كنتُ مستغرقا في تناول وجبة الغذاء في المطعم عندما حلَّ زوجان برفقتهما طفل صغير يتعثر في خطواته الأولى. نزلا للتو من سيارة ركنت على جانب الرصيف المقابل للمطعم. أوَّل ما أثار في الزوجين قامتاهما الطويلتان على نحو مُلفتٍ؛ «طويلا النجاد رفيعا العماد»، ما شاء الله، لو صعدا إلى حلبة ملاكمة لأمتعا المشاهدين بواحدة من أمهات مباريات القرن! كأنَّ الزوجة اختارت زوجها عملا بالأغنية الشعبية «طويل وعالي يا لالة حيت دكالي»، فانتقت بذلك أجمل الرجال قدا وقددا، وكأنه اختارها إمعانا في تحقيق مطالب المرأة، في أيامنا هذه، بالمساواة في كل شيء؛ فانتقاها طويلة كي يعفيها من أن تشرئب إليه بعنقها، عندما يكونا سائرين في الشارع، ومن أن تلبس حذاء عالي الكعبين، على نحو ما تفعل الكثيرات ممن تعج بهنَّ الشوارع في أيامنا هذه… يفعلن ذلك بغرض النصب على مشاريع أنصاف حياتهنَّ، فتتظاهر الواحدة لمشروع نصف حياتها بأنها طويلة القامة (وما أكثر الرجال الذين تنطلي عليهم هذه الحيلة)، فلا يفطن هذا الفارس للأحلام لإيقاع صاحبته به إلا بعد فوات الأوان، أو أنه ( = الزوج الذي دخل المطعم رفقة زوجته) اختارها ليعفيها ويعفي نفسه من مشاق أخرى أثناء التحليق في مياه الفراش العليا والغوص في أجوائه السفلى…
إلى هنا، كل شيء جميل، بل وقد يقتضي الثناء على هذين الزوجين الاستثنائيين حتَّى، لمساهمتهما في تحسين النسل، وإنجاب قامات تحتاج إليها مهنٌ، كالأمن والجيش والدرك، حاجة ماسَّة لحماية ثغور الوطن وإتباب الأمن الداخلي، وكذلك لإشباع حشود المواطنين ركلا ورفسا وضربا إذا حميت رؤوسهم وخرجوا إلى الشوارع محتجين… ولكن الاثنين دخلا إلى ساحة المطعم بخطو متثاقل يشي بأن شيئا ما بينهما لم يكن على ما يُرام؛ فالزوجُ يبدو كأنه بمجرد ما استيقظ من النوم ارتدى من الملابس أقرب شيء إلى يديه، ثم اصطحب زوجته وطفله الصغير إلى المطعم، دون أن يكلف نفسه ولو عناء حلاقة الوجه وتسريح الشعر؛ لم يول أي عناية لهذا الطقس الجميل، المتمثل في تناول وجبة طعام خارج البيت، الذي تشتهيه كل زوجة. أكثر من ذلك، فقد ارتدى الزوج أيضا قناعا عبوسا أبداه كأنه قادم إلى عقوبة وليس إلى فضاء جميل لتبديد روتين البيت، وإعفاء زوجته من عبء تحضير وجبة الغذاء، هذا الإعفاء الذي تكافؤه معظم ربات البيوت بمرافقة زوجها إلى رحلة ليلية جميلة في أعلى سماوات الفراش… ولم تكن الزوجة أحسن حالا منه؛ فقد دخلت إلى المطعم عبوسة هي الأخرى، تمشي الهوينى كأنها تسير فوق الشوك أو الجمر. ثم بإبقاء ساعديها مشمرين، بدت كأنها خرجت من المطبخ للتو، كأنها كانت مستغرقة في إعداد وجبة الغذاء، ثم حدث طارئ، كان أقوى منها ومن الزوج، فألقت هي الأخرى كل شيء جانبا، ثم أمسكت طفلها من اليد، وخرجت رفقة زوجها إلى هذا المكان.
صرف الاثنان زهاء دقيقين في البحث عن مائدة مناسبة للجلوس، مع أن المطعم لم يكن مملوءا عن آخره بالزبائن. استقر رأيهما على الجلوس في المائدة المقابلة لي. من خلال حفاوة التحية التي خصَّ بها النادل الزوجَ اتضح أنَّ هذا الأخير من المواظبين على التردد على الفضاء. ليس هذا فحسب، بل اختفى النادل، ثم عاد وهو يحمل مائدة خشبية صُمِّمَتْ خصيصا لجلوس الأطفال الصغار؛ هي عبارة عن كرسي ومائدة صغيرتين ملتصقين، يجعلان الطفل في مستوى علو أبويه. أثناء استدارة الزوجة للجلوس، اتضح أنها حامل، في شهرها الأخير أو ما قبله، إذ تكوَّر بطنها وانتفخ إلى أن أصبح مثل قبة عظيمة. وأثناء تسويتها جلسة الطفل رفعت يدها اليمنى، فإذا بشبكة من آثار جروح حديثة وغير عادية على الإطلاق تغطي جزءا من ساعدها؛ لو كانت هذه الندوب نتيجة حركة طائشة بسكين في المطبخ لتوقفت عند خط واحد، ولكنها سبعة خطوط أو ثمانية، من نوع الجروح التي لا تُرى إلا في أيدي المراهقات والمراهقين الذين يؤذون لحمهم، تحت فعل التخدير أو جراء سعيهم للانتحار نتيجة سوء تفاهم مع آبائهم!
بجلوس الزوجين زاوية المطعم المقابلة لي، صارا في مرمى بصري شئتُ أم أبيتُ. وجه الزوج مقابلٌ لوجه زوجته، لكنه أيضا قبالة مارة الشارع الذين يختارون المشي في هذا الرصيف بدل الرصيف المقابل في ضفة الشارع الأخرى، ووجه الزوجة مقابلٌ لوجه زوجها، لكنه أيضا قبالة ساحة المطعم. من يجلس في هذا الكرسي بالذات ( = كرسي الزوجة)، لن يفوته مشاهدة كل ما يجري في المطعم: الجالسون في الموائد، الخارجون من الجزء الداخلي للمطعم والخارجين منه، تحركات النادلين، وما إلى ذلك. ها هي مساواة أخرى بين الزوجين، مساواة على صعيد آخر، لكن تفصيلا صغيرا جعل ما يراه أحدهما مختلفا تماما عمَّا يراه الآخر؛ ما تشاهده الزوجة مضبوط ومحروس، لا يمكن أن تصدر أي حركة طائشة سواء منها أو من أي شخص من زبائن المطعم، في حين يرى الزوج مجموع مارة الرصيف، وضمنهم تكون نساء وبنات كثيرات، أغلبهنَّ متجملات ويرتدين ملابس عصرية: طالبات، موظفات، بنات هوى، متزوجات، ذاهبات إلى الوادي للنزهة أو إلى مقاهي أخرى، عائدات منهما، وما إلى ذلك… لماذا اختار الزوج أن يكون هذا المشهد بالذات هو ما في مرمى عينيه ولم يختر مشهد المطعم؟ طرحتُ السؤال، وواصلتُ الأكل. فقبل كل شيء وبعده، لا شأن لي بهذا، كما أنه لا يهمني…
أحضر النادل شوارمة للزوجة، وللزوج طجينا صغيرا لم يسبق أن شاهدتُ زبونا يأخذ مثله في هذا المطعم من قبل، ولكن مثل هذا النوع من الأطباق شائع في الخمارات ونوادي المشروبات الروحية، خمنت ما بداخله: جمبري بالطماطم والتوابل، أي طجين «پل پل Pil Pil»…
استغرق الزوجان في الأكل في صمت رهيب. من حين لآخر، كان أحد النصفين ينظر إلى نصفه الآخر. ولأنهما كانا على مقربة شديدة مني، فقد تأتى لي فحصهما أكثر: كان الزوجُ في حوالي منتصف الثلاثينات، بشرته مائلة قليلا إلى السُّمرة، يرتدي سروال دجين أزرق، وقميص ثوبٍ انتظمت فيه مربعات وخطوط زرقاء ووردية وبيضاء، في حين بدت الزوجة في منتصف العشرينات، ذات بشرة بيضاء مائلة إلى الصفرة، أنفها مقوَّس قليلا كأنف خروف، ثم ارتدت شبه معطف رمادي اللون، مصنوع من الصوف، كأنه قميصٌ (tricot) أكرمه صانعه بالطول إلى أن بلغ الركبتين، وفولارا بنيا زهد في أجزاء من حاشيتي الوجه والصدر، ما يفيد أنها لم تكن محتجبة مائة في المائة ولا سافرة مائة في المائة؛ كانت ربة بيت أمية، في أغلب الظن. ومن نوعية الوجبة التي اختارتها لم يتأكد التخمين السابق فحسب، بل اتضح أنها ربما كانت بدوية تشبهت بالمدينيات العصريات، تماما كتلك المسافرة التي صادفتها في رحلتي يوم أمس في القطار، والتي صعدت من محطة القنيطرة المدينة، ونزلت في سيدي سليمان:
كانت هي الأخرى تبدو شبه محتجبة، لكنها جملت وجهها بسخاء، فبدت كامرأة متعلمة موظفة، لكن ثلاثة أشياء فضحت أميتها وبداوتها حتى النخاع:
فهي لاكت قطعة شوينغوم، على امتداد السفر، على طريقة نساء القرى؛ كانت تحرك شفتيها سريعا، وتباعد بينهما إلى أن تظهر أسنانها، ومن حين لآخر، كانت تفرقع العلكة بأسنانها، كأنها كانت تعزف بفمها أهزوجة، فتصدر عن كل فرقعة أصوات «طَّقْ، طَّقْ»، «طرَّقْ، طْرْطلَّقْ»، ما جعل سفرها رحلةَ «طَقْطَقةٍ وطَرْطَقَةٍ»؛
ثم إنها وضعت في يدها ساعة، لكن أرقام الساعة كانت مقلوبة، رقم 12 في الأسفل، ورقم 6 في الأعلى، فضلا عن أن الساعة كانت معطلة أصلا، حيثُ ظلت عقاربها مثبتة على الساعة 11 (صباحا أو ليلا؟!) على امتداد السفر، في حين كانت انطلاقة القطار من القنيطرة على الساعة التاسعة صباحا لا غير!؛
أخيرا، للإجابة عن إحدى المكالمات، أخرجت المسافرة من حقيبتها اليدوية هاتفا محمولا ينحدر من عصر ما قبل تاريخ الهواتف الخلوية؛ كان صغيرا للغاية، لوحة مفاتيحه شبه ملساء، جراء القدم وكثرة الاستعمال، فضلا عن أن الأرقام والحروف كانت شبه ممحوة!
إذا صحَّ تخمين أن الزوجة كانت أمية، ربة بيت، وبدوية، فزواج الاثنين ربما لم يكن نهاية سعيدة لعلاقة عاطفية سابقة بينهما، بل كان استجابة لأمر أبوي الزوج أو تلبية لنداء ابنهما، وقد تكون أمه وأخواته هن اللواتي اضطلعن بدور الصيرفي القديم؛ مثلما كان هذا يجيد تمييز الصالح من النقود عن زائفها، أجدن هنَّ الأخريات انتقاء «أفضل» بنت لقريبهما من بين حشد البنات «غير الصالحات». ولكن طريقة ارتداء الزوجة أفصحت أيضا عن أشياء أخرى:
سواء أكان الزوج هو الذي أذن لزوجته بـ «نصف السفور»، هذا، أم هي التي أخذت المبادرة، فنحن أمام زوجين ينتميان، بمعنى ما، إلى فئة الأزواج الذين تعج بهم أحياء المدينة الشعبية:
يملك الزوج حق رؤية من يشاء من النساء، لكنه يحرصُ في الآن نفسه على عدم وضع زوجته في مرمى أعين الغرباء. وقد يمضي الرجل المتطرف من هذه الفئة إلى ما هو أبعد، فيصطحب معه زوجته إلى الشارع وقد احتجبت تماما إلى أن صارت شبحا أسود، إذ لا ترى منها عينٌ ولا يد ولا قدم ولا أي شيء، في حين قد يمشي هذا الزوج نفسه رفقتها وقد حلق شعره بآخر تقليعات حلاقة نجوم كرة القدم والغناء، وارتدى سروال دجين قصير يُظهر الساقين ونصف الفخذين، وقميصا رياضيا، ووضع في عينيه نظارتين شمسيتين أنيقتين! وهو ما عبرت عنه إحدى النكت البليغة الشائعة في بعض مواقع التواصل الاجتماعي:
«شيطان دخل جسم رجل عربي وطلع بسرعة، سألوه: ليش طلعت؟!
قال: الله يخرب بيته، دوخني وجاب لي الجلطه: الصبح بيسرق، والظهر بيجري ورا النسوان؛ شايل سبحة بيسبح بها في النهار، وبيرقص بيها في الليل. علي الحرام ما كنت عارف هو اللي ساكن في ولا أنا اللي ساكن فيه.»
لكن زوجَي المطعم يختلفان عن هذا الصنف في كون الزوجة ليست محتجبة تماما، لأنها أظهرت ذراعيها وصدرها. إن كانت هي من بادرت إلى هذا السفور المحتشم، فربما فعلت ذلك تشبها بالنساء الحضريات، لتغمض عيني زوجها عنهن وتمنع سطو إحداهن عليه. أما إذا كان الزوجُ هو من شجع زوجته على هذا الظهور، فهو باختياره هذا يعبر عن رغبة مزدوجة: يريد زوجته أن تكون عصرية، لكنه يريدها أيضا أن تكون تقليدية، يريدها أن تكون سافرة ومحتجبة في آن واحد! أن تظهر في الفضاء العام وهي مختفية، وأن تختفي فيه وهي ظاهرة!
أما أن تكون الزوجة حُبلى ومولودها الأول لم يتعلم المشي بعدُ، فهذا يشي بأنَّها ربما استعجلت تثبيت خيمتها بأوتاد خشية أن تذروها الرياح أو العواصف: لقد استثمرت في الإنجاب اجتنابا للطلاق، عملا بالمثل الشعبي القائل «المراة بلا اولاد بحال الخيمة بلا اوتاد» (المرأة بدون أبناء كالخيمة بدون أوتاد)! وهو ما يبدو أن الزوج لا يشاطره من خلال تجهمه وعبوسه. إذا صحًّ هذا، كان هذا الرجل، مثل العديدين، لم يأخذ زواجه على محمل الجد في البداية، بل تزوجَ بفكر غائم، فكان بمثابة من تطوع لقيادة سفينة دون أن يعلم إلى أي وجهة سيقودها ولا في أي مياه سيُبحر ولا في أي ميناء سيرسو!
كنتُ على وشك إنهاء وجبتي، عندما وقف الزوج، واتجه خارج المطعم بخطو بطيء، يشبه التسلل، تاركا خلفه زوجته وابنه جالسين. ربما لشراء سجائر بالتقسيط، ولكن التدخين هنا ممنوع. ربما لشراء زجاجة ماء، لكن الماء متوفر هنا. ربما لتحية صديق، ولكن الزوج سائر نحو وجهة بعيدة. ترى لماذا خرج؟ تساءلتُ دونَ أن أنتظر للحكاية بقية.
أديتُ مستحقات وجبتي، غادرتُ.
*
* *
نهاية الشارع، وها هو صاحبنا واقفٌ في ركن إحدى البنايات مع فتاة سبق أن مرَّت للتو بجانب المطعم. كانت ترتدي ملابس مثيرة لا تجرؤ على الخروج بها إلا البنات الصغيرات، وبائعات الهوى الثريات، أو بنات الأغنياء، في فضاءات محدودة جدا داخل المدينة. تظهر الواحدة منهن وقد صرحت بممتلكاتها، لكنها سرعان ما تلوذ بسيارتها وتنطلق، فيتضح أنها لم تخرج إلا لقضاء غرض ما، في دكان أو محل تجاري أو غيرهما…
لو حضرت الزوجة الآن لبدت كأنها والدة تلك الفتاة أو خالتها أو عمتها! استغرق الزوج في الحديث مع البنت، بوجه بشوش، تتخلله ابتسامات، بل وكذلك قهقهات، وضربُ كل محادث بكفه على كف محادثه، بين لحظة وأخرى، وغير ذلك مما لا يصدرُ إلا عن شخصين بينهما علاقة حميمية. وباختصار، فقد خلع صاحبنا هيئة وارتدى أخرى، أبدته شابا يافعا أو مراهقا، بخلاف ما كان عليه قبل قليل عندما كان في المطعم رفقة ربة بيته. لحظات، وها هي بنتٌ أخرى تلتحق بالاثنين، ارتدت القادمة ملابس شبيهة بصاحبتها، باستثناء الألوان، طبعت على خذي صديقتها قبلة فاترة، في حين وثبت على وجه الزوج كطفلة صغيرة، بالطريقة نفسها التي كانت تحيي بها بنات الملاهي الليلية أحد أصدقائي كلما جاء من الرباط إلى مكناس، حيث كان يعمل مرة في الأسبوع:
كان يصل إلى أحد الملاهي الليلية في وقت مبكر، قبل أن تبدأ وفود حجاج المكان تقاطرها عليه ويعج بالهرج والمرج، فيكون الفضاء خاليا تماما إلا من جماعة بنات انزوينَ في ركن، فما إن تقع أبصارهنَّ على صديقي حتى يتجارين نحوه، وهنَّ يصرخن:
– حميد! حميد! حميد!
كل واحدة تغرق وجنتيه بالقبلات، ثم يحطن به، من اليمين والشمال، ويتسابقن على أيهنَّ تحظى بتأبط ذراعه، ثم يتآزرنَ على لصق ثلاث موائد، بوضع إحداها بمحاذاة الأخرى، وإحضار كراسي، فتصبح الموائد الثلاث شبه مائدة واحدة كبيرة، كأنها طاولة اجتماع إداري، وهيتَ لجيوش زجاجات النبيذ… كان حميد يشفق عليهنَّ، ويُغدق في العطاء، دون أن ينتظر أن يكون المقابل طيرانا في الماء ولا غوصا في الهواء. لم يسئ لإحداهن أبدا، ولا اعتبرها عاهرة أو امرأة فاسدة، كان يردد دائما: «لكل واحدة ظروفها»، وبذلك حظي عندهنَّ دائما بمنتهى التقدير والاحترام. وبالفعل، فقد كانت لبعضهن ظروفها الخاصة التي ساقتها إلى الخمارات، بهيأة بائعة هوى أو نادلة أو مجرد ساقية، وهذا نادرٌ جدا… ومنهنَّ من أخرجت من «دورة صرف المياه الصحية» أبناء ناجحين في المجتمع، بعيدين عن كل البعد عن منبتهم الأصلي. من ذلك إحدى ساقيات خمارة رفائيل:
امرأة متقدمة في السن، لم تحظ فقط باحترام كل مرتادي الحانة، رجالا ونساء، بل حظيت أيضا بلقب «أمي»، فكانت لا تنادى باسمها الشخصي إلا مسبوقا بأسمى نعوت قرابة الدم. ومن العمل في الحانات، وفرت لابنتها مصاريف الدراسة إلى أن بلغت السلك الثالث. في غمرة انشغال البنت بتحضير أطروحتها، كانت الأم تديم سؤال هذا الأستاذ أو ذاك:
– هل لديك المرجع الفلاني؟
– أي عناوين تصلح لتحرير الفصل الفلاني؟
وكان حميدٌ أحد أكثر من أعطى لتلك السيدة كتبا بسخاء…
بعد أداء طقس التحية والعناق، اتجه الزوج إلى متجر، وخرج وهو يحمل في يديه علب سجائر مالربورو أو وينستون، ثم لاذ الثلاثة بأول حانة. كان لحميد عذر أنه كان أعزب، ولكن ما عُذر هذا الزوج الذي ترك زوجته وابنه في المطعم، وجاء إلى هنا ليعيد تمثيل دور ذلك الصديق؟ تساءلتُ، قبل أن ينتشلني صديقٌ لم أره منذ وقت مدة طويلة، ويدعوني لفنجان قهوة في مقهى تصادف أنه كان يوجد مباشرة قبالة البار الذي دخله الزوجُ وصويحباته…
توقعتُ أن يخرج الزوجُ، بعد بضع لحظات تاركا البنات هناك، على موعد أن يرجع بعد قليل، بعد أن يعيد زوجته وابنه إلى البيت، فإذا بتوقعي يخيب. من باب الخمارة، بدا الزوج جالسا فوق أحد كراسي الكونتوار، وقد أحاطت به البنتان؛ من اليمين ومن الشمال، كلتاهما وضعت يدا على كتف، وسحابة دخان كبيرة تعلو رؤوس الثلاثة، وزجاجات خمور مصطفة أمامهم. أيقنتُ أن صاحبنا قد ترك نهاية حكاية زوجته وابنه في المطعم مفتوحة على كل الاحتمالات، كما يفعل الكاتب الذي لا يزعم امتلاك أي يقين، فيترك لخيال القارئ حرية أن ينهيها كيفما شاء، مع اختلاف أن صاحبنا نبغَ في جعل بداية قصته مسبوقة بكل الاحتمالات والتخمينات، ملقيا على قارئ نصه عبء البحث عن الفقرة الغامضة البيضاء التي سبقت بقية النص وهي أنه حلَّ بأحد مطاعم وسط المدينة مرفقا بزوجته وطفلهما الصغير الذي يتعثر في خطواته الأولى. نزلا من سيارة ركنت على جانب الرصيف المقابل للمطعم. وأوَّل ما أثار في الزوجين قامتاهما الطويلتان على نحو مُلفتٍ؛ «طويلا النجاد رفيعا العماد»، ما شاء الله، لو صعدا إلى حلبة ملاكمة لأمتعا المشاهدين بواحدة من مباريات القرن!…
*
* *
لاحقا، صادفتُ الزوج مرتين يروي مشكلته مع زوجته في شريطين بموقع اليوتيوب: في الأول تنكر في هيئة رجل مصري من القاهرة، وفي الثاني في صورة تونسي جاء يشكو زوجته لمكتب «الجمعية التونسية للدفاع عن الرجل». قال في الشريط الأول:
«اختارها لي والديَّ، لحسن خلقها، وسمعة أهلها الطيبة لأهلها، فتزوجتها على سنة الله ورسوله. مرت السنوات الأولى معها رائعة، أظهرت لي طوالها حبا كبيرا، وتعلقا شديدا، فلم ترفض لي طلبا ولا اعترضت لي على رأي، لكنها ما إن أنجبت الابن الأول حتى تغيرت بـ 380 درجة: أصبحت لا تهتم إلا بابنها، تتجاهل وجودي في البيت، لا تعطيني حقوقي في الفراش إلا بعد أن أطلب وألح في الطلب إلى أن ينتابني الإحساس بأني أتسوَّل حقي الشرعي. وعندما تأتي إلى الفراش، لا تتجمل ولا تتعطر، كما كانت تفعل من قبل؛ تأتي بلباس المطبخ، وروائح الثوم والبصل والكزبرة والبقدونس تفوح منها فتخمد رغبتي، ثم تتمدَّد دون أن تشاطرني أي شيء. أكثر من ذلك، بدأت تستعجل قيامي عنها وكأنها ستتخلص من عبء ثقيل… وباختصار، فإنها بمجرد ما صارت أمًّا، وحبلت للمرة الثانية، تحولت إلى وحش بقرنين، لأنها اطمأنت إلى أني لن أستطيع تطليقها بسبب عجزي عن توفير المستحقات المالية التي سيفرضها علي القضاء، فدفعتني بذلك دفعا إلى خيانتها، إذ لم أجد أمامي أي خيار آخر سوى البحث عن صويحبات سريات…».
في غياب رواية زوجته لسبب خلافهما المزعوم، لا يمكن طبعا تصديق هذه الرواية كليا، لاسيما أنَّها من النوع الذي يروج كثيرا، سواء على شكل وقائع جرت بالفعل، حسب رواتها، أو على شكل نكت، مما يفيد وجود ميل لدى الرجال العرب إلى اعتبار تقتير الزوجات العربيات على أزواجهن في الفراش سلوكا شبه عام لدى نساء المجتمعات العربية المتزوجات، شأنهن في ذلك شأن العاهرات، بخلاف الخليلات. ومن النكت الرائجة في الموضوع:
«الزوجة: بعد الاستلقاء في الفراش، تقضي شغلها وهي مستغرقة في تأمل سقف غرفة النوم تتساءل: متى سيعيد [ = الزوج] صباغة الجدارن؟
المومس: تنجز عملها وهي تتساءل: متى سيُنهي [ = هذا الزبون] شغله ويؤدي لي مستحقاتي [ = المالية]؟
الخليلة: تؤدي شغلها في الفراش، وهي تتساءل: متى سيزورني [ = حبيبي هذا] المرة المقبلة؟!»
أما في الشريط الثاني، فقد قال الزوج:
«اختارها لي والديَّ، لأخلاقها الحسنة ولسمعة أهلها الطيبة، فتزوجتها على سنة الله ورسوله، فوجدتها كذلك بالفعل في السنوات الأولى من زواجنا، إذ أظهرت لي حبا كبيرا، وتعلقا شديدا، وأغدقت عليَّ نعيمها، لكنها بمجرد ما وضعت المولود الأول تغيرت بـ 180 درجة: أصبحت لا تعطيني حقي الشرعي إلا بمقابل مادي، فخصصت لذلك كناشا، تدون فيه عملية التحليق، ومدتها، ودرجة علوها…: هذه بعشرين دينارا، وتلك بثلاثين، والأخرى بخمسين، وما إلى ذلك، وفي نهاية كل شهر تجمع الحسابات، وتطالب بمستحقات الفراش، فما عدتُ أعرفُ هل أعيشُ مع زوجة أو بغي… إذا امتنعتُ عن التسديد هدَّدتني بالذهاب إلى بيت أبويها ورفع شكاية ضدي للمطالبة بالطلاق ومستحقات حضانة الأبناء…»
قلتُ: إن كان الزوجُ صادقا، فحظه تعيسٌ جدا لأن ربة بيته نجحت في إخفاء ما زل به لسان عروس صبيحة الزفاف، وتحول إلى نكتة تتداولها الألسن:
«مر العرس على أحسن ما يُرام، بما في ذلك الليلة الأولى، لولا أن لسانها زلَّ، فخاطبت زوجها في الصباح قائلة: «هات مستحقات ليلة أمس!».