تجدد لقائي يوم أمس افتراضيا بصديق لي بعد انقطاع خبر كلانا عن الآخر منذ مستهل تسعينيات القرن الماضي في أعقاب ليلة ليلاء جمعت وقتذاك ثلة أصدقاء من أهل الإبداع والفكر والصحافة، فكان طبيعيا أن يكون اللقاء الجديد حارا، وأن يستفسر هذا عن أحوال ذاك وعمَّ استجد في حياته خلال كل تلك المدة، فإذا بحال صاحبنا كالتالي:
له الآن زوجتان: واحدة، وهي أولاهما، تعيشُ داخل المغرب، أنجب منها أبناء، الثانية خارج المغرب لم يُزرق منها أولاد، وهو يمضي وقته الآن متنقلا بين المغرب وخارجه، يقضي ثلاثة أشهر هنا في المغرب وثلاثة أشهر هناك في فرنسا. بالإضافة إلى ذلك، فهو مرتبط الآن بسيدة أصغر بكثير من السابقتين وأجمل منهما بكثير، على حد تعبيره، فهل تنتهي قصته الجديدة بإقناع الزوجتين لترخصا له دخول القفص الذهبي للمرة الثالثة؟ إذا تحقق هذا، فهل سيُذنب أحد طرفي الرواية ويكون تأنيب الضمير هو فاتورة القبول أم سيهتدي البطل إلى أدوار أخرى؟ أم ستأتي بطلة الفيلم الجديدة، وهي المرأة الثالثة، بما لن يخطر على بال مُخرج الشريط، فيقدم لها الممثلون الثلاثة، وهم الزوج وزوجتاه الأولى والثانية، فروض الطاعة والولاء؟
كان من الطبيعي طرح سؤال ما إذا كان قد تزوج الثانية برضا الأولى، فكان الجواب بنعم؛ إذ حررت بخط يدها وثيقة الموافقة على زواجه الثاني، وهي بذلك لم تقم سوى بتحمل مسؤوليتها كاملة فيما قامت به من قبل، قال الصديق. وما قامت به هو أنه كان مرتبطا بعلاقة حب مع صديقة لها، وكانت هذه على علم بتلك الصلة، ومع ذلك لم تتردد في مراودته، بل أمعنت في المراودة إلى أن أوقعته في شباكها؛ استضافها يوما إلى بيت والديه، وفي غمرة انخطاف اللقاء الذهولي وانتشائه، تبين أنها ساحرة، إذ فعلت به ما فعلت «بيدخت» بالملكين هاروت وماروت قبل أن يُمسخَ الثلاثة ( = الملَكان والمرأة)، فتتحول الأولى إلى كوكب الزهرة وتُعلقُ في السماء، ويفقد الملكان جناحي الصعود إلى السماء، فيعلقان بسور بابل وتوكَل إليهما مهمَّة تعليم الناس السحر، كما يورد معظم مفسري الآية:
«وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيمانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِين كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ…» (البقرة، 102).
سجد صاحبنا في محراب الساحرة كما سجد الملكان لصنم حسناء بلاد فارس من قبل. وتجنبا لأن يُمسَخَ هو الآخر فيجد نفسه وراء قضبان السجن، فقد فرض والداه عليه أن يتزوجها، فامتثل لأمرهما… وبمزيج من الغضب ورغبة الانتقام، رحلت عشيقته إلى بلاد الديك، وتزوجتْ هناك، لكنَّ نار العشق ظلت بداخلها مستعرة، فطلقت زوجها الرومي، بعد مرور عشر سنوات على زواجها به، ثم عادت إلى المغرب طالبة يد حبيبها الأول من زوجته، وهي صديقتها القديمة الخائنة، عملا بمذهب:
نقِّلْ قلبَكَ ما شئتَ من الهوى *** فما القلبُ إلا للحبيب الأول
فما كان من الزوجة إلا أن قبلت إرجاع قلب زوجها لمالكته الأولى، تحت تأنيب الضمير وتوبيخه، فاقتسمت الاثنتان الرجل. ومن باب الاعتراف بالجميل ورده بالمثل، اعتبرت الزوجة الثانية أبناء الزوجة الأولى بمثابة أبنائها، فتكفلت بمصاريف دراستهم، وقسط كبير من متطلباتهم، وربما استقدمتهم مرارا إلى فرنسا ليقضوا عطلهم معها هناك…
لم تنته الحكاية هنا. ربما كان صديقنا اليساري يمهد لتفسير ارتباطه بالقادمة الأخيرة عندما قال:
– لم أكن لأعترف بوجود العشق والحب إطلاقا لو لم يقع صديق لي، في منتصف الخمسينات من عمره، في حب فتاة في سن أصغر بناته، وهام بها إلى أن أقامت في لسانه، فصار يتغنى بجمالها ويهذي بعشقها أينما حلَّ وارتحل… وهو صادقٌ في إحساسه، إذ ترافق الدموع حديثه عنها غير ما مرة. ولحسن الحظ أن الأمور وقفت هنا، فلو تخطت القصة حدود الغزل العُذري لكان الله وحده أعلم بمآلها.
كان معنا صديقٌ آخر، ففسرنا (الصديقُ وأنا) الأمر بما يلي:
قد لا يكون وراء الحكاية كلها سوى مراهقة الخمسينات التي يجتازها العديد من الرجال في هذه المرحلة من العمر، وقد يكون البكاء ليس من شدة التعلق بالبنت الصغيرة، ولكن من قسوة متاريس المنع: ممنوع الزواج بامرأة ثانية دون موافقة الأولى، ممنوع زواج الفتيات قبل سن البلوغ، ممنوع زواج الكهول بالصغيرات، ممنوع إقامة علاقة خارج مؤسسة الزواج… ولولا هذه المتاريس لكان أقل ما يمكن أن يقوم به صاحبنا العجوز هو أن يهرول إلى والدي البنت طالبا يدها، فلا يردا طلبه، فيقيم عرسا على غرار الأعراس الموثقة بأشرطة سمعية بصرية في شبكة الأنترنت، حيث يظهر عرسان مشارقة عجائز في الثمانينات أو التسعينات بجانب عرائس لم تتجاوزن أعمارهن عقدا ونصف…
إلى هذا التفسير أضيف الآن: لو كان سيء الحظ الذي صَرَّف عشقه بالبُكاء ذكيا، وربما أيضا داهية وخبيرا بنفسية النساء، كصديقنا اليساري الإخوانجي، لاجتهد فأبدع ألف حيلة وعلة ليتزوَّج قرينة أصغر بناته، بموافقة زوجته، ولتقدمت ربة بيته وبناته موكب الخاطبات…
قبل صديقنا متعدد الزيجات تفسير لغز العجوز الولهان، دونَ أن يُفصح عما إذا كان هو الآخر يجتاز الآن مراهقة الخمسينات من عمره أم أنه يقدم الدليل القاطع على أنَّه ليس في استطاعة الدين ولا القانون ولا بعض منظمات المجتمع المدني، ولا أي قوة في العالم، أن تحول، سواء في بلادنا أو خارجها، دون وجود أشكال من العلاقات يتفنن في «إبداعها» ونسجها رجالٌ ونساء من داخل الأقفاص الذهبية وخارجها مرتدين أقنعة شتى وبعيدا عن كل القيود…