أفقتُ مرارا ليلة أمس، وفي كل مرة كنتُ لا أفطن إلا وأنا أحرك قدمي أو ساقي جراء الألم الذي كان يوقعه بي أحد قططي، هو القطيط الرابع تحديدا الذي تبينتُه منذ بضعة أسابيع. ربما كان يحاول نهش لحمي. ليس جوعا، فصحون أكل القطط ممتلئة عن آخرها بالطعام، بل رغبة في أكلي. قد يبدو هذا غريبا، ولكن كل من يربي قططا، ينتهي به المطاف إلى معرفة أنها كالبشر تملُّ أكل نوع واحد من الطعام أو نوعين يوميا، فتشتهي طعاما جديدا؛ تتوقعُ أن يأتيها مربيها بطعام جديد في كل عودة له إلى البيت، لذلك ما إن يفتح الباب حتى تهرول إليه رافعة أنفها مثل رادار لتشمُّ رائحة الطعام المنتظر، ثم تدسه في قفة مربيها أو حقيبته بمجرد ما يضعها، وقد تفتشها تفتيشا، وعندما لا تجد فيها ما تنتظره، تستغرق في خدش القفة بمخالبها، والعبث بها، بل تمضي أحيانا إلى حد تطويحها في الهواء احتجاجا عليها أو على مولاها أو عليهما معا… وهي لا تقوم بمثل هذا السلوك إلا عندما تشعر بأنَّ البيتَ أصبحَ بيتها هي وليس بيت مربيها.
عندما تطأ قدما القطيط (أو القطيطة) الجديد البيتَ لأول مرة، فهو يلتهمُ كل الطعام الذي يقدمُ له، بخلاف القطط القديمة. بل قد يشدد الحراسة على أكله، فيستغرق في تناوله وهو «مزمجر» ومتأهب لصد كل قط أو قطة تسول لهما نفسهما الدنو منه مع أنهما يقومان بذلك لمجرد السخرية منه أو حتى لتعييره بأنه جائع، حسب ما يبدو… لكن بمضي الوقت، يلتحق قادم أمس بركب «قدماء المحاربين»، فتتفتح شهواته هو الآخر على أطعمة أخرى، وتتعدد رغباته ونزواته…
والقطط في ذلك مثل الطيور، إذ ينتهي طول المقام في البيت بالعصافير هي الأخرى إلى أن تعتبر نفسها هي مالكته، فتشرع في الاحتجاج على مربيها إذا أوقد المصباحَ، على سبيل المثال، وهي نائمة، إذ تصرخ بأعلى صوتها في البيت كأنها تقول:
– دعنا ننام! اتركنا ننام!
– اطفئ الضوء! اغرب عنا!
– تبا لك! أما تحترم النائمين؟!
لا تكف عن الاحتجاج إلا بعد إطفاء الإنارة! سلوكٌ لا تقوم به أبدا في الأيام الأولى، ولا في الأسابيع الأولى من إحضارها إلى البيت. في المقابل، تلوذ بالصمت، في الأيام الأولى، فلا تصدر تغريدة ولا زقزقة، لا تتشاجر فيما بينها، لا تتحاور، ولا هم يحزنون؛ تكتفي باستطلاع المكان ومراقبة مربيها الجديد. تراقبه بحذر وتوجس كبيرين. لكن ما إن يمضي وقت حتى تشعر بالأمان، وتصبح قادرة على معرفة ما إذا كان مربيها قد فتح القفص لتنظيفه وإحضار الطعام والشراب أو لشيء آخر، فينقلب صمتها إلى ضوضاء، وتأخذ في صرف أوقات طويلة من اليوم في الزقزقة والشجار والتحاور فيما بينها، حتى ولو كان عددها ثلاثة طيور أو أربعة لا غير…
بعد طول معاشرة القطط، خامرني الشعور التالي، وهو أنَّ الحبَّ الذي تبديه هذه النوارس لمربيها قد لا تكون له أي صلة بمشاعر التعلق عندنا نحن معشر البشر. قد يكون رغبة في أكله. فالقطط قبل كل شيء وبعده هي نمور صغيرة مثلما النمور قطط صغيرة. وكما تفترسُ نمور الغابة البشر، فالقطط هي الأخرى يمكن تأكل البشر، بدليل افتراسها لمربيها إذا كان يعيش وحيدا ومات، ومرت على وفاته أيام أو أسابيع دون أن يُفطن إليه. آنذاك، لا تتردد في أكل مربيها، من شدة الجوع، فلا يُعثر من جثمانه سوى على ما تعذر عليها أكله… ربما لا يمنع القطط من أكل مربيها سوى خوفها منه لأنه أقوى منها، وتعلقها به لأنه هو من يطعمها ويأويها. إذا صح هذا، فهي تحمل إزاءه شعورا مزدوجا شبيها بذلك الذي يحمله الطفل تجاه والده خلال اجتيازه «عقدة أوديب»: يكره أباه، ويتمنى اختفاءه من البيت ليتأتى له أن يستأثر بأمه، لكنه يتعلق في الآن نفسه بوالده جراء ما يغمره به من رعاية وحب وحنان…