هل يستطيع جهاز الحاسوب أن يُبدع قصيدة شعر؟ لقد طُرح السؤال في عام 1959 عندما نجحَ ماكس بنس وليو لوثز في «آلة حاسبة» (1) تصنع أولى «أبيات الشعر الحر الإلكترونية»، وكان ذلك في شتوتغارد بألمانيا. صار الأدب «تجريبيا»، إذ لأول مرة، بدا أنَّ الإبداع الأدبي يقبل الخضوعَ لتجارب منهجية، أي مبرمجة» ومُحَددة سلفا في إطار إجراءات معالجة للمعلومات تمَّ تحديدها هي الأخرى سلفا. وهذا الحدث هو ما أدى إلى إقامة «حلقة دراسية» قصيرة في عام 1960 بفرنسا، تحت عنوان «حلقة الأدب التجريبي». وقد صارت تلك الحلقة منذ ثان اجتماع لها، في يوم 22 دجنبر 1960، «محترفا للأدب الاحتمالي»، أي جماعة الأوليبو. في ذلك الإطار جرت بفرنسا أولى التأملات في أشكال الكتابة الجديدة أو أشكال «الكتابة-القراءة écrilecture»(2) التي أتاحت تخمينَها التطورات التي شهدَتها المعلوماتية، أو علم معالجة المعلومات. وتواصل هذا الاهتمام ابتداء من عام 1981، في إطار جمعية أخرى، هي جماعة ألامو(3) التي أسسها منشقون عن جماعة الأوليبو. وتجد تلك القطيعة تفسيرها في ظهور ابتكار تكنولوجي: ففي عام 1979، بدأت أجهزة الحاسوب تتوفر على شاشات، فصار بالإمكان استخدامها بكيفية تفاعلية، فانضافت الصورة إلى النص، فكان من الضروري تخصيص تأملات لتلك الإسهامات غير المسبوقة التي أتاحتها المعلوميات. وفي عام 1985، كرَّسَ معرضُ «المجرَّدات » المُقام في مركز جورج بومبيدو بباريس ظهورَ «التيليماتية» والحواسيب متعددة الوسائط، فانضاف الصوتُ إلى النص والصورة، ثم اللون والحركة. وفي عام 1989، تأسست في فيلنوف داسك بفرنسا مجلة alire، تحت رعاية جمعية أخرى تسمى لير(4) LAIRE، وهي أوَّل مجلة متخصصة في شعر الحاسوب. كانت تصدر في البداية في أقراص مرنة، ثم في أقراص مدمجة بعد ذلك. عام 1990 كان سنة الفوران، إذ فرَّخَت الأوليبو في الولايات المتحدة وإيطاليا وأنجلترا، وتأسست جمعيات منحدرة منها، تحت اسم les «X-pos»، متخصصة في المسرح، والرواية (البوليسية)، والسينما، بل وحتى في الرسوم المتحركة الاحتمالية أو فن الطبخ الاحتمالي. وتفاصيل ذلك كله موجودة في كتاب هاري ماتيو وألاستير بروتشي «خُلاصة الأوليبو». ومع التوسع الهائل لشبكة الأنترنت في عام 1995، أصبح الإبداع الشعري باستخدام الحاسوب ظاهرة جماهيرية فيما يبدو. قد يكون الواقع أكثر اختلافا، لكن ماذا عن بداية عام 2004؟ أي حصيلة يمكن استخلاصها بعد زهاء نصف قرن من التجريب والتأمل؟ إلى أي حدّ خرجَ تصور الإبداع الشعري باستخدام الحاسوب، عبر مراحل متعاقبة، من التقليد، والمحاكاة، والتحريك فالتفاعل؟
I – التقليد
في البداية، تمَّ تصوّر الإبداع بوصفه فعل تقليد، فنُظرَ إلى الحاسوب والمعلوميات باعتبارهما أداتين يمكن استخدامها لإعادة إنتاج أعمال أدبية، أو مؤلفين، أو نماذج من الكتابة. حول هذه النقطة، يكفي الرجوع إلى النصوص التأسيسية، لا سيما إلى بياني جماعة الأوليبو(5) اللذين حرَّرهما رئيسُها المؤسِّسُ فرانسوا لوليونيه، وما علينا إلا إعادة قراءة ما كتبه آنذاك، لنقف على أنّه ميَّز ضمن الأبحاث التي كان ينوي القيام بها، بين اتجاه أوَّل أسماه «التحليل» أو «تحليل النزعة التحليلية الأوليبية». وكان هذا التوجه يود التركيز على دراسة أعمال الماضي للبحث فيها عن احتمالات من شأنها أن تتجاوز تلك التي خمَّنَها المؤلفون. هذه الفكرة ظاهرة بوضوح في البيان الأول. أما البيان الثاني، فيمضي إلى حد الإعجاب بـ «الانتحال» وتقديم تعريف متناقض لمفهوم «الانتحال بـ «التخمين» أو بـ «الاستباق». قُلبَ المنظور، فصار كتاب الماضي هم الذين امتلكوا إحساسا مُسبقا بهذه التجارب «الأوليبية» العصرية، وهم الذين «حاكوها» أو انتحلوها مُسبقا. أعيدَ الاعتبار للمحاكاة «الكاملة»، ولكن الطرح ليس سوى جزء من نكتة. ففي مرحلة أولى، انكبت أعمال الأوليبو على إعادة قراءة وفك رموز أعمال من الماضي يُمكنُ إخضاعها لتحليل في متناول حواسبَ ذلك الوقت أن تفهمه، وهي مرحلة يُسميها المعلوماتيون بـ «التحليل»، أي إجراء تفكيك دقيق، خطوة بخطوة، لسيرورة مُعاجلةٍ – ما لازال يُسمى الآن «خوارزمية». وهي خطوة أولية وسابقة لكتابة أي برنامج، أو برمجية معلوماتية. إلا أنه، في عام 1959، كان كل شيء في حاجة للخلق والابتكار من أجل النجاح في إمداد الـ «حاسبة آلية» أو «الحاسوب» (الذي لا يكون أبدا سوى جهاز أوتوماتيكي)، وبطريقة ذكية، بشرحٍ لأفضل وسيلة إعادة إنتاج عمل ما، سواء أكان «نصا يمتنع كاتبه عن استعمال حروف معينة lipogramme»، أو «مجموعة مفردات أو جمل تقبل القراءة بمعنيين palindrome» » أو «جُملا أو أبياتا شعرية تبدأ كلها بحرف واحد»، أو سونيتة»، وما إلى ذلك. وإشارة فرانسوا ليونيه في البيان الأول إلى خصومة القدماء والمحدثين التي قسَّمت الأوساط الأدبية الباريسية في فرنسا بين 1674 و1716، كانت وسيلة لربط اهتمامات الأوليبو بقضية مركزية في الإبداع الفني، وطريقة في وضع تجريبات المحترف في خط امتداد للأعمال السابقة، وطريقة في تأسيسها على مفارقة ظاهرة تتمثل في فكرة أنَّ تقليد كاتب ما يمكن أن يقود إلى التعبير عن مثال جمالي مختلف. هذا التناقض والديالكتيك الخاص هو أساس الخصومة بين القدماء والمحدثون، وتلك المواجهة هي التي انبعثت بطريقة مبطَّنة جدا، في البداية، في دوائر الأدباء والباحثين، لما ظهرت الطاقات الإبداعية للحاسوب. ولذلك، بإعلان الأوليبو أنَّ كل إبداع هوَ أوَّلا تقليدٌ فإنها سعت إلى إضفاء شرعية أدبية وتاريخية على هذا العمل التحليلي، والمعلوماتي والتقني السابق لفعل الخلق نفسه.
بعد ذلك، وَسَّعَ النهجُ مشروعَ دراسة قيود التعبير الشكلية إلى تأمل في محتوى أعمال الماضي، بل وحتى في معناها. وهكذا تمَّ، شيئا فشيئا، إعادة اكتشاف الأعمال الشعرية النثرية لبودلير ورامبو ومالارميه وآخرين كثيرين، وكذلك أعمال شعراء مثل جان تارديو أو هنري دلوي. وما تمَّ تقليده في نهاية تلك العملية كما تمثله أولى إبداعات الأوليبو المعلوماتية الصادرة في عام 1975، مثل برنامجي Rimbaudelaire أو StéphanieMallarm، ما تمَّ تقليدهُ هو نماذج هجينة من الإبداع الشعري تمزجُ بين نماذج عدة لشعراء مختلفين. وبذلك، تمَّ اكتشافُ إمكاناتٌ غير مسبوقة، وأدى التقليد بالفعل إلى أول شكل من أشكال الإبداع داخل أسلوب أو أكثر من الأساليب الإبداعية السابقة.
II – المحاكـاة
كان الأمر لدى فرانسوا وليونيه أكثر من مجرد تقليد، إذ تعلق الأمر بـ «محاكاة» تستهدف شيئا مختلفا في الواقع. و«المحاكاة» مصطلح تقني آخر تمَّ استعارته من المعلوميات، وفيه انتقل التأمل والتحليل الأولي لينكبَّ على منبع السيرورة الإبداعية، ولم يعد الأمر يتعلق بإعادة بناء نتائج الفعل الإبداعي، بل بإعادة إنتاج مبادئه نفسها. وتتمثل العملية هنا في إمداد الحاسوب بأكبر قسط من «الإبداعية» و«الحرية». هنا أيضا، سبقت تخمينات الرواد الإنجازات التي يمكن التمييز فيها بين عدة مراحل أفضت كل واحدة منها إلى ولادة، مصطلحات نوعية على ما يبدو. ومع ذلك، فالمفهوم نفسه هو ما يُشارُ إليه عبر مفردات «إنتاج» و«توليد» وأخيرا «تركيب» النصوص أو «تجميعها».
فبين عامي 1960 و1980، كان يُطلق اصطلاح «إنتاج نص» شعري أو أدبي، في البداية، على فعل صناعة قصيدة (أو أي نوع آخر من الكتابة) بواسطة الحاسوب. وقد خمَّنَ ريمون كينو في ذلك عندما ديوانه مائة مليار قصيدة شعر (صدر عن دار النشر غاليمار، 1960) انطلاقا من سلسلة 10 سونيتات صممها بطريقة تقليدية كانت لازالت تقليدية جدا، وهي القلم واليد. ولكن، إصدارها على شكل كتابٍ طًبعت فيه كل سونيتة من السونيتات العشر في لوحة ورقية منفصلة، كانَ «مُحاكاة» فعلية لاشتغال الحاسوب. فبفتح الكتاب عشوائيا، كان يتم تصنيعُ، أو «إنتاج» سونيتة مُختلفة، ومن هنا عنوان «مائة مليار سونيتة» الذي يشير إلى العدد الإجمالي الذي يُمكن بُلوغه عبرَ التوليفات أو التبديلات، حسب تأكيد ريموند في مقدمته. ولم يصدر هذا العمل إلا في عام 1999 في قرص مدمج متعدد الوسائط يشتمل أيضا على نسخة مُحوسبة منه، بعنوان آلات كاتبة Machines à écrire (6)، عن دار غاليمار، وبفضل فرانسوا دُنيس.
وبطريقة أعمّ، يطلق اسم برنامج «لإنتاج النصوص» على برمجية معلوماتية تتيح للقارئ أن يختار تطبيقا من قائمة تُقتَرَحُ عليه، ومن ثمة فدرجة التفاعل المقتَرَحة تكون منخفضة جدا.
وابتداء من عام 1981، ومع تشكّل جمعية ألامُو، ظهر مصطلح آخر هو «التوليد». ويشار بـ «توليد النصوص»، في المعلوماتية أيضا، إلى سيرورة إنتاج نص جديد بواسطة برنامج يطلق عليه اسم «المولِّد»، قادر على صناعة نصوص جديدة تماما. وبذلك أصبح من الممكن «توليد» نصوص «على طريقة»(7) هذا الكاتب أو ذاك، من جول فيرن إلى إرنست هيمنغواي، مرورا بستيفان مالارميه أو جان تارديو(8). وقد حاولت سلسلة قصيرة اسمها «توليد»، صدرت عن منشورات إلياس بفرنسا بين عامي 1994 و1999، أنْ تُعرِّفَ بنماذج من نصوص مولَّدة كانت أحيانا رفيعة على الصعيدين الأدبي والتقني. ومع ذلك، لم نجد بشبكة الإنترنت في عام 2004 سوى مولدات متواضعة لإعلانات الحب أو للنُّكَت.
خلال ذلك، في عام 1977 صاغ رائد في البرتغال اسمه بيدرو باربوصا مصطلح «المركِّب «sintetizador (من «مُركِّبُ») ليطلقه على هذا الصنف الجديد من «القصائد التي تتولَّدُ من تلقاء نفسها بواسطة الحاسوب»(9). وهو نوعٌ سبق أن حدسه بول فاليري في عام 1920 في إحدى مقالات كتابه Variété، حيث تصوّرَ إمكان القيام في يوم من الأيام «بتركيب» نص على نحو ما كان يتم تجميع المواد الكيميائية أو العضوية في ذلك الوقت. تأقلم هذا المصطلح في اللغة البرتغالية دون أن يدخل اللغة الفرنسية. ولكن في عام 1997 استعمل الفكرة في باريس جان بيير بالب عندما أنشأ في مركز جورج بومبيدو بالإريكام IRCAM (10) أوبِّرَاه الرقمية الأولى تحت عنوان: ثلاثة أساطير وشاعر أعمى. وقد جمع هذا العمل الإبداعي الجديد كليا من حيث نوعه وطبيعته بين «مولِّدَيْ» أو «مُرَكبي » نصوص (من برمجة جان بيير بالب) و«مُولِّد» موسيقى (صمَّمه جاكوبو بابوني-شللينغ)، استخدمها ثلاثة «شعراء قرَّاء» هم جان بيير بالب وهنري دلوي وجاكوبو غيغلييلمي (ومن هنا العنوان: «ثلاث ميثولوجيات») توَلَّوا قراءة ما كانت تعرضه المولِّدَات على شاشات عملاقة موصولة بأجهزة كمبيوتر، واندرج ذلك كله تحت علامة هوميروس، وهو «الشاعر الأعمى». وقد أعيدَ المبدأ عام 2001، في البرتغال بمدينة بورتو، مع «أوبرا رقمية» أخرى بعنوان Alletsator، كتبت باللغة البرتغالية وأعدَّ كتيِّبَها بيدرو باربوصا بطريقة شبيهة. ويعد هذان الإبداعان المدهشان جدا تتويجا للأبحاث التي تمَّ إنجازها حول تركيب النصوص وإبداع أدب «رقمي جديد».
ثالثا – التحريك
حصلت قطيعة تكنولوجية في عام 1978 عندما ظهرت أولى الحواسيب الشخصية الصغيرة المجهزة بشاشات. فقد انضافت الصورة إلى النص، وصار أيضا بالإمكان معاملة النصوص باعتبارها صورا. أصبح بالإمكان الاشتغال في آن واحد على ما «يُرى» ويا «يُقرأ»، كما غدا بالإمكان التفكير في «تحريك» العمل الفني، بمعنى تمثيل أو عرض الحركة بواسطة أطلق عليه اسمُ «تركيب الصورة». ومع التقدم الحاصل في فن الغرافيك وتطبيقات المعلوماتية على الإبداع البصري والفني، انفتحت آفاق أخرى أمام الكتابة لتأخذ مظهرا حيا عن طريق التعديلات والتحركات والتحولات التي تطرأ على ما يُعرضُ على الشاشة. ولكن المصدر الأول للإلهام يظل تقليديا دائما. في البداية، كان الرواد، أمثال جان ماري دوتي وفرانسوا دُفُلاي وتيبور باب أو فيليب بوطز يعودون إلى نصوص مكتوبة باليد، وكان العمل المعلوماتي ينكب على العرض البصري لما هو مكتوب أو مقروء، أي على حركات الكلمات والجمل وتنقلاتها وتحركاتها وانحناءاتها ودورانها بل وحتى على تناسخها وتكاثرها.
تعود أولى العروض العمومية لهذه التجارب إلى 1984-1985، وبالخصوص إلى معرض «المجرَّدات» الذي تمَّ تنظيمه في مركز جورج بومبيدو بباريس سنة 1985. وأوَّلُ مجلة للشعر، أو بعبارة أدق، «للنصوص المتحركة من مصدر إلكتروني»(11)، وهي مجلة alire، أنشأتها جماعة LAIRE في عام 1989. ومع التطورات التقنية، تعلم الكتاب أن يلعبوا على تعديلات تلك الملفوظات، وعلى التنويعات، وعلى آثار الاستبدال، والبتر، والإضافة والظهور والاختفاء. التدريجيين. وقد تشكَّل حول مجلة alire نوع من جمالية «التحوّل» لم يكن ممكن التصور من قبل في الحوامل المطبوعة وحدها. وفي عام 1997 أصدرت alire أوَّلُ تجميع لما أنجزته في هذا المجال، في قرص مدمج متعدد الوسائط يضم العدد 10 من المجلة وكذلك الأعداد 13-14-15-16 من مجلة Dock(s)،وهي مجلة كانت تصدر ورقيا حتى ذلك الحين وأرادت أن تعرِّف بأهم الاكتشافات المُنجزة في هذا المجال في مختلف البلدان حتى ذلك الوقت. كما ضمَّ القرصُ خمسين عملا شعريا فريدا من فرنسا، وإيطاليا، وهولندة، والولايات المتحدة، والبرازيل، وإسبانيا، أنتجها مؤلفوها بشكل متواز دون أن يكون هناك أي اتصال فيما بينهم. وكانت نسخة القرص تعمل على جهازي الماكنتوش والـ IBM-PC.
ثم تواصل المشروع في فرنسا مع العدد 11 من مجلة alire، من جهة، وعبر الأعداد اللاحقة لمجلةDoc(k)s من جهة ثانية. كما تمَّ تقليده في بلجيكا من لدن مجلةDWB : Duetsche Warande & Belfort Elecktronische الصادرة باللغة الفلامانية وفي بودابست بهنغاريا من لدن مجلة ABCD Interaktiv magazin (12) الصادرة بالهنغارية. واستمرت العملية بعد ذلك في الأنترنت مع ظهور عدد متزايد من مواقع «الشعر المتحرك» في كل اللغات. من هذا المنظور، يكون ظهور هذه الأشكال الجديدة من الشعر الرقمي في أواخر القرن العشرين بلورة لتخمينات عدد من الرواد، من مالارميه إلى بيير غارنييه، مرورا بغيوم أبولينير والمستقبليين، وحتى الدادائيين والسرياليين.
رابعا – التفاعل
وفي الوقت نفسه، عرفت العلاقات مع النظم المعلوماتية تغييرات جذرية بسبب ابتكارات جديدة تمثلت في «الأيقونات»، و«النوافذ»، و«نوافذ الرسائل»، و«القوائم المنسدلة»، و«الواجهات الرسومية»، و«تطبيقات البحث في محتويات القرص والملفات» لأجهزة الماكنتوش و«ويندوز» الحواسيب المكتبية الشخصية، فأتاح التفاعلُ تصوّرَ حوارات أجهزة الكمبيوتر والمستخدمين على نحو آخر، وصار بإمكان الحوار أن يكون متَبادلا، إذ أصبحت الحواسيب قادرة على التجاوب مع المستخدمين. وقد تم استكشاف هذا الأفق في كل مكان تقريبا وبشكل متزامن: في فرنسا مع ألامو، وفي إيطاليا مع جمعية تيانو Teano، وفي البرتغال مع بيدرو باربوصا وأبيليو كافالهيرو، وفي أنحاء عدة بالولايات المتحدة.
وقد ظهر على ضفتي المحيط الأطلسي اتجاهان، مختلفان تماما، استنادا إلى الفكرة التي كوَّنها كل واحد عن دور «القارئ»، بين أن يكون «نشطا» أو «سلبيا»:
ففي الولايات المتحدة، شجعَ ظهورُ نظام «هيبيركارد Hypercard»، في عام 1984، الأبحاث حول استخدام نُظم برمجة «نص تشعبية» أو «وسائط تشعبية» ابتداء من عام 1987 لأغراض أدبية وجمالية. ومنذ عام 1995، تكاثرت في شبكة الأنترنت «النصوص التشعبية الشعرية» و«النصوص التشعبية التخييلية» بشكل أعم، بما في ذلك الشعر باللغتين الأنجليزية والفرنسية (وحتى بالإسبانية والإيطالية والبرتغالية، وغيرها). ويستند هذا النهج على تصور سلبي جدا «للقراءة» سلبي جدا، إذ لم يعد مسموحا للقارئ بسوى أن يجوب «نصوصا تشعبية»، أي أن «يتنقل» داخل عالم متخيَّل يبتكره المؤلف.
في المقابل، تم التركيز في أوروبا بالأحرى على تصور يكون «القارئ» أو «الكاتب-القارئ» بموجبه أكثر نشاطا وعلى تطوير «برامج معلوماتية أدبية» (أو برمجيات إبداع أدبي وشعري) تتيح للقارئ أن يتدخل في ما يقرأ. وفي عام 1994، أي بعد مرور 12 عاما على تأسيس جماعة ألامو(13)، أنشأت هذه الجماعة مكتبة منتوجات للعرض، هي عبارة عن أعمال «توليفية» أو «تطبيقية»، وفيما بعد أنشأت مكتبة «برامج معلومياتية أدبية» أكثر تطورا. تشتمل المكتبة الأولى على الأعمال: أدعية العذراء لجان ميشينو، وهو شاعر فرنسي من القرن الخامس عشر، وقبلة حبّ XLI لكيرينوس كوهلمان، وهو مؤلف من القرن السابع عشر، ثم عُشريات Dizains لمارسيل بنعبّو، وثلاثة توائم Triolets لبول برافورت. أما المكتبة الثانية، أي «البرامج التطبيقية، فكانت تسمحُ بإنتاج «نصوص جديدة كليا» في أنواع مثل «الأل، «alexandins greffés»، و«أمثال» و«أشعار هايكو»، وما إلى ذلك. أهم البرمجيات الأدبية التي تمَّ تصميمها هي نُظم CAVR (اختصار لعبارة «حكاية بطريقتكم الخاصة Conte à Votre Façon»)،. وMAOTH (لـ «التعامل مع النصوص الهجينة المدعوم بالحاسوب») وlapal (لـ «اللغة الخوارزمية لإنتاج الأدب المدعوم »). والهدف هنا هو تصمصم «لغة-مؤلِّفة»، أي نظام محَوسَب مُساعد للإبداع الأدبي. في مستوى أوَّل، كان يُطلب من المستخدم – الـ «مؤلف» أن يحدِّد بعض «التعليمات»، وهي قيود من طبائع عدة، إملائية، ومعجمية ، ودلالية، وتداولية، وأسلوبية. وفي مستوى أعلى، كان هذا العمل الآمر (أو المانع) يدور حول بناء الحبكة، وتنظيم القصة، وإدراك الزمان والفضاء، الخ. وقد كان يمكن لمرحلة من «المُعَايرة والقياس» أن تمضي إلى حد السماح للمؤلفين بالقوة بإعادة استعمال بنيات أدبية موجودة، يستَعَيرونها من كنوز الأعمال الأدبية التي تتضمنها قاعدة بيانات المعهد الوطني للغة الفرنسية فرانتيكست Frantext. ويعرض موقع الألامو في شبكة الأنترنت نماذج من هذه «البرامج المعلوماتية لإنتاج نصوص أدبية» توضِّحُ كيف أنَّ فعلي القراءة والكتابة يسيران نحو إلى الاندماج الاختلاط، عبر تكرارات واستنساخات متعاقبة، في نمط من «الكتابة-قراءة» غير مسبوق. وبمقدار ما يميل هذا النهج إلى تفويض القارئ جزءا من القدرة الإبداعية للمؤلف الأصلي (مصمم البرنامج المعلوماتي الأدبي) يَظهَرُ إدراكٌ وتصور آخرين للعمل الشعري. لم يعد الفعل الإبداعي عملا معزولا، أي فرديا ونهائيا ومغلقا، بل صار سيرورة مفتوحة ومشتركة وجماعية ومركَّبة ومتأخرة في الزمن ومتفجِّرَة في المكان ومجهولة المؤلف في جزء منها. إنه تصورٌ جديد للإبداع و«التأليف» يفرض نفسه، وهو لا زال لا يحظى بقبول جيد في الأوساط الأدبية والجامعية.
خُلاصــة
لا يزال تاريخ الإبداع الشعري باستخدام الحاسوب في حاجة إلى كتابة. تمَّ بين عامي 1959 و2004، وببطء شديد، إدخالُ قسط متزايد من الابتكار والتجديد الجمالي في أداء برمجيات الإبداع الأدبي والشعري. وكان ذلك التطور يعتمد على التطورات التقنية. في ألمانيا صنعت الحواسيبُ في عام 1959، بطريقة عشوائية جدا، أول «أبيات الشعر الحر الإلكترونية» باللغة الألمانية. وتمَّ التوصل إلى الأمر نفسه، باللغة الأنجليزية، في بريطانيا ثم الولايات المتحدة الأمريكية، في عام 1960، في حين لم يتمَّ ذلك باللغة الفرنسية إلا في عام 1964 في مونتريال بكندا. بعد ذلك تلت اللغات الأخرى، بما فيها الروسية.
وما تمَّ اكتسابه منذ ذلك الوقت هو أيضا ثمرة عمل عدة أجيال من الرواد والمُجَرِّبين. في عام 1975، عرضت جماعة الأوليبو أولى «منجزاتها» المعلوماتية في معرض دولي بعنوان «Europalia»، وفي عام 1989، ظهرت أول مجلة مخصصة كليا للشعر الإلكتروني، هي مجلة alire التي ظلت فريدة من نوعها إلى حدود 1996. وابتداء من العام نفسه، شرعت مجلات ورقية، مثل مجلة Doc(k)s (14) الفرنسية، تصدر أيضا في نسخة إلكترونية وتُدرج في أعدادها الورقية المتتالية أقراصا شعرية مُدمجة. وفي عام 1997، صدر في أرنهايم Arnhem بهولندة أول قرص مدمج للشعر متعدد الوسائط تحت عنوان قصائد وبضع رسائل (15). في مطلع عام 1995 بدأت شبكة الاتصالات السلكية واللاسلكية الإنترنت تتطور بطريقة مُذهلة، وآنذاك ظهرت في «النت» أو «الشبكة العنكبوتية» أو «الويب» أشكالٌ شعرية غير معهودة، مثل «الشعر الشبكي»، و«الفن الشبكي»، و«الشعر الإلكتروني»، و«شعر الويب»، و«الويب آرات»، و«فن البريد الإلكتروني»، و«شعر البريد الإلكتروني» وآلاف التنويعات من الشعر «الديجتالي»، و«الرقمي»، و«التكنولوجي»، و«الإلكتروني»، و«متعدد الوسائط»، و«متشعب الوسائط»، و«التشعبي»، و«التفاعلي»، و«التركيبي»، و«التوليدي»، و«المتحرك»، الخ.
وما من تسمية أو وَسم مما سبقَ إلا وتقابلُه محاولات، مع ما تفترضه من نجاح وخطإ، وأساليب مختلفة لا زالت تجريبية، يرافقها في بعض الأحيان (وليس دائما) مجهود تأمل نظري وتقني وجمالي متفاوت التقدّم. ويكمن التحدي في صعوبة العثور على مسلك آمن وسط حشود الاصطلاحات، ذلك أنَّ معظم آلاف مواقع الشعر التي يتمَّ إنشاؤها بجميع اللغات تطغى على مواقع البحث الفعلي، وتكتفي بإعادة إنتاج الأنماط التحريرية والأدبية الأكثر تقليدية، وتتجاهل عن قصد ما يمكنُ لهذه البيئة التقنية والتكنولوجية أن تقدمه من جديد وأصيل. في المقابل، مواقع الطليعة قليلة جدا، بل ومن الصعب جدا التعرف عليها لهذا السبب بالذات، مما يُولِّدُ ظاهرة فريدة من فقدان الذاكرة الجماعية، وجهلُ تاريخ ما تمَّ ابتكاره واختباره وتجربته منذ 1959 في مجال الإبداع الشعري باستخدام الحاسوب.
منذ عام 1995، والأجيال الجديدة من الكتَّاب و«الشعراء» الذين اكتشفوا الحاسوب تعطي الانطباع بأنها تعيد اكتشاف كل ما سبق تجريبه في مجالات التقليد والمحاكاة والتحريك والتفاعل، مع أنها لا تتقن ذلك دائما بسبب جهلها لما استكشفه أسلافها منذ عام 1959. وعلى المدى الطويل، مع توسّع شبكة الأنترنت صار التطوّر يعطي انطباعا بالركود. ذلك أنَّ أهم مصطلحات المعلوماتية المطبَّقة على معالجة اللغة وعلى الإبداع الأدبي تبلورت في الفترة الممتدة من 1960 إلى 1990. ومنذ ذلك الوقت لم يحصل أي تجديد فعلي. فالتجارب التأسيسية جرت بين 1975 و 1995. ومنذ ذلك الحين، يبدو أنه تمَّ خنق المبادرات الجمالية الحقيقية وتهميشها أو إغراقها في طوفان النشر الشعري الذي اجتاح شبكة الانترنت والذي يتجاهل عمدا ما تستطيع المعلوماتية أن تقدمه لعمليتي النشر والإبداع من إسهام في منتهى الأصالة.
وفي مستهل القرن الحادي والعشرين الذي نعيشه يبدو أنَّ الإبداع باستخدام الحاسوب قد توقف، والنماذج التي ستبقى لن تكون هي الأكثر جرأة بالضرورة.
ألان فولمـان (كريتي، جامعة أرطواز، فرنسا)
ترجمة: محمد أسليـم
النص الأصلي:
Alain Vuillemin: Poésie et informatique IV: bilan
————
هوامـش:
1 – «calculateur» (حاسب): اسم القديم الذي كان يُطلق على الحواسيب. أما كلمة ordinateur»» (حاسب)، فلم تقبلها الأكاديمية الفرنسية إلا في عام 1962.
2 . «Ecrilecture» (قِرَاكتابة): مصطلح وضعه بيدرو باربوصا بالبرتغالية للدلالة على انصهار فلعي القراءة والكتابة في الإبداع الأدبي باستخدام التكنولوجيا الجديدة. انظر:
– Barbosa Pedro: Metamorfoses do Real. Criação literária e Computador, Lisboa, Universidade Nova de Lisboa (Portugal), 1992, repris dans Metamorfoses do Real. Arte, Imaginário e conhecimento estético, Porto (Portugal), Ed. Afrontamento, 1995, et A Ciberliteratura. Criação e Computador, Lisboa (Portugal), Ed. Cosmos, 1996.
3 – «ALAMO»: Association pour la Littérature Assistée par la Mathématique et l’Ordinateur (جمعية من أجل الأدب المدعوم بالرياضيات والحاسوب).
4 – LAIRE: «Lecture-Art-Innovation-Recherches-Expérimentation» (قراءة-فن-بحث-تجريب).
5 – انظر لوليونيه فرانسوا «LA LIPO» (البيان الأول)، و«Le second manifeste» (البيان الثاني) في:
– La littérature potentielle, Paris, Gallimard, 1973, p. 15-23.
6 – انظر:
– Voir Denize François: Machines à écrire, Paris, Gallimard-Multimédia, 1999, un cédérom multimédia.
7 – «A la manière de» (على طريقة / بطريقة) هو عنوان كتاب:
– Reboux Paul et Müller Charles: A la manière de: Baudelaire, Henri Bernstein, Buffon, Francis Carco…[etc.], Paris, Grasset, 1950.
8 – انظر:
– Vuillemin Alain et Lenoble Michel: Littérature et informatique. La littérature générée par ordinateur, Arras, Artois Presses Université, 1995.
9 – انظر:
-Barbosa Pedro: A Literatura cibernetica, Porto, Arvore, tome 1, 1997, et tome 2, 1980.
10 – IRCAM: Institut de Recherche sur la Création Artistique et Musicale (معهد البحث في الإبداع الفني والموسيقي).
11 – انظر”
– alire n°1, Villeneuve d’Ascq, LAIRE, 1989.
12 – انظر:
– ABCD Interaktiv Magazin, Budapest (Hongrie), Kiadó: IDG Magyarországi Lapkiado Kft, 1996, un cédérom.
13 – انظر:
– Braffort Paul et Joncquel-Patris Josiane: «Alamo, une expérience de douze ans», in Vuillemin Alain et Lenoble Michel: Littérature et informatique. La littérature générée par ordinateur, Arras, Artois Presses Université, 1995, p. 159 sq.
14 – انظر:
– Akenaton-Dock(s): Dock(s) – ALIRE + Cqfd-Rom, Ajaccio, Akenaton n°3, 13/14/15/16, 1997. Un cédérom.
15 – انظر:
– Burgaud Patrick-Henri: Poèmes et quelques lettres, Arnhem (Pays-Bas), 1997.
2004
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأحد 18-11-2012 08:56 مساء