القط الأصفر رابع قطط البيت في الترتيب حسب تاريخ التبني، كان تبنيه في غاية السهولة، بل لم تكن لي نية في إحضاره إلى المنزل لولا إلحاحه؛ فقد كان جالسا في رصيف مقهى عندما كنتُ عائدا ذات مساء إلى البيت، ناديتُه:
– بش بش، بش بش!
وكان قصدي مجرد أن ألمس رأسه وفروه، ثم أواصل السير. حسبتُه مِلكا للمقهى، لكن اتضح أنه كان بخلاف ذلك؛ لم يستجب فقط لندائي، بأن جاء واستحلى اللمس وانحنى، بل تمسك بي، وأخذ يمسحُ ساقيَّ بفروه. حملتُه، فإذا به يستحلي الحمل، ويستغرق في الشخير الذي لا تقوم به القطط عادة إلا عندما تكون في غاية السعادة والاطمئنان أو قبيل النوم بجوار مربيها، خاطبته:
– هل ترغب في الذهاب معي؟
أجابني نادل المقهى الذي اتضح أنه كان يراقب المشهد على بعد خطوات:
– خذه إن شئت، فهو ليس لأحد، خذه وأحسِنْ إليه!
– لا عليك، عندي ثلاثة قطط، سيكون رابعهم، وسيسعد كثيرا برفقتهم…
– …
في البيت، اتضح أن القط كان في غاية الذكاء؛ تدبَّرَ أمر اجتياز طقس «الترحيب المهين» الذي تخصصه قطط البيت عادة لكل وافد جديد، فقطعه في وقت قياسي وبمنتهى السلاسة؛ مثلما يكره الطفل كراهية شديدة مولود أبويه الجديد، خشية أن يأخذ مكانته، فيعبر عن كراهيته بالبكاء الشديد، وربما حتى بالسعي لإيذاء أخيه أو أخته فعلا، فلا ينقلب ذلك النفور إلى قبول وحب إلا بعد مرور وقت طويل، كذلك تكره القطط كراهية شديدة حلول أي قط أو قطة جديدين بالبيت؛ ما إن تقع أعينها على القادم حتى تتوجسُ منه، تبتعد عنه، ثم تستغرق في إطلاق أصوات التحذير:
– ععع، عععع!
– خخخخ، خخخخ!
وهي متأهبة للانقضاض عليه، ما يبادله الوافد الجديد عادة بالتنحي في مكان ما بالبيت، وإطلاق الأصوات نفسها، والويل كله لمن سولت له نفسه أن يدنو منه! ومع ذلك لا يتردد بعض الذكور في التحدي، لاسيما أكبرهم سنا؛ يحرص حرصا تاما على تبين جنس القادم الجديد، فيتجه نحوه بحذر شديد سعيا لشم رائحة مؤخرته، ويسخر كل الطرق والوسائل لحسم الأمر بأسرع وقت ممكن، والخروج من ضباب «قد يكون» و«قد تكون» إلى جلاء اليقين…
اجتاز الوافد الصغير «طقس الترحيب» في وقت قياسي، وأبدى شجاعة منقطعة النظير، إذ هزمَ كبير القطط الذي يصول ويجول في البيت… هزمه أو تظاهر الثاني بالهزيمة من باب إبداء الإعجاب بـ – والانبهار من – جرأة هذا القادم الجديد الذي، رغم صغر سنه وضعف بنيته الجسدية، لم يتردد في المغامرة بحياته، فأشفق عليه وتظاهر بالهزيمة، واتخذه منذ ذلك اليوم أعز أصدقائه في البيت، لا يلاعب سواه… اجتاز الوافدُ ذلك بسرعة، واكتسب ودَّ القاطنين الثلاثة، فأصبح رابع أربعة، يبلو بلاء حسنا في اللعب والنط والقفز، وما إلى ذلك، وصارت باقي قطط البيت تتهافت على مداعبته وملاعبته والاستمتاع بحركاته البهلوانية…
*
* *
لكن، بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر أو أربعة، أصبح له رأي آخر: كلما فتحتُ باب المنزل استعدادا للخروج، تدبَّر أمر التسلل لمغادرة البيت. تارة أراه فأتبعه وأعيده، وتارة لا أراه، فيصادفه هذا الجار أو ذاك، هذه الجارة أو تلك، أو ذاك فيحمله من صادفه، ويطرق بابي:
– هاكَ قطك! وجدتُه في الدرج!
– هاك قطك، وجدته في سطح العمارة!
– هاط قطك، كان في مرأب السيارات!…
قلتُ: قد يكونُ سببُ هذا التحول استيقاظَ هرمونات صاحبنا الجنسية على غرار ما يتم لدى الشاب أو الشابة الآدميين عندما يبلغان سن المراهقة، فتفطن الفتاة، على سبيل المثال، لأول مرة في حياتها إلى أن لها من الممتلكات ما يليق التصريح به، فتشرع في ارتداء الملابس القصيرة، والسراويل الضيقة، والثياب التي تظهر مفاتنها الجسدية، كما تشرع في تصفيف شعرها بمنتهى العناية، وطلاء وجهها بالماكياج وتلوين شفتيها بأحمر الشفاه، وما إلى ذلك مما يبيحه لها والداها. إذا لم يأذنا لها به، فقد تتدبر أمر القيام به بعيدا، في الخفاء، فيكون تصرفها ذاك طريقة ربما تقول بها، لا شعوريا:
– ها قد كبرتُ! ها قد نضجتُ!
وتكون رغبتها اللاشعورية هي الإفتان والإغراء… وقد يتأتى لها ذلك، وقد لا يتأتى. وفي الحالتين معا، يكون اجتياز هذا الطقس للعبور أمرا لا مفر منه، وقد يكون المرور آمنا وقد يكون خطرا. فقد يُفضي بهذه الفتاة إلى بر الأمان ويلقي بتلك إلى التهلكة. كل وحظها ومدى يقظة أبويها للوحش الذي يستيقظ من داخل تلك المخلوقات المجهرية القاطنة في أجسادنا جميعا، إناثا وذكورا، دون أن نفطن لوجودها أو نفهم لغتها أو حاجياتها عموما التي تعبر عنها من خلال تواصلها ليس فقط فيما بينها، بل وكذلك مع العالم الخارجي في غفلة منا…
احتملتُ وقوع هذا، من قبل، فوضعت رهن إشارة القطط الثلاثة أنثيين: واحدة على وشك البلوغ، وثانية لازالت صغيرة لكنها بعد حوالي ثلاثة أشهر فقط ستصبح فاكهة ناضجة جاهزة للأكل…
ولكن القطة التي أشرفت على البلوغ كان لها رأي آخر: وقعت في غرام الحارس الليلي، وهو القط الأسود، ربما لأنه القط الوحيد الذي تماهى مع مربيه إلى أنْ أصبح يستعجل الخروج من هيأته القطية إلى أخرى آدمية؛ فهو لا يتواصل فقط جيدا من خلال حركات الجسد، بل يكاد ينطق بالحروف والكلمات، وما يخونه في سلامة النطق سوى أن الحرف الوحيد الذي يركب به الكلمات يشبه الميم أو النون فيخرج غنَّة من الطابق العلوي للحلق، فتكون مكافأة سعيه للكلام طبعا هي نيل عناية كبيرة مني… لا تأذن القطة المذللة لحكيم البيت، وهو كبير القطط، ولا لبطل النص الحالي، وهو القط الأصفر، أصغر القطط وأحدث الوافدين، لا تأذن لهما بمجرد الدنو منها، فأحرى أن تقع في فخ أغرودة استدراج أحدهما إياها. لم ينفع الحكيم تهديد ولا مطاردة ولا وعيد، رغم انتفاخ عضلاته وضخامة جثته، وقوته الخرافية، فلم يجد بدا من قبول الأمر الواقع؛ أصبح ناسكا منطويا على نفسه، يبتعد عن الجميع، ويكتفي بمراقبة ما يجري ويدور من بعيد، لكنه شرع في الآن نفسه ينتقم من الحارس الليلي شر انتقام كلما تأتت له الفرصة…
ما علينا، قلتُ، بمرور الوقت قد تنتهي الجماعة إلى تسوية ما، فيتنازل هذا لذاك، أو تشفق هذه على الآخر، أو يمل أحدهما فاكهة شريكه، فيطلب التنويع، وما إلى ذلك، كما يقول بعض كبار ذكور الإنس: «أكلُ الطبق نفسه كل يوم يؤدي إلى الملل»، أو «اللحم تخاوى» ( = تآخى اللحم، أي أصبح لحم الزوج والزوجة أخوين)، وما يشبه ذلك من أقاويلهم لتبرير تنويعهم للخليلات وخيانتهم للزوجات. ولكن قطنا الأصفر كان على عجلة من أمره، فواظب على عادته الجديدة المتمثلة في رغبة الخروج، بل تمادى فيها وأمعن عن سبق إصرار وترصد.
مؤخرا، انسل من الباب، فتبعتُه، لكي أعيده إلى البيت، ولكنه فعل الأفاعيل:
يجري بضعة أمتار، ثم يقبع، أتبعه، ولكن عندما أدنو منه يثب وينطلق مجددا، فيقطع بضعة أمتار جريا، ثم يتوقف ويقبع، أوشك أن أمسكه، يثب وينطلق مجددا، وهكذا دواليك: من طابق لآخر، من درج لآخر…؛ عندما أدركُه في الأسفل، وأكادُ أن أمسكه، يتملصُ مني بسرعة، وينطلق إلى الأعلى، وعندما ألحق به في الأعلى يعود إلى الأسفل…، فاجتهدتُ إلى أن أمسكتُه، وعدتُ به إلى البيت. فتحتُ الباب، منتظرا أن يقفز من يدي ويندفع إلى الداخل، لكنه ظل مشرئبا ناحية الخارج، إشارة منه إلى أنه لا يود العودة إلى البيت، قلت له:
– هل تريد الخروج؟ حسنا! هيا بنا، نحن هنا لا نلزم أحدا بالبقاء معنا، حريتك أغلى وأثمن!
*
* *
غادرتُ البيت حاملا إياه بين يدي، فإذا به فرحٌ مسرورٌ على امتداد الطريق الفاصلة بين الإقامة وفيللا مهجورة في الحي، يحيط بها سورُ تخللته دوائر إسمنتية جعلها البناؤون شبه شباك لتلك الإقامة التي اتخذتها عشرات القطط مسكنا لها، فأصبحت بمثابة مجمَّع سكني لهذا النوع من النوارس، مليء بالآباء والأمهات والأبناء وربما حتى الأحفاد والحفيدات، من كافة الأنواع والألوان والأحجام والأشكال، شجعها على ذلك أمران:
الأول الطعام الذي يوفره لها بعض سكان الحي، إذ نادرا ما تمر بجانب تلك البناية دون أن تصادف شخصا يُطعم حشد القطط القاطنة فيها؛
الثاني وجود حاويتي أزبال كبيرتين في حاشية أحد شوارع الحي يفرغ فيهما سكان العمارات المجاورة نفاياتهم المنزلية، فتمتلئان عن آخرهما في المساء، لكن شاحنة النظافة لا تأتي لإفراغهما إلا بعد منتصف الليل… ومع أن السكان يحرصون على رمي الأزبال داخل الحاويتين، فإنه ما إن ما ينزل الظلام حتى تفد أفواج «الميخالة»: هذا بدراجة نارية ثلاثية العجلات، وذاك بعربة مدفوعة باليدين، وثالث بعربة يجرها حمار أو بغل، وما إلى ذلك، فيتعاقب المنقبون الليليون على إخراج أحشاء الحاويتين وتقليبها بالمجهر لاقتناص ما يمكن العثور عليه من أشياء «نفيسة»، إلى أن يمتلئ الرصيف وقسم من طريق السيارات عن آخره بالأزبال، فتتسابق القطط إلى ركام النفايات بحثا فيه عن الطعام…
أدخلتُ القط من إحدى فتحات الشباك الإسمنتي المحيط بالإقامة المهجورة، دخلَ عن طيب خاطر، ثم جلسَ في الجانب الداخلي للسور. راقبَ المشهدَ قطان من ساحة الفيللا، جريا نحو الوافد الجديد، بدآ طقس «الاستقبال» بالبخبخة والعَعَّعَة والتكشير عن الأنياب وإخراج المخالب تأهبا للوثوب. لم يأبه القط بتهديدهما ولا بوعيدهما. عرضتُ عليه أن يعود إلى البيت، رفضَ: استحلى البقاء، احترمتُ قراره. ودَّعتُهُ ثم عدتُ إلى البيت بشعور مزدوج: حزن على ما قد يصيبه من أذى وسوء هناك؛ ارتياحٌ لأني حررته من اعتقال مُفترض، لاسيما أنَّه من الشارع جاء، ووفد إلى البيت وعمره حوالي شهرين. تحتاج القطط الكبيرة إلى وقت طويل لتتكيف مع متبنيها الجدد ومساكنها الجديدة، بخلاف القطط التي تولد في المنزل أو تتبنى وعمرها لا يتجاوز بضعة أيام، إذ تفتح عينيها في البيت وتعتاد عليه إلى أن يصبح الخروج إلى الشارع يثير فيها فزعا ورعبا حقيقيين…
في اليوم الموالي، أثناء عودتي من التسوق مساء، اتجهتُ إلى الإقامة المهجورة لتفقد أحوال القط الأصفر. ناديته من شباك السور، فإذا به يُجيبُ ليس من داخل البيت الخرب، بل من الجانب الآخر من الشارع. أجاب، وهو جالس في باب العمارة المقابلة للخربة، يستغيثُ:
– مياو! مياو! مياو!
اتجهتُ نحوهُ، تمسَّك بي بالطريقة نفسها التي قام بها يومَ صادفته في الشارع قبالة مقهى، بل وبإلحاح أكبر. حملتهُ، فرحَ وهو ربما لا يصدق أني أحمله، عدتُ به إلى البيت، لم يُمانع ولا استدار إلى الخلف على امتداد المسافة الفاصلة بين الإقامة المهجورة ومنزلي…. بعد الدخول مباشرة، أخذ يتفقد أمكنته القديمة، وأولها مكان الطعام. أكل، عاد إلى وسط المنزل، التفت حوله القطط وهي تفحصه بأعينها فحصا مجهريا، وتحرك رؤوسها، كأنها تسأله:
– أين غبت منذ ليلة أمس يا صديقنا؟
– حدثنا عما جرى لك.
– أين كنت؟
– ماذا حلَّ بك؟
– لماذا غادرت البيت؟
– لماذا عدت؟…
ومن خلال مداعباته وإشاراته، بدا أنه كان يجيبها بالفعل عن أسئلتها على نحو ما. من يدري؟ فلبعض الحيوانات طرقها في تبادل المعلومات، من ذلك أنَّ الفأر الذي يقع في فخ طعام مسموم، يُخبرُ باقي الفئران بما جرى له، فلا يتناولون السمَّ بعده أبدا ولو اعترض سبيلهم شهورا، فلا ينفع أهل البيت السعي لإبادة الفئران بهذه الوسيلة…
منذ ذلك اليوم، كف القط الأصفر عن التسلل إلى خارج البيت، بل صرتُ، لحظة خروجي منه، أترك الباب مشرعا، ثم أحضرُه، وأدعوه إلى الخروج قائلا:
– هيا يا صديقي تفضل!
فتكون استجابته دائما هي أنه يتراجعُ، ويجري بأقصى سرعته ليختفي في مكان ما في البيت، بعيدا جدا عن الباب! كأنه يقول:
– لا لا، لن أعيدها أبدا!