سافرتُ اليوم على متن القطار. كان كل شيء فيه «ملخبطا» إلى حد الشعور بالتقزز والغثيان، بدءا من تأخر القطار عن موعد إقلاعه بحوالي 40 دقيقة، دون إشعار ولا سابق إعلام، مما تسبَّبَ في تأخري عن الموعد الذي كنتُ مرتبطا به، مرورا باكتظاظ القطار عن آخره بالركاب، وكان قادما من فاس، فكان لابد من السفر وقوفا على القدمين، وصولا إلى تصرفات بعض الركاب المغرقة في الأنانية واللامبالاة:
تأتي هذه المرأة البدينة، كأنها خرجت للتو من حظيرة تعليف أبقار، وتشاهد بأم عينيها أن ممر العربة ممتلئ عن آخره بالمسافرين الواقفين، ومع ذلك تصر على المرور بحثا عن مقعد شاغر لكي تجلس فيه، لم ينفع أن قال لها أكثر من مسافر ومسافرة:
– جميع المقاعد مملوءة! لو كانت في المقصورات مقاعد شاغرة لما كنا واقفين!
تتجاهل المرأة كلام الركاب، تمضي إلى أقصى طرف العربة، وهي تسحق بجسدها البدين الركاب الواقفين، تفتش المقصورات واحدة واحدة، لا تعثر على مقعد شاغر، فتعود مجددا وهي تدهس الركاب من جديد…
من غمرة زحام أحد طرفي العربة، يخرج رجلٌ مُلْتَح، يرتدي قبعة بيضاء كقبعة الحجاج، بدينٌ هو الآخر كثور مصارعة، ينادي أحد معارفه في الطرف القصي الآخر من العربة:
– يا فلان! يا فلانٌ!
يجيبه الشخص الثاني، ثم يستغرقان في الحديث بصوت مرتفع. أمام تعذر سماع ما يقول أحدهما للآخر بوضوح، لبعد المسافة الفاصلة بينهما واكتظاظ الممر بالراكبين، وجلبة القطار الماضي بسُرعة، يطلب الشيخ البدين من مخاطبه الشاب:
– انتظر، ها أنا قادمٌ!
ثم يهرولُ نحوه، مارا من بين المسافرين بسرعة وبقوة في آن واحد، دون أن يكترث إلى أنه بمروره المتوحش إنما يسحقهم سحقا. يصل إلى الجهة الأخرى، يتبادل الاثنان أطراف الحديث هنيهة، ثم يعود الحاج العجوز إلى مكان وقوفه الأول، في الجهة القصية الثانية من العربة، بالطريقة نفسها التي عبر بها إلى رفيقه قبل قليل، معيدا نشيد السحق والدهس والرفس…
يُخرجُ هذا الشاب الواقف بجانبك هاتفه الذكي، يطلبُ رقما، توحي طريقة كتابة الشاب وملامح وجهه بأنه يتباهى بمكالمة شخصية مهمة، فإذا بهذه المكالمة في غاية التفاهة والرَّداءة، مُلوِّثة لآذان السامعين:
– ألو عمي! لا بأس عليك؟ عرفتني ولا لا؟ أنا ابن أخيك فلان..
سألتُ الشابّ في نفسي:
– أن تسأل صاحبك عما إذا كان قد عرف صوتك أم لا، فهذا دليل على أنك ربما تكلمه للمرة الأولى! لا يُعقل ألا يعرف صوتك إن كنت تهاتفه باستمرار. لماذا تظاهرتَ قبل قليل بأنك ستكلم شخصية مهمة، وتباهيتَ بمعرفتك إياها؟!
واصل الشاب مكالمته:
– كيف حالك في السجن؟ إوَ أنت ارتكبتَ كذا وكذا ( = ضرب وجرح وسرقة!)
– …
– هل يسمح لكم مدير السجن بالخروج إلى الساحة أم لا؟
– …
– كيفاش؟ نجي نونسك؟! الله ينجيني منكم ألحبَّاسة ( = وقاني الله من معاشرتكم، أنتم معشر السجناء)
– …
– أنا دابا غادي «ديبلاصمون» déplacement لواحد الشركة.
فجأة انكشف لغز المكالمة العجيبة: لم يكن الشاب ليُجريها لولا الفتاة الواقفة بجانبه. الجملة الأخيرة (أنا مسافر إلى إحدى الشركات في مهمة) كانت موجهة في الحقيقة للفتاة وليس للعم السَّجين والمعلومة نفسها كانت طريقة في تقديم الشاب نفسه للبنت وإغرائها؛ قال لها ضمنيا:
– لستُ عاطلا. أزاول مهنة هامة تتطلب مني التنقل كثيرا لقلة من يزاولونها!
وباختصار، اتضح أنَّ الشاب كان يريد أن «يصطاد» البنت الجميلة، فتفتقت عبقريته عن هكذا مدخل لمراودتها…
سلوك صاحبنا الشاب نموذج حي لأحد القواسم المشتركة بين الإنسان والحيوان: يحدثُ، على سبيل المثال، أن تناولَ القطط الصغيرة الأكل فتأتي أمهم، وبدل أن تفسح لهم حيزا للأكل، أو تعطيهم الأسبقية، فتنتظر ما قد يفضل عنهم ثم تأكله… بدل ذلك، تقصد الصحن، وتلتهم كل ما فيه، دون أن تفطن إلى أنها بسلوكها ذاك قد جوَّعت صغارها! أو يحدث، على سبيل المثال أيضا، أن تكون القطة منشغلة بإرضاع أبنائها أو تنظيفهم، فيأتي القط الذكر، ويقفز فوقها ابتغاء التزاوج معها!… ما قام به الشاب لا يختلف في العمق في شيء عن هذا!…
*
* *
في ختام رحلة العودة، كانت أم المفاجآت في الانتظار. بباب الخروج بمجرد ما وطأت قدمي بهو المحطة تلقيتُ ضربة قوية على صدري إلى أن ترنحتُ من الألم. استجمعت كل يقظتي لمعرفة مصدر الضربة، فإذا بصاحبها شابٌّ قوي منطلق كثور مصارعة خرج للتو من الحظيرة إلى حلبة المنازلة. انطلق الشاب بكل ما أوتي من قوة وسُرعة لكي يُدركَ القطار الذي نزلتُ منه للتو، فلا يفوته. كان هدفه الأول والأخير هو ركوب القطار بأسرع وقت، وبأي ثمن، دون أي اعتبار لكيفية الوصول. كأنَّ كل ما في العالم اختُصرَ في وجوده هو والقطار لا غير! أن يدهسَ المسافرين الخارجين أو يصطدم بهم أو حتى يُسقط أحدهم، كما كاد أن يفعل بي قبل قليل، فذلك لا يهم. المهم هو أن يُدرك القطار ويصعده، ومن بعدها الطوفان! وقفتُ، التفتُّ نحوه، التفت هو الآخر إليَّ، قال مواصلا جريه:
– اسمح لي أعمِّي!
ثم صعد إلى القطار!!
تخيلتُ نفسي أقول له وأنا أصفق بيدي تصفيقات حارة:
– هنيئا لك، هنيئا لك!
ثم واصلتُ سيري نحو باب المحطة الرئيسي.
بتُّ أقتنع يوما عن يوم أن الخروج إلى الفضاء العام أصبح بمثابة سقوط في مستنقع، لذلك بدأت أفكر جديا في ملازمة البيت وعدم مغادرته إلا للضرورة القصوى، رغم ما سيقتضيه ذلك من تضحية بأمور في مقدمتها حصة المشي اليومية التي فرضها عليَّ الطبيبُ… فلا أخرج منه بتاتا إلا للتسوق، والعمل، والمستشفى، والمطعم، والصيدلية…
*
* *
لاحقا، سأفطن إلى أني كنتُ طرحتُ السؤال نفسه في إدراج «تبني قطة» قائلا: «أيجدر بالمرء أن يلازم بيته ولا يخرج أصلا؟ أن يلوذ بالصمت الأبدي، ويعيش كجثة محنطة؟».
بعد ذلك، بحوالي عام، تذكرتُ أني قرأت في مستهل تسعينيات القرن الماضي كتابا ألفه أحدهم في القرن الرابع الهجري في مديح العزلة والحث عليها، فنشرت الاقتباسات التالية منه:
«الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس.»
«صُم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة، وفرّ من الناس فرارَك من الأسد.»
«هذا زمان السُّكوت ولزوم البيـوت.»
«ما العيشُ إلا القفل والمفتاح، وغرفة تصفقها الرياح، لا صخب ولا صياح.»
«قال الفضل رحمة الله عليه: إني لأتمنى المرض، قلت له: لم ذلك؟ قال لئلا أرى الناس.»
«… قال أبو سليمان (…) أتيت عوانة بعد ما كف بصره، فسلمتُ عليه وسألت به، ثم قلتُ له: (…) لم يسلب [الله] عبدا شيئا إلا عوضه مكانه شيئا آخر هو خيرٌ منه، فما الذي عوضك من بصرك؟ قال: الطويل العريض يا بغيض، فقلتُ: ما هو؟ قال: ألا أراك ولا يقع بصري عليك».
*
* *
لماذا لم تفض كتب «الآداب» إلى تربية مجتمعية؟
سؤال يقتضي بحوثا رصينة، إذا كانت هذه الإجابة ممكنة أصلا ما دمنا لا نتوفر على إحصائيات دقيقة حول مجتمعاتنا في الماضي ولا على دراسات خاصة بالحياة اليومية لأسلافنا في هذه الفترة أو تلك على غرار ما نجد في سلسلات بعض دور النشر الغربية. مقابل غياب هذا وذاك، هناك شيئان يمكن معاينتهما في الوقت الراهن: حضور هذه التربية عند مؤلفين عرب قدماءٌ كثرٌ، وغياب شبه تام لها في السلوك اليومي لشرائح اجتماعية واسعة.
يتجلى الحضور في مصنفات القدماء التي كانوا يصدرونها بلفظة «آداب»، فخصصوا رسائل لآداب الطعام وآداب النكاح، وآداب الجنائز، وما إلى ذلك من سائر السلوكات التي يمارسها الفرد داخل بيته وداخل المجتمع. ولهذه الكتاب نظائر في الغرب، انتشر تأليفها في عصر التنوير، حسب الفيلسوف الفرنسي إيف ميشو Yves Michaud Yves Michaud. فقبل هذا التاريخ، حسب ميشو، كان سواد الأوروبيين شبه همج، يأكل الفرد منهم واللعاب أو المخاط يسيل من أنفه، لا يعرف كيف يمسك الطعام، لا تجيد ربة البيت التصرف ببقايا المأكولات، وما إلى ذلك، فخصصتْ كتبٌ عديدة لمثل هذه المواضيع أعطت بدون شك ثمارها على المدى الطويل، متمثلة في رقي سلوك السواد الأعظم من أفراد معاصرينا الأوروبيين، في حين لا نجد أثرا لتصنيفات قدمائنا في الموضوع نفسه في معاصرينا من أفراد أوطاننا العربية، ما يطرح سؤال: ما السبب في ذلك؟ هل يعود إلى قلة شيوع القراءة في مجتمعاتنا، وندرة رواج الكتاب أم يعود إلى أنَّ السواد الأعظم من مجتمعاتنا كان يقطن في البوادي، ما يحمل على أنَّ تأثير تلك الكتب كان محصورا في دوائر الحواضر الضيقة؟ والغريب أن محتويات من بعض الكتب التراثية، حكايات وأحاديث نبوية وأساطير وخرافات بالخصوص، تروج اليوم على ألسنة العامة وبعض «الحلايقية» ( = الحكواتيين) محرَّفة دون أن يُعرف كيف انتقلت من نطاق المكتوب إلى حقل التداول الشفهي، ولا لماذا نجحت هي في هذا الانتقال ولا تفلح فيه مضامين مصنفات الآداب والتربية؟ وما يقال عن الآداب، يصدق أيضا على التربية الجنسية التي خلف فيها العرب تراثا يحظى باحترام وتقدير عالميين، حيث ترجمتْ بعض مصنفات «آداب النكاح» و«علومه» إلى عدة لغات، مقابل غياب وتغييب كليين لبصمات تلك الكتب في المجتمعات العربية الراهنة، وهو ما أثارته إحدى الروايات ساخرة:
«ما أرى هذه الكتب إلا بلاغة أرستقراطية لبستْ قناعَ التربية الجنسية للكشف عن تخمتها الجنسية في وسط يغور فيه الكبت الجنسي حتى النخاع، وإلا لماذا لم تحرك هذه المؤلفات في المجتمعات العربية ساكنا طيلة هذه القرون؟! فالتربية الجنسية في مجتمعاتنا تكاد تساوي الكفر والإلحاد. إني لأمضي أبعد وأفترض أن مثل هذه الكتب هو ما ساهم في تشديد الرقابة على النساء وتحصينهن بالحجب والأسوار والأقفال؛ فهي نبهت العامة والفقراء والمحرومين إلى ما يفعله بنسائهم وبناتهم الخاصةُ والأثرياءُ وذوو السلطات والمال والجاه والنفوذ. ابعد عني هذه الترهات! ابعد عني هذه الأباطيل!» .
مظاهر الغياب حاليا عديدة وشائعة، بحيث لا يكاد خروج المرء إلى الساحة العمومية أن يخلو منها مرة واحدة: في سيارات الأجرة، في المخابز، في الأسواق، في الإدارات العمومية، في الاجتماعات العامة واللقاءات الخاصة، في علاقات الصداقة…، وما إلى ذلك.
كنتُ كتبتُ في إدراج سابق:
التربية بمثابة جسد يمشي بساقين، إحداهما المدرسة والثانية الأسرة، لذلك قد لا تُفضي كل محاولة لإصلاح التعليم في بلدان الشرق الأوسط وإفريقيا إلى أي نتيجة ما لم يُواكَب تجديد البرامج والمناهج الدراسية وتوفير البنية التحتية للمؤسسات التعليمية وما إلى ذلك، بمتابعة حُكومية لكل طفل من أطفال هذه البلدان، منذ ولادته، بتفقد ظروف معيشته داخل البيت، والرعاية المادية والمعنوية والنفسية التي يشمله بها والداه، وما إلى ذلك، على غرار ما يتم في البلدان المتقدمة… قد لا تنجح أي محاولة لإصلاح التعليم، لأنَّ إحدى ساقي الجسد سوف تكون آنذاك مبتورة.
باستحضار البعد الاجتماعي للتربية، ربما تعين تنقيح هذا الإدراج بحيث تصبح التربية – عندنا – بمثابة جسد يسير بثلاثة سيقان… وإذا كانت البقية معروفة، فالسؤال هو ما السبيل إلى جبر الساق الثالثة المبتورة في مجتمعاتنا الراهنة؟؟