عدتُ للتو من حصة المشي اليومية التي ألزمني بها الطبيبُ. ومن عادتي عندما آخذ وجهة شمال المدينة أني أوقف المشي في منتصف المسافة، وأجلسُ في مقهى شعبي لكي أستريح، فأتناول شايا، ثم أقفلُ راجعا إلى البيت. مما فاجأني اليوم أنَّ صاحب المقهى جاء وصافحني بحفاوة غير مسبوقة، مُكرما إيايَ للمرة الأولى بلقب «الحاج»، كما لو كنتُ قد عدتُ للتو من أداء مناسك هذه الفريضة! دون أن أتساءل عن السر في ذلك، سعدتُ بلقبي الجديد، لأن اللقب القديم (أستاذ) جعله الباعة والتجار والحرفيون من الابتذال بحيث أصبحَ يُمنحُ لمن هبَّ ودبَّ، فينادى به الجزار والخضار وماسح الأحذية، وكل من زار محلا أو مكانا ليقتني شيئا، إذ يرشو صاحب المحل الزبون بلقب «الحاج» لكيلا يغادر الزائر المتجر إلا وقد اقتنى شيئا أو عدة أشياء… وبالفعل، كنتُ أنادى في المقهى بـ «أستاذ» دون أن يعرف صاحبها ولا أي من النادلات أني أستاذٌ فعلا!
جلستُ منتشيا بلقبي الجديد، أحتسي براد شاي ولويزة، لكن ما إن مرت بضع دقائق حتى تماسَّت نادلة، لدى مرورها بجانبي، مع المائدة وها هو البراد يطيرُ ويقع على الأرض مرفقا بالكأس، فانكسرت الكأسُ، وتدفق الشاي فوق الأرض. قلتُ في نفسي: ما تكون هذه إلا صفعة آتية من لص النساء الذي سبق أن سرق فنجان قهوة هنا فعاقبته، إذ كتبتُ عنه الجزء الأول من نص «لص النساء» أو من صاحب «التخنزير» الذي كنتُ عاقبته أيضا بإفراد نص له بعنوان «العصير والتخنزير» ، فخشيتُ أن يُفطَنَ للسبب فأفقد لقبي الجديد، لكن ها هو صاحب المقهى يأتي قائلا:
– لا عليك، أ الحاج. هذا مما يقع. سنتكفل بكل شيء!
وفعلا، فقد تكفلوا بكل شيء: أرسل لي براد شاي ولويزة جديدين، بعد أن محت النادلة آثار الحادثة، بتنظيف المائدة والأرض، فواصلتُ احتساء الشاي منتشيا بلقبي «الجديد» الذي لم يكلفني انتظار نتائج قرعة، ولا أداء مستحقات مالية، ولا شد حقائب، ولا امتطاء طائرة، ولا تدافعا مع الحجاج، ولا رجم الشيطان، ولا القيام بأي شيء من طقوس هذه الشعيرة. بيد أني ما إن عدتُ إلى البيت حتى تذكرتُ المثل المغربي الشائع: «ثلاثة أشياء لا تؤتمَنُ: الحاج، والعجاج، والفيراج ( = منحرف الطريق)»، وفي رواية أخرى «أربعة أشياء لا تؤتمَنُ: الحاج، والزّاج ( = الزجاج)، والعجاج، والفيراج»، فتلاشت نشوتي، وتوجستُ كثيرا من لقبي الجديد، لأنه سيجعلني محل احتياط وارتياب من لدن الكثيرين!
بعد مرور حوالي عام، راج في اليوتيوب وبعض مواقع التواصل الاجتماعي شريط فيديو يدعو فيه أحد الجزائريين مواطنيه إلى مقاطعة الحج، كما دعا بعض النشطاء من أكثر من قطر عربي إلى هذه المقاطعة، لأسباب عديدة، في مقدمتها حرب اليمن، فكتبتُ الإدراج التالي:
«أغناني لقب «الحاج» الذي أصبح يُغدَقُ عليَّ يمينا وشمالا في الأسواق والمحلات التجارية، وغيرها من الأماكن العمومية، مع ألاَّ شيء يوحي بأنني شخص متدين؛ فحتى ما سيمونه ب «دينار الصلاة» لا يوجد في جبيني… أغناني عن أداء هذه الفريضة وعن الحرج الشَّديد الذي كنتُ سأضع فيه نفسي أمام دعاة مقاطعة الحج…! سأقول لهم: أنا حَجَجْتُ قبل أن تطلقوا حملتكم، لم أخنكم. لي شهودٌ على ما أقـول!».
*
* *
لاحقا، حضرتُ واقعة ذات صلة بلقب «الحاج»، فدونتها كالتالي:
نحمد الله أن منحنا صدرا رحبا تجاه لقب «حاج» الذي أصبح بعضهم يوزعه يمينا وشمالا، كلقب «الأستاذ»، وذلك بخلاف بعض النساء؛ فقد شاهدتُ بأم عيني بائعا سعى لإكرام إحدى المشتريات بلقب «الحاجَّة»، فإذا بها تنتفض في وجهه قائلة: «الحاجَّة هي امُّك!»، فتطور الخلاف بينهما إلى تلاسن كاد أن يفضي إلى اشتباك باليدين، وتبادل للضرب والجرح، فحضور سيارة الإسعاف، ثم الشرطة، فلا تكون للحكاية تتمة إلا في مخافر الشرطة وردهات المحاكم، لولا تدخل الحاضرين، وإصلاح ذات البين بين الاثنين…» ههههه».
حسِبتُ المرأة انتفضت في وجه البائع لأنها ظنتْ أنه، من خلال مناداتها بـ «الحاجة»، قد اعتبرها امرأة متقدمة في السِّن، وهذا من أشد ما تخشاه عموم النساء اللواتي تعتبرن الصغر والجمال رأسمالهن الأوحد والوحيد، فإذا ببعض الأصدقاء يوضحون في تعقيباتهم على الإدراج بأن لقب «الحاجَّة» في بعض مناطق المغرب يُطلقُ على مديرات أوكار الدعارة (القوادات)، ولقب «الحاج» كان يطلق على جلادي بعض المعتقلات السرية إبان سنوات الرصاص بالمغرب:
«ههه هذه كارثة ثقافية اجتماعية وإنسانية. مع الأسف بنفس بالمعنى القدحي يرتبط لقب الشريفة في بعض المناطق الشيخة القوادة العجوز…. لقب الشريفة متداول ومرغوب فيه في العديد من المناطق وعلى رأسها مكناس، فاس، وزان، الشاون، مدن الشمال، وتافيلالت، ما عدا ذلك تقريبا “إذا قلتيها لشي مسخوطة تندمك”… المسخوطة المقصودة ترفض تصنيفها ونعتها بالشريفة بالمعنى المنحرف والقدحي المترسخ في ذاكرتها…» (عزيز الذهبي).
«نعم إنه قدحي. خاصة بالنسبة للمرأة، إذ هو ما تلقب به المكلفات بإدارة وكور الدعارة عادة.. وتداولها كذلك هو نتيجة اكتساح الفكر المذهبي لشاشاتنا الرديئة البرامج.. وهو لاستمالة ماكرة بوجهين.» (خديجة زواق).
«شخصيا، أرفض تسمية الحاجة لأسباب كثيرة منها أن لها معنى قدحيا مهينا لدى الكثيرين، ومنها أن الحجاج معروفون من هم في تاريخنا الراهن؛ فهم الجلادون الذين كانوا يخفون أسماءهم ويعوضونها بلقب الحاج، أفضل أن أسمع لفظة الوالدة عوض الحاجة. أما لفظة أستاذ وأستاذة فقد أصابها الابتذال، وربما كان هذا مقصودا.» (دامية بنخويا).
«في الأسبوع الماضي حدث لي نفس الأمر مع إحدى الشابات وهي معذورة طبعا! أردت اقتناء حلويات وما إن وقفتُ أمام صندوق العرض حتى بادرتني ‘’أش حب الخاطر أ الحاج؟ ‘’، قلت لها لست حاجا ولا أحب الحجاج! وإن كان علي أن أحج، فسأحج إلى الكريملين! الفتاة لم تعرف سبب غضبي طبعا! وأنا لم أفسر لها: أن الجلادين في الدرب الحقير كانوا يسمون أنفسهم حجاجا!» (الذهبي المشروحي).
«قد يكون هذا التداول الاجتماعي للفظة “حاج” مقبولاً في سياق تشريف المناداة أو منحها حمولة تقدير واحترام، لكن ما قد يجهله الكثيرون من المغاربة هو استعمال اللفظة ذاتها في سياق عذابات استثنائية؛ فالذين قدر لهم المرور من جحيم المعتقل السري /العلني “درب مولاي الشريف” بالبيضاء، حيث كانت مدد الحراسة النظرية بالسنة وزيادة… أولئك يعرفون أن المعتقل الذي تعصب عيناه بحيث لا يرى سوى الظلام، وتكبل يداه… يُطلب منه إن أراد ارتياد المرحاض أن ينادي الجلاّد بلفظة “الحاج” لكي يسوقه إلى “بيت الما”، في إهانة وضرب وركل وسب…. فيالها من مفارقة عدوانية وسادية كانت، تفرغ لفظة الحاج من سياقها التعبدي والديني والرحيم… هذا فقط بما أن الشيء بالشيء يذكر.» (توفيق عبد الحق البقالي).