أثناء عملي في إحدى المؤسسات التعليمية، قبل عقود، وقع الحدث المثير التالي:
كان أحد الأساتذة مشهورا بكسله وتهاونه، إذ لم يسبق له أبدا أن جدَّد دروسه أو حيَّنها، على امتداد سنين طويلة، بحيثُ بليت جذاذاته، وأصبحت رثة صفراء اللون جراء تقادمها وكثرة استعمالها. لم يكن الحاسوب الشخصي قد انتشر بعدُ. وحدث يوما أن كنتُ بمعية أحد مسؤولي المؤسسة رفقة جماعة من الأساتذة والأستاذات، في مجلس عزاء، فإذا بالمسؤول يتلقى مكالمة هاتفية من الأستاذ المذكور. تَطَيَّر متلقي الاتصال، لأنه لم يكن من عادة ذلك المدرِّس أن يهاتفه، فظنَّ أنَّ المكالمة كانت جراء طارئ سيء، كأن يكون الأستاذ قد ارتكب حادثة سير أو يكون أحد أقاربه قد توفي، وما إلى ذلك، فإذا بالأمر بخلاف ما توقع تماما، إذ كان نص المكالمة، حسبَ المسؤول، هو:
– ألو، السي فلان.
– …
– كيف أحوالك؟ بخير؟
– …
– أنا بخير والحمد لله. هل عرفت من أين أكلمك؟
– من أين؟!
– من الديار المقدسة. أنا الآن بصدد إجراء العمرة رفقة زوجتي، وسأعود في اليوم الفلاني!
لم تنطل الحيلة على أي من الحاضرين؛ تغامزوا متضاحكين:
– ربما ذهب إلى الديار المقدسة ليحين دروسه هناك. ترقبوا أن تأتي أوراق الدروس ناصعة البياض…!
ولكن ما حصل منذ ذلك الحدث العظيم هو أنَّ صاحبنا أهمل لحيته، وواظب على تشذيبها بمنتهى الأناقة، وربما أخذ يأتي إلى المؤسسة لابسا جلبابا إعلانا على أنه أصبح يتمتع بهالة قدسية، لإخفاء رداءته، بل ولشرعنتها أيضا والإمعان فيها، إذ واصل إلقاء دروسه بالطريقة نفسها وإملاءها من الأوراق ذاتها. آنذاك، أصبح الجميع يتندَّرُ ضاحكا:
– لاشك أن دروسه أطول وأكبر من أن تقوى العمرة على تحيينها بسبب قصر مدة هذه الشعيرة. يلزم دروسه الحج! ترقبوا أن يحج في السنة المقبلة أو التي تليها، فيعود بدروسه وقد تحينت وانكتبت من تلقاء نفسها في صفحات ناصعة كالثلج أو الحليب!