزودهم بأخبار عن جميع الأمور. لنقبل بخشوع نظرة الازدراء التي يلقي بها الفلاسفة إلينا من أعالي متطلباتهم السامية. لكن, ولأننا بدورنا لا نستطيع إنكار عزتنا النرجسية, فإننا سنلتمس عزائنا في فكرة أن كل «أساتذة الحياة» يهرمون بسرعة, وان عملنا الصغير ذا النظرة القصيرة والمحدودة هو بالضبط الذي سيرغمهم على إصدار طبعات مراجعة ومصححة لما يكتبون, وأن حتى عصرية من هذه البايدكيرات هي مجرد محاولات لتعويض التعليم الديني القديم, الذي يظل أكثر ملاءمة وأكثر شمولا. نعرف جيدا أن العلم قد أفلح إلى اليوم في تسليط قليل من الضوء على الغاز هذا العالم بينما لم يستطيع كل هذر الفلاسفة أن يغير أي شيء فيه. ويمكن لعمل يتابع بصبر ويطوع كل شيء لليقين, كضرورة وحيدة, أن يغير تدريجيا وضع الأشياء هذا. حينما يغني من يسير في الظلام قلقه, لكنه مع ذلك لا يرى بوضوح أكبر»[1]
لكن هذا لا يمنعه من الاعتراف بوجود «تطابق» بين نظرياته وبعض حدوس شوبنهاور ونيتشه. فقد أعلن في نص يعود إلى سنة 1914: Zur Geschichte der psychoanalys ishen [2]Bewegun, ما يلي:
« في ما يخص نظرية الكتب refoulement, من المؤكد أنني توصلت إليها بوسائلي الذاتية ولم يوح إلي بإمكانياتها أي تأثير, وقد ظللت لوقت طويل اعتبرها كنظرية أصيلة إلى أن أراني ذات يوم Otto Bank إحدى فقرات كتاب العالم كإدارة وتمثل يبحث فيها شوبنهاور عن إعطاء تفسير للجنون. إن ما يقوله الفيلسوف في هذه الفقرة عن النفور الذي نحس به لقبول هذا الجانب الشاق أو ذاك من الواقع يتفق تماما مع نظرية الكبت كما أتصورها, لكن لأقل مرة أخرى بأنني لا أدين في هذا الاكتشاف سوى لعدم كفاية مطالعتي. لقد قرأ آخرون مرارا وتكرارا هذه الفقرة ومع ذلك لم يتوصلوا إلى الاكتشاف المعني. ويحتمل أنه كان سيحصل لي الشيء نفسه لو كنت ميالا منذ طفولتي إلى المطالعات الفلسفية ولقد حرمت نفسي فيما بعد من لذة قراءة نيتشه وأنا على وعي تام بأسباب ذلك: أردت تجنيب نفسي كل تأثير خارجي أثناء تشييد الانطباعات التي كان يمدني بها التحليل النفسي. هكذا علي أن أكون مستعدا, وبكل طيبة خاطر, أن أتنازل عن كل مطالبة بالأولوية (لهذا الحقل المعرفي أو ذاك) في الحالات الكثيرة الوقوع حيث تثبت الأبحاث التحلينفسية الشاقة, الرؤى الحدسية لدى الفلاسفة. وبعد إدخاله في وصف الشخصية البشرية لمصطلحات ال« سلط أو المرتبيات Instances» (الهوça, الأنا moi, الأنا الأعلى sur moi), والعدوانية agressivité, وغريزتي Instincts الحياة والموت , سيؤكد سنة 1925 أنه لم يبدر ظهره للملاحظة الصبورة وأنه « لم ينسق كليا مع التأمل» (مما يتضمن اعترافا بأنه قد انساق بعض شيء), ثم يضيف:
« لا يسهل رد التطابقات الكثيرة بين التحليل النفسي وفلسفة شوبنهاور – الذي لم يدافع فقط عن فكرة أولوية الحياة الوجدانية والأهمية المطلقة للجنسانية بل حدس أيضا» إوالية الكبت- إلى معرفتي بمذهبه. فأنا لم أقرأ شوبنهاور إلا في مرحلة جد متأخرة من حياتي. أما نيتشه, ذلك الفيلسوف الآخر الذي كثيرا ما تلتقي حدوسه ووجهات نظره بطريقة تبعث على الدهشة الكبيرة مع النتائج التي لا يتوصل إليها التحليل النفسي إلا بمشقة كبرى, فقد تجنبت قراءته لهذا السبب بالضبط, كنت أحرص على الابتعاد عن كل حكم مسبق اكثر مما كنت أحرص على الأسبقية»[3]
وباختصار إن فرويد يريد أن نعرف أنه يظل – حتى حينما ابتعد عن الملاحظة بالمعنى الدقيق- بعيدا عن الفلسفة بمعناها الخالص, مؤكدا بنوع من التأنق أن « عجزا مهيئا» قد « سهل له كثيرا ذلك الابتعاد».[4] ولإبراز هذا التميز الذي يفصله عن الفلسفة, سيضع مصطلح علم ما وراء النفس métapsychologie, واقع السيرورة اللاشعورية للحياة النفسية, يمكن من كشف أولئك الذين يحددون, عبر الإسقاط, التشييدات الميتافيزيقية.
من المعلوم أن فرويد نفسه لم يكف عن الاغتناء والتعقد تحت ضغط مزدوج: ضغط بحث في صيرورة دائمة وضغط الانتقادات التي كانت توجه إليه أو يوجهها هو لذاته. بعد الذي ذكرنا به عن شوبنهاور ونيتشه قد يصعب القول إن فرويد هو مكتشف اللاشعور. لقد برهن, على الأصح, علميا عن أهميته ودوره في السلوك الإنساني انطلاقا من تجربته العيادية, وكان لابتكاره التحليل النفسي (وقد أبدع المصطلح والشيء في آن واحد) آثار واسعة في مجموع الحياة الثقافية, وإذا كان التحليل النفسي قد غير التصورات السائدة في طب الأمراض العقلية والنفسية في تلك الحقبة فإنه قلب أيضا التصورات التي كانت مهيمنة في مجال التربية كما قلب بشكل عام الأفكار الرائجة عن الحياة الطفلية.
لقد كان فرويد نفسه على وعي تام بأهمية العلم الجديد الذي ابتكره, والذي تنخرط ولادته في سياق الانشغالات السايكولوجية التي ميزت نهاية القرن XIX والتي كانت تنصب على التجليات الماوراء طبيعية للنفس البشرية بدافع, على وجه الخصوص, من الموجة الروحية التي تدفقت في الغرب خلال تلك المرحلة. لقد اعتبر فرويد اكتشاف دور اللاشعور بمثابة الحدث الرئيسي لتلك المرحلة, والذي يمكن مقارنته بما يمثله نظام كوبرنيك في مجال علم الفلك أو أعمال داروين في ميدان علوم الحياة. غير أنه إذا كان فرويد هو المكتشف الأكبر في هذا الحقل فإنه من باب الإنصاف ملاحظة انه لم يكن الوحيد والتذكير على الأقل باسم الباحث الفرنسي Pierre jannet ( كان مبرزا في الفلسفة, طبيبا وعالما في آن) الذي تعد أعماله غنية.بالدروس العيادية كما تطبع هي الأخرى تاريخا هاما في دراسة اللاشعور.
تختلف تصورات جانيت وفرويد (كان الرجلان متعاصرين لكن لم تكن بينهما سوى علاقات بعيدة ومتحفظة) في كون دراسات الأول تميل إلى الاهتمام باللاشعور انطلاقا من فكرة عن الشخصية السوية المتسمة بتوتر عقلي كاف (وظيفة الواقع), توتر تترتب عنه تفككات في الأفكار والوجدانات المقلقة والمشوشة. وباختصار, فيما يهيمن على تصور جانيت معيار سايكولوجي يدخل تصور فرويد فكرة دينامية حقيقية للاشعور كمقر للقوى المتصارعة. ومن الآن فصاعدا سيدخل المصطلح الذي ابتكره, التحليل النفسي, في المعجم المتداول, وبما أنه قد أسيء استعماله, فقد كان من المناسب التدقيق أنه يعني به, تحديدا, منهجا للاستكشاف النفسي لأغراض علاجية, أو سبرا نفسيا لا يهدف إلى نتيجة عيادية: كأن يطلب قاض, مثلا, من محلل نفساني أن يبين للمحكمة البواعث العميقة التي قادت منحرفا أو مجرما ما إلى ارتكاب هذا الفعل أو ذاك من الأفعال المناهضة للمجتمع. ومن المناسب إطلاق تسمية النظريات التحليل – نفسية على الفرضيات التي, انطلاقا من عناصر يتم العثور عليها بواسطة المنهج, تجتهد في عرض وتحليل هذه الظاهرة أو تلك داخل أحد مجالات المعرفة.
ولد فرويد في 6 ماي 1856 بفرايبورغ (مدينة صغيرة في مورافيا, ملحقة اليوم بتشيكوسلوفاكيا). كان عمره ثلاث سنوات ونصف لما استقر أبوه, تاجر صغير يهودي, في فيينا مدينة التعصبات. وهو نفسه, بعد«بطلان القداسة» فيه منذ وقت جد مبكر, سيرفض مطلقا أن يكون يهوديا مخجلا. لقد أراد انتماء سيكلفه معاناة كثيرة: في الجامعة أولا حيث سيكتشف قوة التعصبات المناهضة للسامية, ثم بشكل أكثر خطورة بعد قدوم سنة 1885 أي سن التاسعة والعشرين, يحصل على لقب أستاذ خاص في علم الأمراض العصبية ويتمكن من السفر إلى باريس بفضل منحة دراسي, وهناك يلتحق في السالبتريير Salpêtrière بمن كان يسمى آنئذ ب « شاركو الكبير». هذا الأخير (عمره آنذاك ستون عاما) كان قد أحرز شهرة عالمية بفضل دراسته في الأمراض العصبية, وخاصة في الهستيريا بطريقة التنويم والإحياء. ومن المعلوم أن الهستريا حالة عصبية وعقلية خاصة تعمل بعض الأفراد السهلي التأثر والانفعال إلى عرض كل أنواع الاضطرابات والأعراض المرتبطة عادة بأمراض مصنفة. ومما لا شك فيه أن هذا المرض قد لعب دورا كبيرا في محاكمات السحرة حتى نهاية القرن XVIII وأن جمهورا واسعا ممن تعرضوا لهذه المحاكمات قد هلكوا في المحرقة ك «مملوكي الشيطان».
بالنسبة لشاركو, الذي أقر دراسة الهستيريا في الحقل الطبي, كانت هذه الأخيرة هي الشرط الضروري للحالة التنويمية, وكانت هذه الحالة هي شرط الإيحاء .Suggestion وقد كان لتجاربه في السالبتريير « التنويم المغنطيسي الكبيرLe grand hypnotisme «, كما يسمى آنذاك, بمراحله المتعاقبة الثلاث, مرحلة السبات Léthargie و التخشب Catalepsie ثم السرنمة* Somnambulisme, كان لها صدى واسع في الأوساط العلمية, لكن يبدو أن أهمية تلك التجارب كانت تجريبية أكثر مما كانت علاجية لأن الذوات الخاضعة للتجارب كانت تعد مصابة بشكل من انحلال الخلايا العصبية المتعذر العلاج.
على كل حال. عبر تطبيقات مدرسة شاركو تم إدراج التمظهرات الماوراء طبيعية للحياة النفسية في جدول الأعمال. لقد عرفت الهستيريا على الخصوص نوعا من الأوج في نهاية القرن XIX, ودراستها هي الأصل في الاكتشافات التحلينفسية. منذ ذلك الوقت قل الحديث عنها كثيرا, ومع تقدم طب الأمراض العقلية العصبية, الذي سيتوفر من الآن فصاعدا على علم لتصنيف الأمراض nosologie أكثرتشعبا تبنينا, تغيرت المشاكل التي كانت تطرحها الهستيريا. أما اليوم فهذا المصطلح يطلق في الأصح على باب أو زاوية تغطي أحداثا وظواهر متباينة يتمكن الفحص العيادي من عزوها إلى إصابات محاط بطبائعها الخاصة بشكل جيد.
ذا كان فرويد قد رغب كثيرا في السفر إلى فرنسا قصد الالتحاق بشاركو فذلك يعود أساسا لمعرفته السابقة بالعلاج عن طريق التنويم في فيينا نفسها. فقد سبق لطبيب محنك أن باشر هذا العلاج قبل سفر فرويد بخمس سنوات. إنه الدكتور جوزيف بروير Breuer الذي كان آنذاك صديقه وحاميه ماديا. لقد اهتم فرويد كثيرا بما تعلمه من برويرا فأخذ يحاول جمع معلومات دقيقة عن تلاحق أحداث – وخاصة نتيجة- هذا العلاج ال «تطهيري Cathartique» الذي سيصبح مشهورا في حوليات التحليل النفسي [5]. قبل سفره, كن يأمل في تعلم الكثير بالسالبريير عن هذه الطريقة العلاجية.
بعد قضاء خمسة أشهر في باريس, حيث سيتأثر كثيرا بشخصية شاركو وبدروسه, يعود إلى فيينا ويستقر فيها كطبيب للأمراض العصبية. وقد كان مرضاه أشخاصا تنقلوا من عيادة إلى أخرى, وغالبا ما تم اعتبارهم ك « مرضى وهميين». غير أنه يقتنع بأن معاناتهم حقيقة واقعية وأن ما ينقص هو وسائل التخفيف عنهم. يلجأ هو الآخر إلى الإيحاء التنويمي وإلى المعالجة الكهربائية (مجرد تنشيط محلي لمناطق جلدية وعضلية) التي كانت موضة, لكنه سيلاحظ أن هذه الطريقة عديمة الفائدة فضلا عن أن ليس كل مرضاه بقابلين للتنويم.
لم تجد انشغالات فرويد أي صدى في ڤينا حيث لم يفهم زملاؤه تحمسه لما سبق أن شاهده في باريس, فقد كانوا يرون فرويد بأن الهستيريا ليست حصرا على النساء مجرد هراء وهذر لأنهم كانوا يثيرون دائما اشتقاق المصطلح (رحم: Ustra :utérus). خلال ذلك يسمع فرويد أن المدرسة منافسة لمدرسة باريس قد ظهرت في نانسي, تحت تأثير لييبولت وبرنهايم, وأنها تستعمل الإيحاء كوسيلة علاجية دون إرفاقه بالضرورة بالتنويم, فلم يحتج إلى لأكثر من ذلك ليقرر السفر إلى فرنسا من جديد. في نانسي سيندهش كثيرا من التجارب المسماة تجارب « إيحاء ما بعد التنويم»[6]. وهنا تلقى, كما سيكتب فيما بعد, أشد الانطباعات المتعلقة بإمكانية وجود سيرورة نفسية قوية لكنها تظل خفية عن شعور الناس»[7]. ما يستفيده من تجارب برنهايم هو إمكانية تأثير ذكريات هاربة في السلوك وإمكانية إرجاع هذه الذكريات إلى الشعور (بقوة الإلحاح كان برنهايم يجعل أحيانا المريض يتذكر الأمر الذي أعطي له وهو نائم). يحدس فرويد إمكانية التولد التلقائي لظاهرة كهذه بواسطة نوع من تفكيك الشعور المضطرب من جراء دوافع لا شعورية, وإمكانية جعل هذا الأخير قادرا على التذكر. تؤكد له دراسته في الهستيريا صواب هذا الحدس. منذ أول أبحاثه العيادية يكتشف أن الهستيري «يعاني من كثرة التذكر» وأن هذه الذكريات لا ترتبط بالضرورة بأوضاع معاشة, كما اعتقد في البداية, وإنما تتعلق غالبا باستيهامات Fantasme نبذها الشعور. يكتشف أيضا أن هذه العناصر التي أبعدتها أوالية الكبت mécanisme de refoulement هي ذات طبيعة أساسا جنسية.
لقد سبقت ال: « دراسات في الهستيريا», التي نشرها سنة 1825 بالاشتراك مع بروير, قليلا أولى كتبه النظرية الكبرى وهينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيie Traumdeutung (تفسير الأحلام) الصادر سنة 1900, وZur Psychopathologie des Alltagsleben ( علم النفس المرضي في الحياة اليومية) المنشور عام 1901 .[8]هذان الكتابان يدشنان التحليل النفسي بمصطلحاته الأساسية, الحياة اللاشعورية, الكبت, المقاومة, الرقابة Censure, وفي نفس الوقت يبرزان الأهمية الرئيسية التي تكتسيها الأحلام لولوج هذه السيرورات, هذه الأهمية التي أكدها فرويد بعبارته الشهيرة: « تفسير الأحلام هو الطريق المسلكي الذي يؤدي إلى معرفة اللاشعور في الحياة النفسية».
إن النظريات الفرويدية في الحلم ك «فعل نفسي ذي أهمية كبرى ومشحون بالدلالة» نظريات متشبعة ولا يمكن عرضها باختصار[9]. لقد اقتنع فرويد بأن تفسير الأحلام هو أحسن مصدر للحصول على معلومات عن الحياة النفسية اللاشعورية كما اعتبر الأحلام, مثل الهواجس والأوهام النهارية, تحقيقا لرغبة لا شعورية, ولذلك أراد تقديم مفتاح لفهم رمزيتها. هذا المفتاح يقوم على التمييز بين المحتوى ال«ظاهر» والمحتوى «كامن» في الأحلام وعلى وصفا لميكانيزمات التي تتدخل فيها:التكثيف condensation (ارتباط رمز واحد بعدة أشياء), والتحويل déplacement (بذل ارتباط الوجدان بعنصر في الحلم, كما هو مفترض, فإنه ينتقل إلى عنصر آخر)… الخ. إن دور المحلل النفساني هو تقصي آثار رمزية الأحلام وتنكرها عن طريق التداعي الحر Association الذي سيصبح المنهج الأول في العلاج التحلينفسي بعد الإحاطة بطريقة التنويم.
في كتابة «علم النفس المرضي في الحياة اليومية», يدرس فرويد, بالأفعال المحبطة actes manqués (بالألمانية: Fehlleistungen). يريد أن يبرهن على أن هذه الأخيرة تخون أو تفضح«رغبة عكسية» وتحقيق رغبة لاشعورية. كما يظهر أن عددا من الظواهر التي يتم إرجاعها عادة إلى الصدقة هي في الواقع محددة بدوافع تنفلت من الشعور سواء تعلق المر فيها بالأفعال المحبطة, بمعناها المحصور, أي بإحباطات الفعل, أو بالنسيان, أو بزلات اللسان, أو باحتقار الغير, أو بمجرد الرعونة. فيما بعد سيبين أيضا أن ال«نكت mots d’esprit » بمثابة استثمارات لمنهج لا شعوري ممحص يمكن من انزلاق أفكار مخبأة, داخل محادثة ما, من خلال المقاومات المرتبطة بحسن الاستعمال والمتواضع عليه.[10]
إذا كانت اكتشافات فرويد الأولى حول دينامية اللاشعور تعود إلى السنوات التي يعتبرها سنوات زاهية « فإن كل شيء سيتغير مع بداية هذا القرن نظرا للأهمية التي ستحظى بها أبحاثه لدى العيادة الإقليمية لزوريخ, ال Borgholzli, التي كان يريدها طبيب الأمراض العصبية السويسري الشهير / أوجين بلولر /Eugène Bleuler (الذي يرجع له الفضل في وصف الشيزوفرينيا(Schizophrénie), وقد كان / كارل غوستاف يونغ / Carl-gustav Lung هو مساعده الرئيسي آنذاك. في البداية اعتقد فرويد أنه وجد في يونغ ولي عهده الذي كان يحلم به, ويشكل التعاون الذي قام بينهما فصلا هاما في تاريخ الحركة التحلينفسية. وبفضل مدرسة زوريخ أدمج علم طب الأمراض العقلية الرسمي, إذ صح القول, التحليل النفسي ضمن مباحثه. هكذا سيتم استدعاء فرويد ويونغ معا إلى الولايات المتحدة سنة 1909 بمناسبة الذكرى العشرينية جامعة ورسستر Worceste.
لكن الخلافات سرعان ما ستنفجر داخل أول جماعة تحلينفسية حيث سيتميز مؤتمرها الثاالثالث الذي انعقد في ويمار سنة 1911, وشاركت فيه لو صالومي Lou Salome, بحدوث القطيعة بين فرويد وأدلر. وفي سنة 1913 ستحصل القطيعة مع يونغ.[11]
سيتأثر فرويد كثيرا بهذه الأحداث لا سيما أن انفجار حرب 1914 سيفرق جماعة أتباعه المخلصين الذين كانوا إما إنجليز أو هنغارين, أو ألمان.
كانت السنتان الأخيرتان من الحرب قاسيتين في فيينا حيث استفحل البرد والجوع. لم يعد فرويد يستقبل مرضى تقريبا, ثم سقط ابنه أسيرا في إيطاليا. عزاؤه الوحيد هو حصول التحليل النفسي على منتسبين جدد في الخارج رغم الظروف القاسية, والوعد الذي حصل عليه من طرف أحد نصيري الآداب والعلماء ببوادبيست بتحقيق أحد أحلام حياته: تأسيس دار نشره الخاصة في فيينا. كما أمكن عقد مؤتمر تحلينفسي في بودابيست سنة 1918 بمشاركة وفود من حكومات ألمانيا والنمسا وهنغاريا حيث ستناقش فيه عصابات névroses de guerre بصفة خاصة. لكن هذه المرحلة ستشهد سقوط الإمبراطوريات المركزية وانهيار النمسا وهنغاريا. في سنوات البؤس والتضخم المالي, تلك, سيعيش فرويد في فقر شديد, وكان عمره قد تجاوز الستين.
ومع ذلك يقاوم عروض اللجوء التي كانت تأتيه من الخارج ويظل مرتبطا بفيينا وب «مدينته» ولما عصفت الثورة البولشفية بهنغاريا سنة 1919 غرف التحليل النفسي فترة تأييد قصيرة تحت حكم بيلاكون Bela Kum, من مارس إلى يوليو 1919, لكن الرجعية سرعان ما ستنتصر فبجد التحليل النفسي نفسه مشمولا بالحقد الذي يدمج اليهود في الثورة الروسية. وتتوالى الأيام فيموت نصير الآداب والعلماء ببودابيست, ثم تموت صوفيا, ابنة فرويد الصغرى, مخلفة وراءها ابنها هانس الذي ستستقبله العائلة بفيينا ويكن له فرويد حنانا عميقا. لكن سيموت هو الآخر في سن الرابعة. وعن هذا الموت سيقول فرويد: «لقد قتلت شيئا ما بداخلي». ومع ذلك سوف لن يفتر حماسه في البحث حيث سيوسع التحليل النفسي إلى جميع مجالات الحياة, وبنشر مؤلفات مرتبطة بتجاربه المعاشة خلال حرب 1914-191 وبعدها, ومرتبطة أيضا بتأمله في تجربته العيادية المتوقفة, والانشقاقات التي حدثت, والانتشار العالمي الذي عرفه التحليل النفسي ومن خلال المصائب سيعرف المجد. لما فاز الاشتراكيون الديمقراطيون بالأغلبية في فيينا جعلوا من فرويد مواطنا شريفا للمدينة, وكان عمره آنذاك 68 عاما. وفي سنة 1930 تمنحه مدينة فرانكفورت جائزة غوته, ويتسلمها بيدي ابنته Xkh Anna (لأنه عاجز عن التحرك) التي تقرأ نيابة عنه صفحات كتبها عن غوته. وفي الذكر الخامسة والسبعين لميلاده تصله برقيات وورود وهدايا من العالم أجمع كما يتلقى تهاني رجال أمثال رومان رولان وإنتشاين وتوماس مان. وفي دريسد Dresde ينعقد المؤتمر الرابع لطب الأمراض العقلية والنفسية برئاسة العالم الصنافي typologiste الشهير / كرتشمر / Kretschmer ويخصص أعماله لسيكولوجية الحلم.
لكن فرويد كان آنذاك مريضا طريح الفراش. وبعد شهر من إحرازه على جائزة غوته تموت أمه فيكتب إلى فيرنزي Ferenczi, تلميذه المفضل, « طالما كانت على قيد الحياة لم يكن لي الحق في أن أموت, أما الآن فلي الحق في ذلك». وكان عليه, مع ذلك, أن يعيش سنوات أخرى قاسية: سنوات صعود النازيين سنة 1932, وحريق الرايشتاغ, وانطلاق الاضطهادات والتعذيبات المناهضة للسامية. تحرق كتبه علانية وتقع الجمعية الألمانية لطب الأمراض العقلية والنفسية تحت رقابة النازيين. يقدم كرشتمر استقالته فيخلفه يونغ الذي تميز موقفه إلى الحدود 1939 أساسا بقصر النظر السياسي. أخيرا ينصاع فرويد إلى الحد الآخر فيستجيب لاستضافات أصدقاءه ويتمكن من مغادرة فيينا ليلتحق بلندن في4 يونيو 1938.
تكتسي السنوات السابقة لتفتح الحياة الشعورية التام, أي السنوات الأولى للوجود الإنساني, أهمية كبرى عند فرويد نظرا للأولوية التي يعطيها للنظام اللاشعوري في الحياة النفسية. لقد حصل سوء تفاهم لما أثيرت ضجة بسبب تأكيده لوجود «جنسية طفولية Sexualité Infantile.[12] فما يقصده بهذه التسمية هو ميولات إيروسية érotique بمعنى مختلف تماما عن المعنى لمصطلح جنسية, أي نشاط مرتبط بجهاز تناسلي مكتمل التكوين. وما يقصده بتعبيره «الطفل منحرف متعدد الأشكال pervers polymorphe ». الذي قوبل بإنكار مشين, هو أن الميولات الطفولية تتضمن بالقوة ما يمكن أن يصير انحرافا بالفعل عند الراشد حسب العرقلة التي تضعها بعض سيورات التثبيت fixation أو النكوص regression أمام الوصول إلى ما يسمى بالحياة الجنسية ال «سوية». هذا الانحراف لا يمكن تفسيره ما لم يؤخذ بعين الاعتبار كون الجنسانية لا تظهر عند الكائن البشري إلا في سن البلوغ. لقد أطلق فرويد اسم مناطق الإثارة الجنسية Zone érogène على أماكن الجسم التي يظهر فيها «ليبيدو» بقوة خاصة. في المرحلة الفمية Stade oral تظهر هذه القوة في الحاجة إلى المص وفي اللذة الكبيرة التي تمنحها الرضاعة, وهي لذة تتجاوز مجرد إشباع حاجة التغذي ويشهد عليها التقبيل في سن البلوغ. وإذا كان الطفل يحمل جميع الأشياء إلى فمه, خلال هذه المرحلة, فيكون كما لو يرغب في احتواء العالم. بعد ظهور الأسنان يصبح الطفل لا يجد لذة في مضغ طعامه فحسب بل وفي لوك كل أصناف الأشياء. حينئذ غالبا ما يعطى له خاتم من عاج, ظاهريا لكي يشحذ أسنانه لكن في الحقيقة قصد تمكينه من علك شيء دون أن يجرح نفسه أو يخاطر بابتلاعه. وباختصار ترى المدرسة الفرويدية أن الأسنان سلاح هجومي يتميز الحصول عليه عند الطفل بكون هذا الأخير يصبح قادرا على الكراهية.
في المرحلة الشرجية Stade anal, التي تتميز بالأهمية التي تأخذها عملية تصفية منتوجات النفايات, يصبح تنظيم هذه السيرورة مشكلا كبيرا بالنسبة للطفل الذي يبقى إلى ماقبل نهاية السنة الأولى عاجزا عمليا عن تعلم التحكم في صاراته Sphincters, وحتى عروق نخاعه الشوكي لا تكون قد تنخعت كليا بعد. يستمر الطفل إذن في إفراغ معيه ومثانته تلقائيا بمجرد ما يحس بالحاجة إلى ذلك. لكن محيطه سيرغمه على الامتثال لبعض التنظيمات الزمنية والمكانية. حينئذ يصبح الشرج هو منطقة الإثارة الجنسية, يتلقى الطفل مديحا إذا تبرز بانتظام وتوبيخا في الحالة المعاكسة, ولذة التغوط تتحالف مع لذة الاحتباس. في المرحلة الشرجية تظهر الكراهية, التي برزت في مرحلة العض, بصفة كلية إذ أن اندماج introjection الطفل في رد فعل محيطه (خاصة الأم) يفضي به إلى النبذ والتقزز (من غائطه). قبل هذا الاندماج يكون براز الطفل محبوبا عنده. فهو يلعب به ويهديه عن الطيب خاطر. إذا كان الطفل محبوبا من محيطه فإنه سيقبل الرقابة ويمتثل لها, أما إذا تعرض لكثير من الخشونة والقساوة فإنه سيبدي رد فعل متستر وذلك إما بالتدنيس والتوسيخ للانتقام أو بالاحتباس مخاطرا بالإصابة بقبض مزمن. وفي بعض الحالات سيربط هذه الوظيفة الطبيعية بإحساس دائم بالخجل.
تلي بعد ذلك المرحلة القضيبية Stade phallique, بين ثلاث وست سنوات تقريبا. الآن وقد تعلم الطفل التحكم في صاراته إلى حد ما, فإنه يشرع في الاهتمام بأعضائه التناسلية واكتشاف جسمه الذي يعتبره الواقع الأكثر قربا إليه. ويحتمل أن الاستنماء هي الطريقة العادية لاكتشاف الجنسانية, والجديد فيها, فقط, هو الكيفية التي سيتلقى بها محيط الطفل هذا الاكتشاف والتي يمكنها أن تولد لديه القلق والشعور بالذنب. ومن الطبيعي جدا أن ينصرف اهتمام الطفل في هذه المرحلة للاختلافات التشريحية بين الجنسين.
إن وصف فرويد لجميع هذه السيرورات التي يعرفها التطور السابق لظهور الجنسانية, بالمعنى الدقيق للمصطلح, هو الذي جعل أفكاره تثير الكثير من الاحتجاجات. ويبقى أنه بتطرقه لمجال كان يعد محرما في السابق قد ألحق تعديلا عميقا بالمنظورات التربوية.
يجب الإشارة إلى أن أهمية «مراحل» الحياة الطفولية لا تنفصل عند فرويد عن أهمية ظاهرتي الإسقاط projection والاندماج introjection (فهو يعتبر الحب الغيري objectal أوالخدوم المنذور لخدمة الغيرoblatif, أي الحب الذي يمكن الفرد من حب كائن آخر لذاته, هو نهاية التطور الليبيدي السعيدة التي تعقب مرحلة ال «الضمور» السابقة للنضج).
يقصد بالإسقاط أوالية دفاعية يدرك الفرد عبرها خصائصه الذاتية في العالم الخارجي ثم يلصقها بالآخر, وهذا ما يتم في الهلوسات وأفكار الاضطهاد وسماع «أصوات», إلخ. فالكذاب الذي يتهم الجميع بالكذب إنما «يسقط»كذبه الخاص على الآخرين, والفتاة العانس المسكونة برغباتها اللاشعورية تسقط هذه الرغبات على الآخرين فتعتقد أنها مستهدفة من طرفهم لتلاعبات ودسائس ذات طبيعة جنسية. فالميولات اللاشعورية المسقطة ترتبط في أغلب الأحيان بالشعور بالذنب وتلتمس « كبش فداء».
أما الاندماج أو الاستبطان فهو, على العكس, اندماج خيالي لموضوع أو كائن في الحياة النفسية. ويرى فرويد أن الاندماج يلعب دورا كبيرا في تكوين الشخصية لأن الطفل ميال لامتلاك ما يعجبه والاقتداء بالشخصية المستبطنة. ويجدر بهذا الصدد أن نذكر ب «عقدة أديب» التي أثار وصفها من قبل فرويد انتقادات وتعليقات لا تحصى. وبدون مبالغة يمكن القول بأن دور هذه العقدة في مذهب فرويد نفسه شديد التعقيد بحيث لا يمكن فهمها في مظاهرها المتعددة إلا بإنجاز دراسة مطولة. وسنقتصر هنا على ما يلي:
حينما يتجاوز الطفل المرحلة الإيروسية الذاتية بمعناها المحصور, أي حينما يصبح قادرا على حب موضوع خارج عن ذاته, فإنه يثبت طبعا على أحد أفراد محيطه المباشر, على الأم غالبا. وبما أنه ينذر لأبيه حبا قصريا فإنه يكن تجاهه مشاعر متعارضة وجدانيا, أي ممتلئة بالغيرة والكراهية مما يولد لديه إحساسا لا شعوريا بالذنب. يجب تجاوز هذه الحالة, وهو ما يتم حينما «يندمج»الطفل في شخصية أبيه ويحبه. إن الطفل قبل تخطيه للمرحلة الأوديبية يكون نفسيا أنثى, ولذلك فإن تماهيه مع الأب (أي الوالد المماثل له في الجنس) يشكل مرحلة هامةفي تصفية السياق الأوديبي( الطفل يتطلع إلى أن يكبر ويصير رجلا قويا مثل أبيه والطفلة تتمنى أن تصير مثل أمها). وفي هذه المسألة أيضا يتغلب فرويد على معارضيه ذالك أنه من المعترف به اليوم أن التماهي مع الأم هو عموما أساس للجنسانية المثلية النفسية لدى الطفل الذي تربى في الوسط أنثوي حصريا.
لعل هذا التذكير بعناصر الحياة الطفولية يمكن من فهم سبب إيلاء فرويد أهمية كبرى للسنوات التي تتكون فيها الشخصية, ومن إيضاح تسميته للطفل ك «منحرف متعدد الأشكال». فالفرد يمكن أن يظل لصيقا بمرحلة كان عليه أن يتجاوزها(تثبيت fixation ) كما يمكنه أن يعود إليها (نكوص regression) إذا شعر بنفسه عاجزا بغموض عن إنجاز حياة جنسية راشدة. بعبارة أخرى يمكن غالبا أن يتوقف تطور الليبيدو أو يتراجع, بدلا من التقدم, بعد فشل يعيد تنشيط حالة طفولية. وفرويد لم يكن بعيدا عن التفكير في أن الأمراض ال «عقلية» إنما هي تعبير عن تثبيتات أو نكوصات في المراحل المختلفة.
لكن كيف تتمفصل كل عناصر الفرويدية هذه في دينامية الحياة النفسية؟ مما لاشك فيه أن يعتبر أن السيرورات اللاشعورية داخل الحياة النفسية ذات أهمية تفوق بكثير أهمية تفوق بكثير أهمية السيرورات الشعورية. فحسب دروسه التي ألقاها في فيينا بين1915و1917 13 كل السيرورات النفسية توجد أولا في حالة أو مرحلة لا شعورية ولا تنتقل إلى الحياة الشعورية إلا بعد اجتياز هذه المرحلة, وذلك يتم على الطريقة التي تبدأ بها الصورة الفوتوغرافية حيث تكون سالبة ولا تصبح نهائية إلا بعد الانتقال إلى المرحلة الموجبة. ويستفاد من هذا التشبيه أنه مثلما الفيلم الفوتوغرافي ينفعل دون أن يحمض بالضرورة, فإن جميع انطباعاتنا لا تصير هي الأخرى شعورية بالضرورة.
لقد كان فرويد يلجأ إلى صورة فضائية لتوضيح دينامية اللاشعور: فالميولات (دوافع غريزيةpulsion ) توجد في غرفة الانتظار, المخصصة للاشعور, وبذلك لا يراها الشعور لأنه يوجد في صالة مجاورة. إنها تكون لا شعورية في البداية, لكنها يمكن أن تتعرض لطرد, أي الكبت, من طرف حارس صالة الشعور بعد وصولها لعتبته. وقد يسمح الحارس لبعض الميولات بتخطي العتبة لكن هذا لا يعني أنها أصبحت شعورية بالضرورة. إنها تنتمي إلى ما أسماه فرويد – إلى جانب تخيله غرفتين قصد توضيح تصوره غرفة انتظار كبيرة وصالة – يظن وجود منطقة ثالثة لا نعرف الكثير عن موقعها, يسكنها الحارس الذي يسميه تارة بالرقابة وتارة بالمقاومة (لقد لاحظ هذه الرقابة في العلاج التحلينفسي وهي تميل إلى إخراج ما كان مكبوتا).
وإذا كان فرويد قد رأى في كتابه مقدمة في التحليل النفسي أن ال « مكبوت» دائما يندمج تقريبا في الدوافع الغريزية الإيروسية érotiques فإن نظريته ستتعقد في بحثيه الصادرين سنتي 1920 و 1923 (14) المشار إليهما أعلاه, ذلك أن الأنا نفسها لم تعد مطلقا – في هذين البحثين – مطابقة للشعور وإنما أصبح مجرد شعور جزئي. وبالرجوع إلى صورة الغرفة والصالة نجد أن هذا الأخير يسكن الشعور, ولكن فيم يتماهى الشعور؟ يبدو أنه يتماهى في الإدراك الشعوري. لكن من يقوم بهذا الإدراك؟ إن المصطلح ich الألماني غامض: هل يتعلق الأمر فيه بأنا بمعنى je أم بأنا بمعنى moi ؟ وهما أمران مختلفان تماما, إذ يمكن قول أنا أشعر بنفسيmoi je suis conscient deويظهر الاختلاف جليا في بحث فرويد الصادر سنة 1920 الذي يرى أن دور الأنا هو لا شعوريا في ظاهرة الرقابة والمقاومة التي لاحظها منذ البداية عند مرضاه. ويعود ذلك إلى كون فرويد اضطر إلى إدخال بعد جديد في تصوره للحياة النفسية نظرا لأن إوالية الكبت لم تمكنه من تفسير هذا الشكل من اللاشعور, أي المنخرط في الأنا.moi
لقد دفعت مجموعة من المعطيات إلى مباشرة مراجعة رؤاه الأولية, دون إنكارها, قصد تشييد نظرية تمكن من فهم الشخصية في كليتها. وأول هذه المعطيات تجربة عصابيي الحرب: فقد كان بعض الجنود الذين أصيبوا بصدمة trauma إثر معركة لقنبلة يبدون في أحلامهم ميلا إلى العودة من جديد للحالة المعاشة. وإذا كان الحلم هو إشباع متخيل ومقنع لرغبة فكيف يمكن تفسير هذه الأحلام التي لا تركز على الجنسانية وإنما على الغريزة البقاء؟ لقد التحق هذا السؤال في ذهن فرويد السؤال الذي كان يطرحه عليه بعض مرضاه وهم يمتنعون عن إعادة إنتاج سلوك غير متكيف كما لو كانوا يجعلون من أنفسهم صانعي مصائبهم الخاصة. ولفهم هذا الجانب من الأشياء وتوضيحه سيدخل فرويد ما يسميه ب «قسر التكرير Compulsiom de répétition». أخيرا لقد أثرت في تفكيره نتائج قوى الهدم التي تفككت خلال الحرب 1914.
لقد تحولت الفرويدية منذ هذه الحقبة من نظرية تعطي الدور الأساسي للجنسانية, على حساب أنا moi كانت تبدو سلبية بوضوح, إلى نظرية الشخصية في كليتها, نظرية تهدف إلى إدماج العدوانية وهذا الميل للتكرار الذي ترى(الفرويدية) فيه دافعا impulsion أوليا يعتبره فرويد شيطانيا (demonische).
إلى هذا الحد يعطي للسلوك الإنساني دورا مزدوجا بمقابلته بين «مبدأ اللذة» و«مبدأ الواقع» (الذي يقصد به أساسا ما تفرضه المجموعة الاجتماعية على الفرد). ويتميز تجاوزه لهذا التصور الأول بعنوان البحث الذي نشره سنة 1920: ما وراء مبدأ اللذة 15, وهو عنوان يذكر بعنوان كتاب نيتشه: ما وراء الخير والشر. ويدشن البحث تحولا هاما في الفريودية التي ستنتقل من لآن فصاعدا من سيكولوجية عيادية, بالمعنى المحدود للكلمة, إلى استدعاء فرضيات نظرية إطلاق عليها اسم علم ما وراء النفس. وهو مصطلح يعني أيضا أن هذه الفرضيات وإن كان يتم توسيعها عن طريق التأمل والاكتشافات التحلينفسية فإن معيار حقيقتها يبقى هو إثباتها من قبل التجربة العيادية.
بهذا الصدد يحسن الوقوف لحظة عند الشكل الذي تأخذه اللاعقلانية عند فرويد خاصة وأن الأمر يتعلق بمصطلح فلسفي, وفرويد لا يريد أن يكون فيلسوفا. مما لاجدال فيه أن فرويد لاعقلاني بالمعنى الميتافيزيقي للمصطلح لأنه ليس العقل والذكاء في نظره « قسما مرتبطا» بالعالم في واقعه الأشد عمقا. وبالتلازم يمكن أيضا اعتباره «عقلانيا» أن الأمر عنده (خلافا لشوبنهاور ونيتشه) لا يتعلق بتاتا بالحط من قيمة العلم الوضعي لصالح الفن أو الفلسفة. على العكس من ذلك إنه مقتنع بأنه لا يمكن تحقيق معرفة بالإنسان والأشياء إلا من خلال ملاحظات تجري بعناية وأبحاث دقيقة بعيدا عن أي وحي أو تخمين. إنه يرجع معيارا «وضعويا» و«علوميا» يمكن للفيلسوف أن يكتشف دائما بداخله أحكاما متعصبة.
على كل حال, وبمعزل عن هذه المشكلة المنهجية التي تسائل سؤال الإنسان عن الإنسان في مرتكزة نفسه وفي معناه, فإن فرويد في كامل الوعي بما يفعل حينما ينتقل من علم النفس المرضي إلى علم ما وراء النفس. لقد كتب, بهذا الصدد, في مؤلفه: حياتي والتحليل النفسي أن نظريته الجديدة في الغرائز « تتجاوز التحليل النفسي بكثير» وأن الأمر يتعلق فيها باقتراح إطار تفسيري قادر على فهم وتوضيح بعض المعطيات الجديدة في تجربيه وخاصة منها تلك التي يعزوها إلى «قسر التكرار». هكذا – لكي يفسر دفعة واحدة العدوانية وقوى التحطيم والآلية التي يمكن أن تستقر كنموذج مقولب في Stéréotype الحياة الوجدانية – يصل إلى التسليم بوجود « غرائز للموت», ويقصد بها وجود ميل في الحياة العضوية تهدف إلى الرجوع إلى حالة سابقة, العودة إلى اللاعضوية واللاحي الذي سبقها. ويمكن القول إن فرويد قد تعرض لتأثير فعلي من طرف شوبنهاور, في تلك اللحظة, ففكرة « عودة ذات النفس retour du même» التي اقترحها كعامل أساسي في التحول تلتقي تماما مع الأطروحة الشوبنهاورية حول نفي الصيرورة négation de devenir والتكرار العبثي للإرادة.
على كل حال سيري فرويد, من الآن فصاعدا, في ما يسميه بال Todestriebe (الدوافع الغريزية للموت) قوة تشتغل داخل الأحياء أنفسهم في اتجاه الموت, مصدرها الفعال هو التحطيم الموجه إلى الأنا. ويقابل غرائز الموت إيروس, أو قوة الحياة أو الحب, الذي يثيره فرويد في مناسبات متعددة من خلال الحديث عن إيروس الأفلاطوني بعبارة تفند بعض الانتقادات التي كانت تعاند في مؤاخذته على اختزال كل شيء إلى الجنسانية بالمعنى المبتذل للكلمة.
لمعرفة فرويد يجب إذن الإلحاح على الطبيعة العميقة التي تكتسيها كتاباته المعونة أبحاث, والتي ظهرت سنتي 1920 و1923(16) وأشرنا إليها أعلاه. بالإضافة إلى «غرائز الموت» و «قسر التكرار», لقد أدخلت الأبحاث سلطات الهو ça (ترجمة قابلة للنقاش لمصطلح es الألماني) والأنا والأنا الأعلى surmoi. إن الهو, باختصار, هو البدائي, أي كل ما يأتي به الفرد عند ولادته, تلك القوى المجهولة التي تحركه, ذلك الخزان الأول للطاقة الحيوية. أما الأنا فهي منطقة ضيقة من الوعي تخرج ببطء من الهو خلال الاتصال بالعالم الخارجي وتحت تأثيره (المحيط أو البيئة والتربية الأولى). وهناك نوعان من الأنا: أنا يتطور تحت ضغط ال« واقع», مهمته الحفاظ على الحياة, أي الدفاع عن الفرد ضد المخاطر الخارجية, وأنا (ذكرته أعلاه) لو يعد مطلقا كامل الوعي. ففيه ما ليس شعوريا لكنه يمكن مبدئيا أن يصير شعورا, على الأقل جزئيا في حالة الضرورة, بفضل الذاكرة (إنه ما اعتبره فرويد منذ البداية ما قبل – الشعور). لكن في الأنا أيضا تجارب ودوافع ورغبات مكبوتة يصادف وصولها إلى الشعور مشقة كبرى لأنها تصدم بمقاومة, برقابة. إلا أن فرويد, من جهة أخرى, يحاذر بعناية من تصور السلط المراتبية المتدخلة حديثا كسلط متجاورة وبينها انفصال تام لأنه يمكن لبعض الهو, التي يعد لها الأنا في علاقاته مع العالم الخارجي ويكبتها, أن تلتحق بالدوافع الغريزية البدائية المنبثقة منها.
الأنا إذن هو الذي يترأس وظائف المراقبة والتنظيم والتكيف مع الواقع, فبتحرره من الهو, يستعير الأنا بعض القيم والأعراف من الحياة الاجتماعية ومن ثقافة العصر(عن طريق التربية الأولى على الأخص) فتمتزج – هذه القيم والأعراف – في الحياة النفسية للطفل على شكل «صور أبوية» عبر الإندماج. ومن هذه الصور المدمجة ستكون منطقة شعورية أخرى هي الأنا الأعلى الذي يرى فرويد أنه يتشكل بعد السيرورة الأوديبية («الأنا الأعلى» هو وريث مركب أوديب), أي بعد حوالي خمس سنوات تقريبا. وإلى هذا الأنا الأعلى الذي يتكون بالاندماج وبممنوعات الوسط, يعزو فرويد, أيضا, سلطة الرقابة التي صادفها حتى في الأحلام المقنعة. وباعتباره يشبه شرطيا داخليا لا شعوريا فإنه يمكن أن يفسر الخشونة العديمة المعنى التي تسم سلوك بعض الأشخاص الكبار الذين يمكن لاستبداد داخلي أن يولد فيهم شعورا بالإثم هائجا في بعض الحالات المرضية. والجانب الإيجابي في الأنا هو أنه يساعد على «نزع فتيل» دوافع الهو الغريزية والمساعدة على التسامي (وهو تحول – ملاحظة أكثر منه مفسر – للميولات الغريزية إلى أنشطة مقبولة اجتماعيا أو ثقافيا).
لقد أدت هذه المنظورات الجديدة إلى تعديل العلاج التحلينفسي نفسه, الذي كان سينشغل بوسائل الدفاع التي يستعملها الأنا ضد الدوافع الغريزية أو ضد الأنا الأعلى الشديد الاستبداد أكثر من انشغاله بالليبيدو ومكبوتاته, فأتضح أن الأنا ونظامه الدفاعي كان يلعب دورا أساسيا في المقاومة. فهذه تجد نفسها منشطة حينما يتم الإحساس بهذا النظام وكأنه معرض لتهديد.
دفع هذا الجانب من الأشياء فرويد إلى بناء نظرية أكثر شمولا في القلق سنة 1926, وذلك بإطلاقه مصطلح مؤشر القلق Signal d’angoisse على جهاز دفاعي يتدخل كلما تعرضت أوالية المقاومة والرقابة للتهديد من طرف عناصر مكبوتة17. ال «المؤشر» هو مؤشر خطر داخلي بدون موضوع محدد عكس ما يتم حينما يتعلق الأمر بالخوف الناتج عن تهديد خارجي. هنا أيضا تلعب الأوضاع الطفولية دورا هاما في نظر فرويد بما أنه يرد قلق الكبار إلى تجلياته الأولى عند الطفل, أي إلى سن من الحياة تكون الأنا فيه لازال جد ضعيف.
ولكي لا نبقى محصورين عند صورة – قد تكون جد مختزلة – فرويد عالم ما وراء النفس يحسن التذكير بأنه قد وسع مذهبه إلى كل مجالات الحياة الثقافية وجميع المشاكل التاريخية والاجتماعية الكبرى التي عرفتها الانسانية. وفي الحقيقة, يرجع هذا التوسيع إلى عشية حرب 1914 بما أن أول كتاب لفرويد في السيكولوجيا الاجتماعية, وهو الطوطم والمحرم, قد ظهر سنة 1913(18).
يعترف فرويد في تقديمه لكتابه هذا بأن انتقاله إلى السيكولوجيا الجماعية قد تم في جزء منه بدافع من انشغالات يونغ. فبعد دراسته اللامنقطعة لأعمال إثنولوجيي عصره انتهى إلى الارتكاز على فرضية كان قد أوحى بها من قبل: كان إنسان الأزمنة البدائية يعيش في عشائر صغيرة يحكم كل واحدة منها ذكر قوي صارم. وقد أفادته هذه الفرضية كنقطة انطلاق للبرهنة على ما يتعلق بالطريقة التي لعب بها قدر البشر البدائيين (أي أسلافنا) فيما بعد.
قد يلعب تلخيص أطروحة الطوطم والمحرم بكيفية أحسن مما فعله فرويد نفسه في مؤلفه الأخير:
«لقد تبنيت وصف اتكسون Atkison لنهاية النظام الأبوي (البطريقي): تحالف الأبناء المتمردون ضد أبيهم ثم هزموه وافترسوه جماعيا. وبارتكازي على نظرية الطوطم عند روبرستن سميث Roberston Smith افترضت أن عشيرة الإخوة الطوطمية قد خلفت عشيرة الأب. فمن أجل الحياة في سلام, تخلى الأخوة المنتصرون عن النساء, وهم الذين قتلوا أباهم من أجلهن, وتسنوا قانون الزواج الخارجي exogamie وهكذا تم تكسير القوة الأبوية فتنظمت العائلات حسب قانون أمومي droit matriarcal. غير أن مجموع التطور اللاحق اتسم بإحساس الأبناء بتعارض وجداني إزاء أبيهم, فاختاروا أو أحلوا مكانه طوطما, وهو حيوان تم اعتباره كجد أو روح حام ومنع قتله أو إلحاق أي أذى به. إلا انه عند حلول كل سنة, كانت العشيرة تلتف كلها حول مأدبة قصد التهام الحيوان, الطوطم المبجل, جماعيا بعد تقطيعه إلى لأطراف. ولم يكن يسمح لأي فرد بعدم المشاركة في هذه الوليمة التي لم تكن إلا تكرارا احتفاليا لقتل الأب, هذا القتل الذي ميز بداية نظام اجتماعي جديد وقانون أخلاقي جديد وديانة جديدة. لقد اندهش عدد كبير من الباحثين قبلي للعلاقة الموجودة بين المأدبة الطوطمية التي وصفها روبرستن سميث وبين تناول القربان في المسيحية»19.
رغم أن فرويد «لا يتردد» بتأويله القانون الموسوي كثمرة لندامة الاسرائليين الذين لا يسبعد أنه يكونوا قد قتلوا موسى, «… لا يتردد أن البشر عرفوا دائما أنهم قد امتلكوا في يوم ما أيا بدائيا وقتلوه»20 فإننا لا ندري كيف يمكن القول بأن أطروحته حول«عودة المكبوت» قد انتصرت. فتحليلاته في هذا المجال تتقارب مع تحليلات نيتشه من حيث انشغالها بوضع جينيالوجيا للأفكار الأخلاقية والدينية لكنها تسير في وجهة أكثر طبيعية ووضعوية. وتصوره الذي يرى الطقس الديني كبقية Survivance من عقلية سحرية تقدم كل أعراض «العصاب الوسواسي الجماعي névrose obsessionnelle Collective» حرمه من مساندة عدد من أتباعه في ميدان المنهج – شريطة أنه يظل منهجا.
بعد تجربة الحرب, سينشر فرويد كتابين. الأول ظهر سنة 1927 ويحمل كعنوان Die
Zukunft einer Illusion 21, والثاني صدر سنة 1928 بعنوان Das Unbehagen in der Kultur22. وفيهما معا سيظهر من جديد دافع تأليفه للطوطموالمحرم: إنه التعارض بين الغرائز ومتطلبات الحضارة. فكلما تطورت هذه الأخيرة بالذنب ازداد الشعور عند الأفراد الذين يعانون من الخوف اللاشعوري من التعرض لعقاب الجماعة الاجتماعية, من نبذها لهم, مما يولد فبهم ميلا إلى العقاب الذاتي auto-punition. وتلعب اندماجية «الصور الأبوية» أيضا دورا أساسيا في هذا الخوف.
إن فرويد يرى أن الثقافة ضرورية ودورها إيجابي لأنها أخرجت الإنسان من حالة الطبيعة ومن ثم لا مجال عنده للمطالبة بالعودة إلى «حالة طبيعية», يزعم البعض أنها كانت حالة حرية أصلية لأن الأفراد في هذه الحالة المزعومة إنما كانوا تحت رحمة الشدة والحظ العاثر.
يرى فرويد أنه يجب قبول التخلي عن الحياة الغريزية لأن الحضارة تجد مبررها في الحاجة إلى المن, والأمن يفرض ذلك التخلي, ومن ثم فإن السؤال الذي يطرح هو معرفة ما إذا كان ذلك التخلي لا يتجاوز غايته ولا يسرف في معاكسة الحاجات الغريزية وتنغيص عيشها.
ففي ما يتعلق بالعدوانية يرى فرويد أن قمعها أمر أساسي, ذلك أنه قد لا يمكن لأي رابط اجتماعي أن يقوم على التساهل مع أفعال القتل والعنف. ولكن قمع عدوانية الإنسان هو شيء جد عسير. فالحضارة ليست سوى واجهة خارجية بالنسبة لعدد من الأفراد الذين لا يحترمونها إلا بكيفية جد بسيطة, بفعل الضغط, ولا يتخلون عما يمكنهم ارتكابه في مأمن عن كل عقاب كإلحاق الضرر بالغير عن طريق الكذب والخداع والنميمة والوشاية. ولهذا السبب توفر الجماعات نوعا من «صمام الأمن» لأعضائها بالسماح لهم – بل وحتى بحثهم على – استعمال العنف على شكل حرب ضد أفراد خارج الجماعة. لكن فرويد يرى أساسا في الحرب الطريق المفتوح أساسا للنوايا السيئة, للظلم وفساد الأخلاق, لقمع الأقليات العرقية والسياسية, ولتقتيل الأبرياء (وواضح أن تحليله السايكولوجي هذا يترك في الظل العوامل الاقتصادية والسياسية).
أما في ما يخص الجنسانية فهو يرى أن تعارضها مع الحضارة أمر يتعذر تقليصه, وهذا ما يشهد به في نظره القمع الذي تلقاه الغرائز الجنسية و- بصفة أكثر لا مباشرة – التعارض القائم بين المتطلبات الاجتماعية والدوافع الغريزية. وهو يرى أن قمع جنسية الطفل أمر ضروري ما دام يهدف إلى خلق عوائق ستقني وتجمع فيما بعد جنسانية مرحلة النضج, لكنه يعتبر أن هناك فرقا كبيرا بين هذا القمع وبين الكبت الخشن الذي تصادفه الجنسانية الطفولية زمن ظهورها لأن كبتا من هذا النوع يؤدي إلى تجاهل الميولات الإيروسية عند الطفل, والحال أنه يجب مد هذه الميولات بأهداف تعويضية من أجل حفظ توازنها.
وبصفة عامة, إذا كان فرويد يرى أنه من الضروري كبت الجنسانية فإنه ينكر في الوقت نفسه طريقة ممارستها, هذه الطريقة التي تفرض على الجميع حياة جنسية متماثلة, لأن الممنوعات المرتبطة بها تحرم من اللذة الإيروسية عددا من الناس الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى النضج الجنسي والذين, فضلا عن ذلك, يعاكسون الحب الوحيد الذي ظل حرا : حب اشتهاء المغاير hétéro-sexuel والحب التناسلي الذي يسقط هو نفسه تحت وطأة القيود والتحديدات التي يفرضها كل من الشرعية والزواج الأحادي23. إن المشكل الحقيقي الذي تعاني منه أي جماعة, في نظره, هو معرفة إلى أي حد يمكن منح الأفراد حرية قابلة للتوفيق مع المتطلبات الاجتماعية.
من المعلوم أن / هربرت ماركوز /قد تأمل بصفة خاصة هذا الجانب من الموضوع 24 ولكن من منظور جد مخالف, لأن ماركون فيلسوف يتغذى من فكر / هيغل/ و/ ماركس/ ولا ينغلق في الحدود الضيقة للوضعية الفرويدية. فنظريته الاجتماعية تستدعي الطبيعة الثورية للعقل بالمعنى الهيغلي, أي الدياليكتيكي والسلبي: عقل تحرره فكرته عن الكلية totalité من دائرة مقولات العقل التقني, أي المقولات التي يستعملها الواقع الاجتماعي لتفسير نفسه وتبرير وجوده. على العكس من فرويد, يتوفر ماركوز إذن على جهاز خاص لقراءة السيرورة التاريخية ليس من زاوية منجزاتها الفعلية فحسب, بل وأيضا من زاوية الميولات التي توجد فيها كبذور لتحقق جديد للقيم الإنسانية, ومن ثمة فأنه يتمكن من إخضاع الثقافة للنقد بالشكل الذي تأخذه في العالم المعاصر. أما فرويد فقد بقي محصورا في ثقافة عصره.
تلك هي القاعدة التي أسى عليها ماركوز مواجهته لعلم ما وراء النفس الفرويدي. وقد رأى غموضا في الاتجاه المزدوج الذي يرسمه فرويد للغرائز: فهي تميل على شكل إيروس نحو إشباع كامل والحال أنها ارتدادية وتتطلع إلى العدم على شكل «غرائز موت». وبهذا الصدد يلاحظ ماركوز أن فرويد يتأرجح بين قبول غريزتين بينهما تنافر جوهري, وبين قبول مبدأ واحد تارة يتماهى في الغرائز الحياة وتارة يتماهى في غرائز الموت, مبدأ واحد بالقياس إليه قد لا يكون الميلان معا سوى اتجاهين للحركة والفعل. ونظرا لكون ماركوز يرى أنه لا يمكن حل المسألة إلا بنقل رؤى فرويد البيولوجية إلى مستوى «ديالكتيك الحضارة» فإنه يستبدل مفهوم «مبدأ الواقع» المحدود تماما عند فرويد, آخذا بعين الاعتبار الشكل التاريخي لهذا الواقع, ويطابق مفهوم القمع الضروري للحضارة بمفهوم فرط القمع Sur – répression لصالح الهيمنة الاجتماعية.
في عالم يخضع لوطأة ندرة المنتوجات تم الاضطرار إلى طرد الحاجات الغريزية, نظرا لغياب وسائل إشباعها, فكان العمل ضرورة مؤلمة. لكن من أجل الرفع من الفنتاجية ارتبطت السيرورة التاريخية بخدمة مصالح الهيمنة أكثر مما ارتبطت بخدمة الجميع. ومهما تكن هذه الهيمنة قد أصبحت مجهولة فإنها تلجأ إلى قمع «إضافي», لتحجب عن الأفراد الحرية التي تسمح بها, من الآن فصاعدا, دولة التقنية والتألي automation ووفرة الموارد. في سياق النظام المحدد للوعي, لم يعد هذا الأخير على الإطلاق مصدرا مستقلا للتوجيه: لقد أضحى انسلابيا, وهو يجهد في الإبقاء على الناس داخل وضع يكرس فعليا تجميد حريتهم. إن ماركوز مقتنع بأن اعتبار الإمكانيات التاريخية يجب أن يؤدي إلى رفض الوضع المعطى ولذلك فهو يدعو إلى إحداث تغيير نوعي بهذا الوضع, ترث التقليد اليهودي المسيحي الذي هيمن على التاريخ إلى اليوم, لكنها تحدث معه قطيعة متروية. وهذا نوع من الرهان عند ماركوز الذي يجعل من نفسه, بعد هيغل وماركس, نبي ثورة ترتكز على العودة إلى الإمكانيات الفعلية للتاريخ. ففي تشخيصه لأمراض «مجتمع الاستهلاك» يميل مصطلح اللا معقولية irrationalité عنده إلى أخذ نفس مكانة مصطلح التناقض الاقتصادي عند ماركس, وفكرة الثورة فيه تتماهى إلى حد كبير في تعبئة سيكوسياسية كلية. نظرا للإنسلاب العام الذي يسود أشكال الوعي, يؤدي المطلب الماركوزي إلى صحو الفرد وتأكيده لحاجيات جديدة يعتبرها ماركوز بمثابة نفي حتمي لمن يشرطون النظام الراهن ومن يبقون على اشتغاله وعلى القيم المرتبطة به.
إن النقد الماركوزي ل «مجتمع الاستهلاك» نقد صالح, وهدفه التحرري هدف نبيل وكريم25, لكن ألا يمكن اعتباره نقدا طوباويا؟ فكل شيء عنده يتم كما لو أنه ضخم الميولات الطبيعية, التي يلقي بها تطور الحضارة «القمعية» في اللاشعور, بكيفية جعلت أنه يكفي تحرير تلك الميولات لكي يتحقق أخيرا العقل في التاريخ, وتتحقق دفعة واحدة سعادة الجميع داخل «تقرير مصير ذاتي» يطرح هو الآخر مشكلة.
وعلى كل حال, إن رؤى ماركوز بما تعطيه من معنى ل «عودة المكبوت» هي معاكسة تماما لرؤى فرويد التي مهمتها الأساسية إيجاد توازن مناسب, بين مطالب الفرد وما تفرضه ثقافات الجماعة, يكون قادرا على ضمان سعادة الناس 26. إن تحقيق توازن كهذا أمر جد مسبعد, منذ مآسي أو شفيتز* وهيروشيما, في عالم ممزق بالتنقاضات. لكن الحياة هنا والآن على الأقل هما أمران جبريان. فأي علاج يمكن لمذهب فرويد أن يقدمه الأفراد قصد التخفيف من وطأة قدرهم المقلق حتما؟ على كل فهذا التخفيف لن يتحقق بالمواساة التي تقدمها الأديان. ذلك أن فرويد, شأنه شأن نيتشه, لا يرى في هذه الأخيرة سوى هروبا من الواقع القاسي +إلى أسطورة أب سماوي مطلق الخير والقوة والعلم27. إنه يعزو الصور التي يولدها هذا الوهم إلى « آثار ذاكرية traces mnésiques» تثير فينا الشعور بالإثم إزاء وراثتنا الآثارية Réridité archaïque , وإلى المصورة الطفولية بصفة خاصة: الله ال – أب هو إسقاط لصورة الأب الذي يشعر الطفل الصغير إزاءه بالمحبة والرهبة. أما عن الحنين إلى سعادة ما وراء الموت ففرويد يرى أنه لا يعدو مجرد حلم تعويضي لمن يضطرون للتخلي عن إشباع تطلعاتهم في هذه الحياة. في هذه النقطة يقوم إذن بعض التشابه بين تصور فرويد للدين وتصور ماركس الذي رأى فيه «أفيونا للشعب». فالمظهر الأكثر إنسانية في الإنسان هو ما كان يثير, على الخصوص, كراهية فرويد:
«لم يتعلق الأمر في كتابي: مستقبل وهم بمصادر الشعور الديني السحيقة بقدر ما تعلق بالطريقة التي يفهم بها الرجل من الشعب ديانته, وبنظام النظريات والوعود التي, دفعة واحدة, تفسر له لغز هذا العالم وتطمئنه بوجود عناية خيرة رحيمة تسهر على حياته وتغفر له في الآخرة ما قد يقترفه من ذنوب في الحياة الدنيا»28.
وتقوم هذه الكراهية على فكرته التي ترى أن الوهم الذي تنشره الديانات يبقى الناس في منأى عن المشاكل تولدها الحياة داخل المجتمع, كما تقوم أيضا على تجربته كعيادي التي برهنت له على مدى الذي يمكن الاعترافات الدينية أن تنزل عبره بثقلها على الحياة النفسية.
إن الحل الإيجابي الحقيقي لمشكل الوجود الإنساني في نظر فرويد هو التسامي sublimation ويقصد به الإشباع الرمزي للميولات الغريزية عن طريق توجيهها نحو موضوعات مفضلة اجتماعيا. وإذا كان مصطلح التسامي ليس واضحا على إطلاق في مذهب فرويد فإن هذا المذهب نفسه يعترف بأن التسامي يبقى الحل الأكثر صعوبة. يبقى الحب أيضا حلا وإن كان ذا حد مزدوج: فهو مصدر ابتهاج كبير لكنه أيضا مصدر معاناة, من الغيرة, وصرا عات وخيبات. فمن يحب يعيش دائما في خوف من فقدان محبوبه. وتبقى أيضا لذات «التعويض أو الاستبدال»التيتجعل الحياة أكثر قابلية للتحمل كالكحول أو التبغ.
وإلى هذه العلاجات المتنوعة ينضاف علاج آخر أكثر عمقا وكأن فرويد نسيه سهوا. إنه مثال حياته الرائع: فمن خلال اجتيازه للصعوبات الجمة, وصموده أمام المحن العسيرة, وصل إلى أقصى درجات الحكمة الفلسفية وهو الذي لم يكن يريد أن يكون فيلسوفا.
لقد ذكرت عددا من الإمتحانات التي واجهته(ردة تلاميذه, حرب 1914, الحدادات* والتعذيبات) دون ذكر أي شيء عن مرضه الفظي. فابتدءا من السنوات الأخيرة من الحرب بدأ يعاني من مرض أصابه في حنكه فاضطر, في فبراير 1923, أن يخضع لأول عملية جراحية سيترتب عنه نزيف كبير. مرضه خطير جدا: سرطان في الفك. بعد ذلك بزمن قليل, وفيما كان تحت وطأة الغم الذي أصابه إثر موت حفيده هانس, أجريت له من جديد عمليتان جراحيتان متتاليتان. وكانتا مرعبتين حيث خلعت له الوترة بين العرتمتين الأنفية والفمية, فظل طوال أيام عاجزا عن الكلام والأكل. ومن الآن فصاعدا سيضطر لحمل رمامة لفصل الفم عن العرتمة, وهي الآلة التي أسماها «العفريت» لأنها كانت تحدث لديه التهابا كبيرا ولما نزعها وجد صعوبة كبيرة في التكيف من جديد. لقد سبب له ذلك معاناة من آلام مبرحة طوال ست عشرة سنة, فأقمتها عمليات جراحية أخرى أجريت له, حكم عليه طوالها بأن لا يأكل إلا وحيدا وأن لايتحدث مطلقا إلى الجمهور. وخشية أن تفقده المسكنات اتقاد فكره ووضوحه رفض تناولها وظل يفكر في كل مؤلفاته بما فيها الأخير. وقد وعدته ابنته أنا بعلاجه «بموضوعية» فوفرت عنه المتاعب وقرأت مداخلاته في المؤتمرات نيابة عنه.
ذكرت الظروف المأساوية التي اضطرته في الأخير إلى مغادرة فيينا في 4 يونيو 1939 ليلتحق بلندن. في السنة التالية سيموت منهوكا بآخر عملية جراحية أجريت له. وكان طبيبه قد وعده بتسهيل رحيله من هذا العالم ما أن يصبح ألمه غير قابل للتحمل.
ذلك كان هو المصير التراجيدي لسيغموند فرويد. قد مات منفي, في سن الثانية والثمانين, في الوقت الذي انفجرت فيه حرب جديدة أشد شراسة من حرب 1914 لما كشفت عنه من أهوال بأفران إحراق الجثث والقنبلات المرعبة. وربما كان من حسن حظ فرويد أنه لم يعرف, على الأقل, أن أختيه ستلقيا حتفهما في المعتقلات.
إن قدرا كهذا ليظهر إلى أي حد ارتبطت اكتشافات فرويد بتجارب معاشاة بمقدار ماهي نظرية, وإلى أي حد كان رجلا مثالي الجرأة, يحركه فضول معرفي لا يمل, وهم في الوضوح يقل نظيره.
——————-
هوامــش:
* فصل من كتاب للمؤلف:
F.L. Mueller : l’irrationalisme contemporain ed. Payot ; Paris 1970
[1] – Inhibition ; symptôme ; angoisse ; trad. Michel Trot, P.U.F.; 1965.
[2] – In jahrbuch der Psychanalyse ; Band VI. Fr. Sous le titre général de Cinq leçon sue la Psychanalyse (petit bibliothèque payot; No. 84)
[3] – Cf. Ma vie et la psychanalyse ; trad. Marie Bonaparte ( coll. Les Essais. Gallimard. 1949, p. 93).
[4] – المرجع نفسه.
* السرنمة: حالة سير المريض نائما.
[5] – حول هذا الموضوع بصفة خاصة, راجع : Freud ; Contribution à l’histoire du mouvement psychanalytique (in petit bibliothèque Payot, No. 84)
[6] – يقصد بهذا المصطلح تنفيذ المريض, بعد أن يستيقظ, لأمر تلقاه وهو في حالة تنويم, كان يقال له مثلا عندما تدق الساعة الثانية عشرة افتح الباب. إلا أن المريض ينفذ هذا الأمر وهو يؤكد لأن الحر مشتد, وبذلك بعزو سببا منطقيا لسبب يظل أصله لا شعوريا.
[7] Ma vie et la psychanalyse ; op. cit.
[8] La science des rêve ( Paris , Alcan , 1925). ( Nelle édit. L’interprétation des rêves, P.U.F.. 1968). La Psychopathologie de la vie quotidienne ( Payot, Paris, 1922).
[9] – راجع بالإضافة إلى أول مؤلفاته الضخمة المشار إليه أعلاه, (terprétation, Paris, Gallimard, 1901)Der Traum (Le rêve
[10] Der Witz und sein Beziehungen zum Un, 1905 (Le mot d’esprit et ses rapports avec l’inconscient). Paris, Gallimard, 1930, nelle éd. 1969)
[11] لمعرفة وجهة نظر فرويد, راجع:
Contribution à l’histoire du mouvement psychanalytique, op. cit. (P.B.P. no. 84).
[12] لقد أكد على ذلك منذ كتابه الصادر سنة 1905:
Drie Abhandlungen zur Sexualtheorie ( trad. Fr. Trois essais sur la théorie de la sexualité, Les Essais, N.R.F., Gallimard)

الاخبار العاجلة