لا أعرف هل كان من حسن حظي اليوم أم من سوئه أني خرجتُ متأخرا شيئا ما لتناول طبق الكسكس الأسبوعي في المطعم الذي اعتدتُ على أكله فيه كل يوم جمعة. هو مطعم ليس بالمتواضع جدا ولا بالفاخر جدا، وسعر الأكل فيه عموما مناسب. وجدتُ المطعم مكتظا عن آخره، سألت النادل:
– هل بقي كسكس؟
– لم يبق ولا طبق واحد!
عاتبتُه:
– هل كان ذنبي أني جئت متأخرا اليوم بربع ساعة لا غير؟!
ودون انتظار أي جواب، انصرفتُ إلى مطعم لا يقل جودة عن الأول، ومع ذلك فسعر طبق الكسكس فيه أرخص بكثير؛ «ذنب» المطعم الثاني الوحيد أنه لا يوجد في موقع جيد، فلا يكتظ بالزبائن كسائر المطاعم والمقاهي التي تقع في الشوارع، لذلك كفر عن «ذنبه» بتخفيض أسعار وجباته. الناس يفضلون الجلوس في الفضاءات الموجودة في الشارع، لكي يستهلكوا الطعام ويحتسوا القهوة والشاي والعصائر والمشروبات الغازية، ولكن ربما أيضا ليتناولوا أشياء أخرى من أجساد البنات والنساء المارات في الشارع، أعينهم بها أعلم وأدرى. كان المطعم الثاني قد أغلق نهائيا. لم يفاجئني إغلاقه، بل تعجبتُ لصموده شهورا عديدة قبل أن يرفع راية الاستسلام؛ ففي هذا الحي أصبح أصحاب المطاعم والمقاهي هم الآخرون وحوشا تشبه وحوش العقار: يكون لأحدهم مقهى أو مطعم هنا، لكن يأتي آخر فيفتح مقهى أو مطعما قبالته، فيملأ سائر ثغرات وعيوب المحل القديم، كأن يأتي بديكور فاخر، وكراسي وموائد أنيقة جدا، ويشغل نادلات بنات، يحرص على انتقائهنَّ بحيث يكنَّ صغيرات السنِّ، أنيقات جميلات رشيقات، وربما يخفض سعر المأكولات والمشروبات، فما تمضي بضعة أسابيع حتى يفلس صاحب الفضاء القديم، فيضطر للإغلاق، لأن زبائنه يفرون منه إلى المحل الجديد، وهكذا دواليك.
ما علينا…
«لا كسكس اليوم»، قلتُ، ثم أخذتُ طريق العودة إلى المنزل بعد أن تسوقتُ فاكهة، وتناولت «زلافة صيكوك»، وحبات تين مكسيكي عسى أن تستيقظ موهبتي في الطبخ فتجود بطبق أتدبر ترتيقه بما تيسير في البيت من خضر، وما إلى ذلك. ولكن عندما اقتربتُ من المنزل، شاهدتُ موائد مطعم فاخر فتح حديثا مملوءة بأطباق كسكس، قلتُ حسنا، ها هو الكسكس. لأجرب حظي هنا، سألتُ النادلة:
– هل بقي عندكم كسكس؟
– نعم
– حسنا، هاتني واحدا
دخلتْ النادلة في حين جلستُ في مائدة، ولكن الفتاة عوض أن تحضر الطبق كما توقعتُ، عادتْ وقالت لي بنبرة شبه مُحذِّرة:
– سعرُ الكسكس عندنا 65 درهما للطجين!
قلتُ لها لا مشكلة، وإن كانت عودتها تلك مشكلة حقيقية، في الواقع، لأنَّها فضحت بما لا مجال للشك فيه حكمها المسبق عليَّ كما يفعل معظم المغاربة. فلكوني أهملتُ شعر رأسي إلى أن أخذ يتدلى، ولكوني لم أحلق ذقني منذ بضعة أيام، ولكوني أحمل حقيبة ظهر تُبديني كمسافر تائه أو كشخص لفظته للتو حافلة قادمة من إحدى القرى المجاورة، ولكوني أرتدي بطلون دجين، ولكوني بدأت أتقدم في السن، بحيث صار الكثيرون يدعونني بـ «الحاج»، وما إلى ذلك، فربما توقعت النادلة أني قد لا أقوى على تسديد ثمن ما سآكله. وتجنبا لما قد لا تحمد عقباه إذا اتضح لاحقا أنني بالفعل لا أستطيع الأداء، فقد حذَّرتني عملا بقاعدة: «قد أعذر من أنذر». تصرفتْ بمنتهى العقلانية، من وجهة نظرها.
حضر الكسكس، وما مضت لحظات حتى جلستْ قبالتي عائلة تتألف من زوجة وأب وابن وبنت؛ جلست الزوجة في مقعد مقابل لزوجها في حين جلس الابن والبنت بجانب بعضيهما. وما إن مضت بضع دقائق حتى وضعت النادلة في مائدة الجماعة دجاجة كاملة، وأرزا وبطاطس مقلية، وسلطات، وما إلى ذلك. سررتُ: مع أنَّ هذه الأسرة الصغيرة لا تبدو عليها علامات اليُسر، فقد تدبرت أمر تناول وجبة غذائها اليوم خارج البيت، بل ربما كانت تأتي إلى هذا المحل مرة في كل أسبوع لتكسر الروتين وتجدد أواصر المحبة. وبالفعل، فثياب الزوج والزوجة والأبناء كانت نظيفة جدا، كأنها ملابس العيد. لاشك أن الزوجة قد تدبرت أمر غسلها وكيها إلى أن أكسبتها رونقا وجمالا. تبدو الزوجة تقليدية، من خلال ملابسها. أغلب الظن أنها ربة بيت، في حين يبدو الزوج كسائر الأزواج العاديين الذين ينحتون الصخر أو يقبضون على الشوك بأيديهم، كما يقال، لكي يوفروا حاجيات الزوجة والأبناء…
ومع استغراقي في الأكل، واجتنابي ما أمكن متابعة تلك الأسرة بالنظرات، فقد لفت انتباهي أن الزوجة كانت تمد يدها إلى الجانب الآخر من الطبق، أي إلى الجهة القريبة من يدي زوجها. كانت الحركة من التكرار بحيث لا يمكن ألا تلفت انتباه من يجلس بجانب مائدة تلك الأسرة أو قبالتها: خمنتُ أن تكون الزوجة متعلقة بزوجها. فمن باب هذا التعلق، كم زوجة تناول زوجها الأكل بيدها، علامة على حبها واحترامها له وإخلاصها له، وما إلى ذلك، فتنتقي بأصبعيها أجود قطعة خضر أو لحم، ثم تمدها إلى فم زوجها، فيأكلها. وقد يبادلها التصرف نفسه، فيناولها هو الآخر بأصبعيه قطعات من أجود ما في الصحن…
ولكن عندما رفعتُ عيني وجدتُ الأمر بخلاف ما توقعتُ تماما؛ فقد وضعت النادلة الدجاجة المشوية فوق المائدة بحيثُ جعلت فخذيها قبالة الزوج وصدرها قبالة الزوجة، ما يفيدُ أن عاملة المطعم استنتجت، من خلال قراءتها للباس الزوجين ومظهريهما الخارجي، أنَّ الزوجة كانت ربة بيت، وأنَّ الزوجَ هو من سيؤدي ثمن الوجبة وليست الزوجة، وأنه الآمر الناهي في البيت، وبذلك يحق له أن يأكل أفضل ما في الدجاجة، وهو الفخذان، فوضعتهما في متناوله… أما الزوجة بحركاتها الآلية المتكررة تلك، فلم تكن تُطعمُ زوجها، بل كانت تفترس فخذي الدجاجة، وكأنها كانت تستعجل إنهاءهما!
ممممه، قلتُ، ثمَّ تذكرتُ مطعما آخر، كنتُ بمجرد ما أجلسُ في إحدى موائده، تأتي النادلة:
– مرحبا! ما تريد؟
– ربع دجاجة.
– الفخذين أم الصدر؟
وتعيد السؤال أكثر من مرة، مصرَّة على تثنية كلمة «الفخذ» وإفراد كلمة «الصدر» (الفخذين ولا الصدْر؟)، وهي تبتسم وتقوم بحركات يدوية لا تدع مجالا للشك فيما تقصد بسؤالها: تلمح بالفخذين إلى الجزء السفلي من جسد المرأة وبالصدر إلى جزئه العلوي!!! كأنها سؤالها طريقة ملتوية في قول:
– هل تريد متعة كاملة أم مجرد لمس وعناق وبوس؟
علما بأنَّ تلك السيدة كانت لا تتجاوز بسؤالها حدود الفكاهة والمزاح، بل ربما كانت تُسبقُ سؤالها بمناداتي بـ «الحاج»، فتقول: «ماذا تريد أ الحاج؟ الفخذين أم الصدر؟ لتسبغ على حوارها ذاك طابعا سورياليا، إذ بحرصها على مناداتي بالحاج، كانت تنصب حواجز من الاحترام بيني وبينها، فلتفني بهالة من الوقار، أو تعتبرني رجلا «انتهت صلاحيته»، ولكنها في الآن نفسه، من خلال إصرارها على دس الإيحاءات والتلميحات الجنسية في الكلام، كانت تكسر تلك الحواجز وتسخر من القواعد الاجتماعية إما استهزاء من القدر الذي ساقها إلى العمل نادلة أو لإمتاع الزبائن وبعث السرور في أنفسهم لكي يصبحوا من رواده الدائمين فيكتظ المحل دائما بهم، فلا يفلس صاحبه ولا يضطر إلى إغلاقه….
وبربط هذا بذاك، أظنني – أو خيل إلي أنني – فككت لغز افتراس المرأة للفخذين من أمام زوجها، لاسيما عندما استحضرتُ أنَّ اليومَ يومُ جمعة، وأن الكثير من الأزواج المغاربة يجمعون بين «شعبان ورمضان» أو بين «الحج والزيارة»، كما يقال، أي يضربون عصفورين بحجر واحد؛ يحلق الزوجان في أجواء الفراش العليا ليلة الخميس، ثم يستحمون صباح الجمعة. بعد ذلك، منهم من يذهب للصلاة، ومنهم من يأتي إلى مطعم رفقة زوجته وأبنائه أو يزور أحبابه وأقاربه… إذا صحَّ تخميني، فمن خلال افتراس الزوجة لفخذي الدجاجة، فهي كانت تنتقم انتقاما شنيعا من أنثى فاحشة، هي تلك الدجاجة التي تسللت في غمرة لقاء رومانسي نادر بين زوجة وزوجها، ثم تمددت بينهما، ووضعت فخذيها قبالة الزوج، وأشرعتهما قائلة له: «هيت لك!»
بعض التعقيبات على النص
«سرد جميل وسلس يخبرنا عن السارد بقدر ما يصف مشاهد بفضائها وشخصياتها. نستشف من خلال عملية الحكي أن السارد يعرض ظاهرة اجتماعية أصبحت تطال بيئته، وهي وحدة رجال لا هم بالشباب ولا هم بالمسنين. ظاهرة اجتماعية في مجتمع إسلامي عكف على التحلق حول قصعة الكسكس يوم الجمعة كأحد طقوس الأسرة في مجتمع إسلامي. وحدة السارد/الحاكي مؤلمة المجتمع يتحلل ويبتعد عن عاداته وتقاليده المؤسسة هويته. إذا كان نجيب محفوظ يحتسي قهوته في مقهى المرايا قبالة الحسين في حي خان الخليلي ويستلهم شخصياته ومواضيع رواياته بعد حياة أسرية واجتماعية، فساردنا في هذا المقام يبحث عن أسرة بأجوائها وتفاعلاتها من خلال مطاعمها المؤثثة بنماذج بشرية تتوخى أسرة أكبر Vive le célibat.» (الحسن بنتاسيل).
«سردٌ ماتع… والتقاط ساخر لسلوك المغاربة وبعض التفاصيل التي تمر دون أن ننتبه إليها.
أتأسف لأنك لم تتناول الكسكس في مطعمك المعتاد.. سبق وأن دعوتني إليه في إحدى جمعات العام الماضي وقد كان الكسكس لذيذا فعلا (كسكس غرباوي أصيل مع كأس لبن ههه…).» (عماد أحيطـور).
«سرد بليغ لتجربة تماهيت معها، حتى خيل الي بأنني عشتها مرة أخرى…» (محمد الخمليشي).
«والجناحان للقارئ… ذكرتنا بنكتة الفقهاء في وليمة، حيث أراد اثنان منهم أن يستغفلا المجموعة التي ضمتهما، فقال أحدهما للآخر: صَدِّرني وصَدِّرْ نفسك وجَنِّح الباقي.» (محمد كروم).
«هاهاهاها. جلت بمخيلتنا جولان دروني drone تجاوز الكسكس الذي أظن أن ثمنه كان زائدا عن اللازم (…) ذكرتني بغداء في أحد المؤتمرات شاركني في المائدة خيرة أساتذتنا الجامعيين، ومن حظنا في ذلك اليوم كان أكلة الدجاج، ولا أخفيك ما قيل وما تداول من حديث عن فخذ الدجاج وما بين الفخذين بالتحديد. كانت تروج في مخيلتي أشياء لم أجرؤ على قولها. ولو قلتها لانفجر الجالسون ضحكا، ولكن أنا حشومي. المهم شكرا لك على السباحة الخيالية، ونتمنى ألا نسمع يوما ما شي مصيبة بحال ديال سيدي قاسم مع موضوع أكلتك الكسكسية.» (القادري عبد المالك).
«أدب قسمة الدجاج: اتفق فقهاء على قسمة دجاجة شرط أن يأخذ كل واحد منهم ما يوافق آية يقرأها. وبعدما أخذوا قسطا من الراحة، قال الأول: “والتفت الساق بالساق”، فطلب الفخذين، قال الثاني: “ألم نشرح لك صدرك”، قال الثالث: “واخفض لهما جناح الذل من الرحمة”، أما الرابع فضل ساكتا، ولما هموا إلى الطنجرة وجدوها فارغة، إذ ذاك قال الرابع: “فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون”.» (اسماعيل النوالي).
«مزاوجة رائعة بين الصدر والفخذين حيث يحدث المسموح به والمحظور في السر والعلن. لوحة تشد القارئ شدا وتلك ميزة السرد الراقي.» (أحمد العمراوي).