اعتراني غمٌّ وحيرة شديدان قبيل النوم ليلة أمس حول من أي المحطات أبدأ يوم غد من المراحل الثلاث المتبقية لي من ملحمة جمع الوثائق الإدارية، فإذا بخاطر يقول لي:
– عليك بـ «الزايرجة الهندسية في كشف الأسرار الخفية»![1]
فحسبتُ حروف اسمي واسم والدتي وأسماء المحطات الثلاث التي تنظرني، وسيَّرتُها على تسعة، واستخلصتُ الباقي، فطلع لي بيتان صدرُ أولهما:
«مكناسةٌ مكناسةٌ يا من أرادَ حَاجَةً» (رجز)
فهمتُ المقصود، فلم أحتج لإعداد جلباب ولا طربوش ولا نظارتين شمسيتين، ولا عكازا، ولا هم يحزنون. فمكناسة الزيتون نفسها نصٌّ جميل ينكتب بالمقيمين والعابرين على السواء، مكتفيا بذاته، لا يُزعجُ أحدا بأن يخاطبه قائلا، على سبيل المثال: «اكتبني» أو ما شبه ذلك… ضبطتُ منبه الساعة على الخامسة صباحا، ثم نمتُ.
استيقظت على الساعة الخامسة صباحا بالتمام، دون زيادة أو نقصان. تناولتُ وقططي وجبة الفطور، ارتديتُ ملابسي، ثم جمعتُ حوائجي وتوكلتُ على الله، وخرجتٌ إلى محطة القطار، لكي أستقل قطار السابعة صباحا وأربعين دقيقة، فإذا بالأغنية المشؤومة تعلو أرجاء الفضاء:
– سيداتي، سادتي! انتباه من فضلكم! القطار القادم من مراكش، والمتوجه إلى سيدي سليمان، سيدي قاسم، مكناس الأمير عبد القادر، مكناس، فاس، سيتأخر عن موعده بثلاثين دقيقة، نعتذر لكم عن هذا التأخر، ونشكـركم!
– Mes dames et messieurs! Votre attention s’il vous plait! Le train en provenance de Marrakech et à destination de Sidi Slimane, Sidi Kacem, Meknès Al Amir Abdelkader, Meknès, Fès, aura un retard de 30 minutes, nous vous prions de nous en excuser, merci!
قلتُ: «لن يُلدغَ المؤمن من الجحر مرتين»، سيصيرُ نصف ساعةٍ ساعةً لا محالة! عدتُ إلى منزلي، جهزتُ حماري الإداري، ركبتهُ وانطلقتُ على بركة الله إلى مكناسة الزيتون، فكانت الرحلة جميلة، لا تختلف في أي شيء عن السفر في القطار؛ شاهدتُ في مدخل مدينة سيدي سليمان الشمالي مئات خيام الثوب البيضاء منصوبة كتلك التي تتبرع بها المفوضية العليا للاجئين على نازحي الحروب والمجاعات والأوبئة في شتى بقاع العالم، وبجانب الخيام عشرات سيارات حمل سلع بيضاء هي الأخرى مصطفة كعربات القيامة، والغبار يعلو في السماء. كأنها داحس والغبراء! عرفتُ أن اليوم يوم سوق الأربعاء الأسبوعي… رأيتُ حقولا فوضوية سائبة، تداخل فيها الربيع، والخريف، والصيف، والشتاء، كأنها تنشد أغنية «كفاية…!!… Et Basta»، لشيخ الفوضويين وإمامهم المرحوم الحاج ليو فيري Léo Ferré. وتواصلت المشاهد يكرر بعضها بعضا، ينافس بعضها بعضا، يحاكي بعضها بعضا، يداعب بعضها بعضا، يغازل بعضها بعضا، يشتم بعضها بعضا، يلعنُ بعضها بعضا، وما إلى ذلك، إلى أن اجتزنا سيدي قاسم، فاستقامت الأرضُ واستوتْ، ولاحت تباشير الأطلس الجميلة، فاتضحت الرؤية وصارت الأجواء والمشاهد أحلى وأطيب لي ولحماري…
*
* *
مضت ساعتان ونصف على إقلاعنا من القنيطرة، وها نحنُ في محطة مكناس الأمير عبد القادر. أثناء الخروج، علا صوت أغنية يرافقها عزف آلة عود:
– سيداتي، سادتي! انتباه من فضلكم! القطار القادم من مراكش، والمتوجه إلى فاس، سيتأخر عن موعده بستين دقيقة، نعتذر لكم عن هذا التأخر، ونشكـركم!
أثنيتُ على نفسي كثيرا، لأن قراري أن أسافر على متن الحمار بدل القطار اتضحَ صائبا. أثنيتُ على نفسي دون أن أنسى توجيه جزيل الشكر لحماري؛ ها هو يتضحُ أن القطار لم يتأخر ثلاثين دقيقة، كما قالت مغنية محطة القطار القنيطرة المدينة، بل ساعتين كاملتين. لو كنتُ ركبتُه لكنتُ الآن فقط في سيدي سليمان أو بعده بقليل!
في باب الخروج من المحطة، اشتبك الحارسُ مع امرأة عجوز. المرأة المسنة تصر على مرافقة عجوز أخرى إلى رصيف ركوب القطار، والحارس يصر على وجوب الإدلاء بتصريح الدخول:
– هات تذكرة الدخول إلى رصيف القطار، سعرها ثلاثة دراهم ونصف!
– يا سيدي! أنا لستُ مسافرة. أريد فقط مرافقة أختي إلى حين وصول القطار، ثم أغادر المحطة!
– يا سيدتي! احجزي ورقة المرور إلى الرصيف، من الشباك، ثم رافقي من شئت!…
خشيتُ أن ينقلبَ اللجاجُ إلى اقتتال ضارٍ، أمَّنتُ حماري، وحقيبتي، ثم خرجتُ…
في الإدارة، استقبلتني موظفة بوجه بشوش، سلمتُها الطلاسم الأربع، استنطقتها وفكت ألغازها إلى أن سطعت أنوارها وباحت بأسرارها، ثم استدعت زميلا لها من مكتب مجاور، وسلمته أحد الطلاسم، وها هما يستغرقان في طبع كمية هائلة من الأوراق. هما يطبعان وأنا أنظر، هما يطبعان وأنا أنظر… لو رأى أحدهم المشهد من بعيد لظن أنه يُشاهدُ أحد أفلام شارلي شابلان التي يغيب فيها الصوت وتتسارع فيها الحركة. لم أستغرب لحفاوة الاستقبال التي خصتني بها الموظفة، في حين قلقتُ للكم الهائل من الأوراق.
السرُّ في حسن الاستقبال هنا، بخلاف بطل اليوم الثاني الذي كاد أن يَئدَ ملحمتي في مهدها، باختلاق حكاية أنَّ صك الطلاق يدخلُ ضمن وثائق ملف طلب الحصول على شهادة السّبَات، السر في ذلك هو أنَّ إدارة اليوم خصوصية وليست عمومية، وشتان بين موظفي القطاعين، كما دونتُ في أحد الإدراجات:
جدير بالتأمل!
في حين يخص عمال وعاملات الأسواق الممتازة وموظفو الأبناك الزبائنَ دائما بالترحيب والتحية المرفوقين بابتسامة ووجه بشوش، ويستجيبون فورا لأي طلب أو استشارة، بل يستزيدون، يستقبل أفرادٌ من مستخدمي بعض الإدارات العمومية المواطن دائما بوجه متجهم عبوس: يستثقلون قدومه، بل لو استطاع بعضهم لحمل عصا وطرد هذا المواطن وكأنه جاءهم ليطلب منهم أن ينحنوا ليركب فوق أظهرهم أو أتى ليطردهم ويأخذ مناصبهم!…
ومما عُقِّب به عليه:
«أشاطرك هذه الملاحظة، لكن أضيف إليها ملاحظة أخرى هي: أن أريحية و”روح الاستقبال” في المراكـز التجارية وقطاع الأبناك، مثلا، أريحية جامدة بلا روح حقيقية. بل إنها تخبئ نوعا من السرقة والتحايل (مثلا عدم إرجاع مستحقات الصرف من السنتيمات وعدم تكليف الموظف نفسه تنبيه الزبون إلى النقص الحاصل في ذلك أو معرفة رفضه أو قبوله “التنازل” على تلك السنتيمات، بالإضافة إلى عدم منح كيس للزبون إلا بمقابل باهض جدا هو 1 درهم).
يعني أن الابتسامة المصطنعة تنتهي لحظة خدمة الزبون خدمة حقيقية وشفافة!
تختفي هذه الأريحية، أيضا، في حالات المنازعات والشكايات بخصوص السلع المقتناة.
أما قطاعي الإدارة والخدمات العمومية، فهما أم المصائب وجهنم التخلف!» (مصطفى لمسيح).
«عقليات متحجرة علاها الصدأ» (نور الدين ناس الفقيه).
«أظن أن التفسير يكمن في جهة أخرى: قطاعات التجارة والمال والأعمال والخدمات تُخضع موظفيها ومستخدميها لدورات تكوينية في كيفية التعامل مع الزبائن، في حين لا تقوم الإدارات العمومية بذلك. وما لم يتم إخضاع الإداريين لهذا النوع من التكوينات وأخذها بعين الاعتبار في تقويم أداء المستخدم لعمله، بحيث يتلقى عقوبة يمكن أن تبلغ حد فصله عن عمله إذا خالف (وهذا ما يتم بالفعل في أحد الأسواق التجارية، حسب علمي…)، فإن أي حديث عن إصلاح الإدارة قد لا يؤدي إلى تغيير حقيقي (محمد أسليم).
«هذا هو حالنا مع الإدارات العمومية…زد على ذلك تردي أغلب الخدمات التي تقدمها.» (بنهاني سعيد).
من الواضع أن السر في حسن الاستقبال السابق يعود إلى أن الإدارة مختصة في الخيمياء، فيتأتى لها تحويل كل شيء إلى أموال، بمجرد إطلاق بخور وقراءة عزائم وكتابة حروز وطلاسم وصنع تمائم… بل يتأتى لها ذلك بمجرد أن يدخل إليها الزبون، ويتجاذب أطراف الحديث مع هذا الموظف أو ذاك، هذه الموظفة أو تلك، وبذلك ارتأى صاحب الإدارة العجوز الذي قال ذات لقاء له مع أحد الفقهاء إنه قد عثر على نبتة الخلود التي ابتلعتها الأفعى من جلجامش، واحتفالا بولوج نادي الخالدين، ارتأى هذا المحظوظ أن يعيد بناء برج بابل في إحدى مدن المملكة على غرار ما أعاد صدام حسين بناء قصر نبوخذ نصر على أنقاض مدينة بابل بالقرب من بغداد…
تواصلت الطباعةُ، قلقتُ، لأنَّ وثائقي لم تستنفذ علب أوراق جميع مكاتب المؤسسة بطوابقها الاثنين فحسب، بل اقتضت وقوف عدد كبير من الشاحنات المحملة بعلب الأوراق البيضاء، التي استغرقت مطبعتا المؤسسة في استنساخها، وهي تعزف أغنية: «هل من مزيد؟ هل من مزيد؟!» بطريقة ذكرتني بنداء ممرضة قسم أمراض القلب والشرايين للمرضى يوم أخرج الطبيب كلام الحساء الكوني من قلبي[2]… بعد مرور حوالي أربع ساعات، كان ما طبعه الموظفان من أوراق قد تحول إلى شبه مبان أو عمارات، في حين وجدتُ نفسي حشرة صغيرة وسطها، حيثما وليتُ وجهي لا أجد غير أسوار من الورق، كأنه ألقي بي في إحدى متاهات أوروبا القرون النباتية…
قلتُ: واحدة من اثنين:
– إما أني جننتُ، وما أراه مجرد توهم وخيال أو أنَّ الأمر حقيقة واقعية لا جدال فيها!…
لولا انشغالي بالبحث عن أي الاحتمالين أصح لملأتُ الإدارة بالصراخ. ولا أظن أنه كان في وسع أي شخصٍ آخر في موقفي أن يقوم بأي شيء آخر غير الصراخ: من باستطاعته تحمّل أن يجد نفسه بطلا واقعيا، من لحم ودم، في رواية واقعية هي الأخرى، لكنها شبيهة تماما برواية «المسخ» لكافكا بل ربما أكثر غرابة منها؟!
انتهى إعداد الوثائق التي طلبتُ، حان موعد التسليم والاستلام، خاطبني مدير المؤسسة:
– اطلعنا على كل ما كان يروج في ذهنك بتفاصيله المملة! أنت الآن في عالم واقعي ولست في حلم أو خيال! (…) ثم بما أن حمارك أصغر من أن يحمل كل هذه الأوراق، فقد تدبرنا أمر إرسالها في أربع شاحنات كبرى، كل شاحنة تقابل طلسما. ليس هذا وحسب، بل أرسلنا حمارك أيضا في إحدى الشاحنات!
قلتُ في نفسي:
– انتهى بيتُ قصيد الرحلة بسلام. الآن، يحق لي أن ألقي تحية على المدينة، بعد رحيلي عنها قبل حوالي عقدين، إذا احتسبنا «غياب الغياب» و«غياب الحضور»…
ثم خرجتُ أتجول في شوارع وسط المدينة، وها هي مكناسة أجمل مما كانت عليه من قبل: أصبحت أوسع وأكبر، جراء زحف الإسمنت عليها، كأخواتها الرباط، والقنيطرة، وسلا، وغيرها من المدن التي داهمتها الأبراج، لكن مكناسة لوت عنق الإسمنت وخنقته، بدل أن يخنقها، فبقي الهواء نقيا، والسماء رحبة صافية، وجبل زرهون لم يتزحزح عن مكانه عصي على أن يجبه سور أو بُرج…
هاتفتُ أحد أعز أصدقاء ليالي الذكر الصوفي، وهو صديقي الشاعر عبد الناصر لقاح، ليسَ لصلة رحم الذكر الذي صَرَفتنا مجالسُه وفضاءاتُه، نحن الاثنين وصفوة أخرى، كمحمود ميري وأحمد تيمد، وغيرهما، لارتقائنا أعلى مدارجها قبل الأوان، بل هاتفته لصلة رحم الثقافة والشعر لا غير. موعدنا سينما كاميرا.
في الطريق، صادفتهم جميعا، كما تركتهم، لم يغير الزمن عاداتهم القديمة مثلما لم يغير الإسمنتُ وجه المدينة القديم:
الشاعر عبد السلام الزيتوني جالسٌ في مقهاه المفضل بشارع علال بن عبد الله، على بعد خطوات من منزله، يقرأ صحيفة الاتحاد الاشتراكي، مخللا القراءة باحتساء فنجان قهوته الصباحية، الفنان التشكيلي الحسين موهوب جالسٌ في مقهاه المفضل «الديك الأسود»، مع ثلة من أساتذة الفن التشكيلي، يشاكسُ هذا ويناكفُ ذاك. ومن حين لآخر، يُرغي وبزبد ويلقي سيلا من الشتائم غير المحسوبة التي لا تستثني أحدا في البلاد، فينزعج بعض الجالسين، بل ربما لخشيتهم أن توجد الشرطة في المقهى متنكرة في هيئة زبائن، فتلقي القبض على موهوب ومن معه ومن سمعه، لذلك ينصرفوا مفزوعين، قبل إتمام مشروباتهم. قبالة سينما كاميرا، ها هو محمود ميري قادمٌ بشعره الأشيب ونظارتيه الطبيتين البنيتين وقبعته الرياضية، ومشيته الاعتيادية: الرأس نحو الأسفل، كدنا نصطدم ببعضينا، نظر إليَّ، ثم انصرف، دون أن يؤدي التحية أو يقول أي كلمة: أيقنتُ أنه قضى الليلة في أحد مجالس الذكر الصوفية بالمدينة، وأنّ الأنوار التي أشرقت عليه هناك قد حجبت عنه صورتي. تركتُه فيما هو فيه، ثم انصرفتُ دونَ أن أزعجهُ، تماما كما واصلتُ سيري، قبيل ذلك، عندما مررتُ من جانب الشاعر عبد السلام الزيتوني، والفنان الحسين موهوب، وراعي الفنانين السي محمد العبادي الذي كان هو الآخر مستغرقا في شعيرته الزوالية الاعتيادية وسط أحد مجالس الذكر، وآخرين كثرُ، لم أكلم أحدا منهم لأنهم كانوا في الضفة الأخرى…
لم يستغرق وقوفي قبالة سينما كاميرا بضع دقائق وها هو الشاعر عبد الناصر لقاح، يصل بشعره الذي اشتعل شيبا هو الآخر قبل الأوان. هيا إلى مقهى جميل. حول برادي شاي، لتأثيث تفاهة الحياة، وبطش الزمن الأرضي بنا، نحن شظايا النجوم القادمة من نُجُومٍ، في دورة تشكلات وانفجارات لا تكل ولا تمل… بَلْبَلْنَا (من blabla) في أمور شتى: الثقافة، الفضاء الرقمي، المرض، مآسي تحولات العائلة الموسعة إلى أخرى نووية، جراء إصرار بعضهم على لعب دور دون كيشوت القرنين العشرين والواحد والعشرين لوقف زحف التحول العظيم… خلال ذلك، صادفَنا أحد أقطاب صوفية المدينة، جلسَ هنيهة، وتحدث معنا قليلا، ثم قام وانصرف، إما حرصا على أن يكون خفيف الظل أو لأن أشغالا كثيرة كانت في انتظاره؛ فهو من أعيان المدينة…
*
* *
في قطار العودة، امتلأت المقصورة عن آخرها. ضمن الجالسين، كان هناك نصٌّ ونصٌّ ونصٌّ ونصٌّ، ولكن نصّ مكناسة كان أقوى وصوته أعلى، فضلا عن أنه كان أجمل: أنساني محطة الطلاسم الأربعة، وشاحنات هذا الصباح الأربع، بل وحتى حماري الإداري.
[1] عنوان كتيب لقراءة الغيب، من تأليف عبد الفتاح الطوخي الفلكي، توجد منه أكثر من طبعة، أشهرها طبعة المكتبة الشعبية ببيروت (بدون تاريخ).
[2] انظر نص «البحث عن الذهب: 2) صوت الحساء الكوني في قلبي» ضمن الكتاب الحالي.