شاهدتُ اليوم مثالا حيا ودليلا ملموسا على فتنة الماكياج، هذا التجميل الاصطناعي الذي مدحه بودلير في أحد نصوصه ولم يتردد في اعتباره سحرا، بل ربما رأى شاعر الحداثة أنَّ هذا القناع يرفع المرأة إلى مصاف ربات الجمال!
فبعد أن أخذتُ القطار من القنيطرة، جلستُ في مقصورة تصادف أن لم تكن فيها سوى امرأة. كانت تلك المقصورة هي المكان الوحيد في العربة الذي شغرت مائدته الركنية التي أحرص في كل أسفاري على أن تكون في متناول يدي لأضع فوقها ما أصطحبه معي من كتب للقراءة. كانت المرأة في حوالي الثلاثينات من عمرها. جلست وقد وضعت أمامها حقيبة سفر يشي حجمها بأنَّ صاحبتها كانت عائدة من سفر استغرق بضعة أيام أو في سفر سيدوم بضعة أيام، لأن الحقيبة تتسع لأشياء كثيرة وكثيرة جدا…
كانت جارتي ترتدي ملابس عادية جدا: قميص بكمين طويلين حجبا الذراعين، سروال شبه «كولون» أخفى الرجلين إلى الكوعين، فولار حرص على تغطية شعر الرأس بحيث لا تبدو منه شعرة واحدة، «شالٌ» حجب العنق والصدر، وما إلى ذلك، مما جعلها تبدو كأي واحدة من هذه الزوجات اللواتي ينهكهن العمل وخدمة الزوج والعناية بالبيت ورعاية الأبناء أو واحدة من بنات ونساء الحواضر اللواتي يضطررن اضطرارا إلى حجب جمالهن اجتناب التحرش الذي استفحل نتيجة ارتفاع وتيرة الهجرة من الأرياف إلى المدن وزحف الأحياء الهامشية التي يتنشر فيها الانحراف والفقر والكبت والجريمة…
كانت «جارتي» تحمل في يدها هاتفا ذكيا، أولته طوال السفر اهتماما بالغا أوحى بأنها لو خيرت بين فقدان حقيبة السفر والهاتف لاستصغرت خسارة الأولى واستعظمت فقدان الثاني. من القنيطرة إلى الرباط، استغرقتُ في القراءة، في حين كانت المرأة تنام بضع دقائق، ثم تستيقظ، تتثاءبُ أحيانا، ثم تستغرق هنيهة في مشاهدة المناظر الطبيعية من النافذة، ثم تنام مجدَّدا، كأنها بذلك كله كانت تستعجل الوصول.
في محطة القطار الرباط المدينة صعد ركابٌ آخرون، امتلأت المقصورة بركاب جدد كلهم ذكور. وما إن ابتعد القطار عن مدينة الرباط بحوالي ربع ساعة إلى عشرين دقيقة حتى ظهر سرّ حرص المرأة على إمساك حقيبة سفرها بيد والهاتف الذكي بيد أخرى، وانقشع جانب كبير من الضباب الذي كان قد لفها وجعلها امرأة مبهمة من القنيطرة إلى ما بعد الرباط؛ توالت الرنات قادمة من المحمدية ليتضح أن هذه المدينة كانت هي محط رحال امرأة الثلاثينات، وأنَّ الست جاءت من مدينة طنجة، وأنَّها كانت طنجاوية، وأن من هَاتفها أكثر من مرة كان رجلا يسكن في مدينة المحمدية، وأنه كان ينتظرها على أحر من الجمر، ما يفسح المجال أنّ علاقة الاثنين كانت صلة عشق وغرام توِّجَ أخيرا بوصال للمرة الأولى.
ثم فجأة أخرجت المرأة من حقيبتها اليدوية (لا حقيبة السفر) مرآة صغيرة. تأملت وجهها مليا في المرآة، فأخرجت شبه مقلمة، مملوءة بلوازم الماكياج، واستغرقت في تجميل وجهها، وهي تحرك المرآة ببطء واضعة إياها قبالة كل جزء من أجزاء الوجه، كأنها تفحصه بميكروسكوب إلكتروني. قادها ذلك البحث إلى الإمعان في تجميل الحاجبين؛ أتقنت تشذيبهما بحيث لم تترك فيهما ولو زغيبة واحدة سائبة. بعد ذلك، خلعت الفولار، فإذا بشعر رأسها قصير، سرحته جيدا، وعيناها مسمرتان في المرآة، ثم خلعت القميص الذي كان يغطي اليدين إلى الكفين، واكتفت بشبه قميص كان تحت القميص الأول؛ كشف القميص «الجديد» الذراعين، والقسم الأعظم من الصدر إلى حاشية النهدين، وجزءا صغيرا من البطن. بعد ذلك، استأذنتْ في الذهاب إلى بيت النظافة. لحظات، وها هي تعود بساقين عاريتين، بعد أن خلعت الـ «كولون». قامت بذلك كله دون إيلاء أدنى اكتراث للجالسين:
وقف القطار في المحمدية، وها هي تقف وتستعد للنزول، بهيأة ساحرة جذابة خلابة لا علاقة لها إطلاقا بالمرأة التي كانت إياها منذ أن ركبت القطار في طنجة: كأنها خلعت هيئة ولبست أخرى، أو «كأنها ربة جمال نزلت للتو من أولمب الإغريق»، كان سيقول بودلير بالتأكيد لو رآها…
أما أنا، فقلتُ: يمكن أن تكون كل شيء سوى أن تكون «ربة جمال»، ثم استحضرتُ ملاحظاتي حول العلاقة بين الجنسين التي دونتُ العديد منها هنا، فإذا بالمرأة تقع فيها، فتتبخر وتتلاشى في بخار الاحتمالات كما تتلاشى الكواكب والنجوم في الثقوب السوداء . من تلك التدوينات:
يبدو أن مشكلة السواد الأعظم من المغاربة هي مسألة «لحمية» في المقام الأول. اللحم لحوم، كما هو معلوم، لكن الشغل الشاغل لسوادنا الأعظم لحمان: لحمٌ يُحرم الناسُ منه فلا يصلون إليه إلا في العيد الأضحى، ولحمٌ يحرمون أنفسهم منه مع أنه في متناولهم على مدار العام!
***
من أسطع علامات غيَاب مفهوم الزّوج le couple في العَالم العَربي، وعدم الاعتراف به، بل ورُبّما حتّى حظره وطرده، كونُ أوَّل مَا يَقوم به الزّوجَان بَعد الاقترَان ببَعضيهما هُو إنجَاب أطفَال، كأنّ هذا الإنجاب طريقة لتحَاشي أن يُنظرَ إليهما بأنهما اجتمَعا للحب والمُتعَة الجَسَدية لا غير. كأنَّهما، من خلال هذا الإنجابِ، يُخاطبان الجميعَ قائلين: إنَّ هذا [= إنجاب الأبناء وتربيتهم] هو ما يجمعُنا وليسَ ذاكَ [= الحبّ والمتعة]! وقد يسخر الزوجان اقترانهما بالفعل لأداء هذه الوظيفة حصرا، وهيتَ للكبت والخيانة الزوجية والأمراض والعقد النفسية!
***
عموما، تبدأ العلاقة بين الجنسين في المغرب، التي تنتهي بنهاية «سعيدة» هي الزواج، تبدأ حداثية، لكنها تتجه تدريجيا نحو التقليد: يتعارف زوجا المستقبل ويرتبطان بعلاقة خارج الأعراف والتقاليد، غير معترف بها اجتماعيا وعائليا وقانونيا، يرتكبان فيها غالبا المحظورَ المعلوم من وجهات نظر ثلاث (المجتمع، والعائلة، والقانون): المباحَ من وجهة نظر الحداثة التي تعتبر تلك العلاقة أحد حقوق الفرد المشروعة. لكن، ما إن يحل موعد الاقتران حتى تأتي فروض «الصّداق»، وֿ«جوج من الحاجة»، و«خيمة العرس» أو «قاعة الأفراح»، و«النكافة» (المزيِّنة)، و«الطبالة والغياطة»، و«العمارية»، وما إلى ذلك من الأمور الغارقة في التقليد التي تضرب الحداثة السابقة في صفر.
***
يُعادلُ ركوبُ «العمَّارية» عند معظم البنات المغربيات، وربما الزواج لدى العربيات عامة، بُلوغَ سدرة المنتهى، ولا يهم ما يقع بعد ذلك. التواطؤ هنا قائم بينهن وبين المجتمع دون أن يتساءل أحدهما عما إذا كانت جميع الإناث قد خُلقنَ لهذه «العمارية» ولهذا الزواج أصلا ولا عما إذا كانت هذه «العمارية» قد صُنعتْ لتركبها جميع الفتيات وعما إذا كان الزواج قد أنشئ لجميع الإناث… ومع أن هذه هي حال معظم من لم يركبنَ هذه «العمارية»، ويتزوجن، طوعا أو كرها، فالجميع يتحاشى طرح مثل هذه الأسئلة، لأن حب «العمارية» والتعلق بالزواج أقوى…
***
في صلة بتدوينة سابقة هنا (الدين والجنس عند العرب وجهان لعملة واحدة)، ما وراء هذا التهافت على الجنس عندهم، لا جنسَ يُمارَسُ في الحقيقة. الجنس الحقيقي عندنا لا يمارسُ عادة إلا مسروقا أو منهوبا، على حافة الخطر، بل ويقدمُ أيضا رشوة مقابل مصلحة… ويبقى على علماء الاجتماع المتخصصين في العلاقة الحميمية إيجاد اسم للإشارة إلى ما يمارسُ باسم الجنس في مجتمعنا دون أن تكون له صلة به على الإطلاق!
***
الجنسُ والدِّينُ عند العرب وجهان لعملة واحدة: إدمانُ الطقوس الدينية ولا تعبد: لا يتجلى الدينُ في الحياة اليومية، وإدمانُ ممارسة الجنس ولا إشباع: لا تصل اللذة الجنسية إلى الدماغ…!!!
***
حدثني أحد أصدقائي المتزوجين قال:
«ارتبطتُ بواحدة مطلقة، مدة من الوقت، وأدخلتني جنتها، فقطفتُ ما شئتُ من ثمارها الدانية. وبعد حين، دخلت صاحبتي في مساومات الزواج، لما يئست قالت لي:
«إن أردت أن أستقبلك مجددا، فاحضر والدك ووالدتك، وجماعة خطاب. أيضا، يجب أن تفكر جيدا في أمر الصداق. لن يقبل والدي أقل من مليوني سنتيم. والعرس، لازم أن يكون في القاعة الفلانية، وأن تتألف الأجواق الموسيقية من الفرقة الفلانية والفلانية والعلانية، دون نسيان الفرقة العيساوية. لا تنازل عن هذه!» »
وما إلى ذلك من شروط «الخزيرات» ( = الجزيرة الخضراء) التي شهرتها صاحبته في وجهه؛
وحدثني آخر قال:
«ارتبطت بي مدة، وأغدقت عليَّ من نعيمها بدون حساب، ثم جاء يوم المكاشفة، فاختارت أن تكون عبر الواتساب:
– متى تتزوجني؟
– لكني متزوج يا سيدتي!
– لا يهم، أنا لا مانع عندي.
– ولكن من غير المنطقي ولا الأخلاقي أن أتزوجك وأنا أب بنين وبنات!!!، ثم إني أحب زوجتي!!
صرخت في وجهي:
– بلوكينيييييي! بلوكينييييي! = احظرني! احظرني = احذفني من قائمة اتصالاتك».
حَدَّثَ ثالث، قال:
«ارتبطت بإحداهن، فأوتني شهورا، وتعلقت به إلى أن نادتني بـ «مولاي»، و«سيدي»، و«معبودي»، وما إلى ذلك مما يشيع على لسان الصوفية، ثم هاتفتها يوما، منتظرا أن تدعوني إلى بيتها كالعادة، فإذا بها تفاجئني بصوت خفيض:
– إياك، ثم إياك أن تكلمني ثانية! لا تكلمني بعد اليوم!».
سألني الصديق عن السر، فقلتٌ له:
– الأمر واضح وضوح الشمس: كانت تريدك للزواج، ولما يئست زواجكَ، بحثت عن شخص آخر الراجح أنها كانت تأويه لما هاتفتها كما أوتك من قبل، وأنها كانت تناديه بما نادتك به من قبل!
ثم استشهدتُ له بمقطع من إحدى الروايات، ورد فيه:
«دوَّخني حكيها عن مغامراتهن: من الأستاذة الجامعية التي بلغت في المغامرة مع الرجال شأنا جعلها تكون سائرة في الشارع فسيتوقفها رجل للتحية، فلا تذكره، ويضطر المسكين لصرف ربع ساعة أو نصفها في استعادة تفاصيل الأسامي وجزئياتها، ظانا أنها ستتذكر فيه ذاك الرجل الذي أدخلها النعيم ليلة ساقته إلى فراشها وأذاقها «طعم فاكهة لم تذقها مع أي رجل من قبل»، على حد تعبيرها، منتظرا أن تعانقه وتغرق وجهه بالقبلات وتدعوه مُجددا إلى الفراش، ولكنها ما تتعرف عليه حتى تتنكر له قائلـة، وتجيبه ببرودة من ثلج قائلة:
– آه أنت؟! الآن تذكرتك، كيف أحوالك؟ كل شيء على ما يرام؟ إلى اللقاء. تحياتي» .