يتعلق الأمر في هذه الدراسة بعرض أطروحات الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوس الذي كان قد اقترح هذه المقارنة [بين المحلل النفساني والساحر] في دراستين نشرهما سنة 1949 وهما: «الساحر وسحره» و«الفعالية الرمزية»[1]. بعد ذلك سنبين من خلال مثال محدد، هو مقال: «الرجل صاحب مسجل الصوت» (L’homme au magnétophone) الصادر في مجلة الأزمنة الحديثة (عدد أبريل 1969)، أن الفكر السحري لا زال يحتفظ بفعاليته في مجتمعنا العصري وأن من شأن النظرة المركزة التي تتيح الأنثروبولوجيا إجراءها على التحليل النفسي أن تساعدنا على أن نعيد لهذا الأخير بعديه باعتباره حقيقـة وفعاليـة.
ولتوضيح هذه المقارنة إليكم نصا أورده ليفي ستراوس في دراسته «الساحر وسحره»، وهو عبارة عن جزء من سيرة ذاتية أهالية جمعها فرانز بواس [2] Franz BOIS سنة 1930 باللغة الكواكيولوتية (Kwakiult) (من جزيـرة فانكوفـر Vancouver).
I – حكايـة قصـاليـد
لم يكن المدعو قصاليد Quesalid (وهو الإسم الذي أحرز عليه لما أصبح ساحرا) يؤمن بقدرة السحرة أو لم يكن يؤمن بقدرة الشامان[3] – كي ندقق أكثر – بما أن هذا الإسم يناسب أفضل للتدليل على ضرب نشاطهم النوعي في بعض أنحاء العالم. ومدفوعا بفضول اكتشاف حيلهم وبالرغبة في فضحهم أخذ يتردد عليهم إلى أن عرض عليه أحدهم أن يدخله في جماعتهم حيث سيتعلم ويصير واحدا منهم في وقت وجيز، فقبل قصاليد بسرعة. وتصف حكايته بتفصيل ما هي الدروس الأولى التي تلقاها. هي خليط من إيمائية غريبة، وضروب من خفة اليد، ومعارف أمبريقية يختلط فيها فن الإخفاء، والإغماء، وتصنع نوبات عصبية، وتعلم أناشيد سحرية، وتقنية جلب القئ، ومفاهيم دقيقة بما فيه الكفاية في موضوعي الإصغاء وفن التوليد، واستعمال «الحالمين»، أي جواسيس ومكلفين بالتصنت للمحادثات الخاصة وموافاة الشامان سريا بعناصر خبر حول أصل أو أعراض الآلام التي يعاني منها هذا الشخص أو ذاك، وتقنية إحدى المدارس الشمانية بشمال غرب المحيط الهادي، بوجه خاص، تتمثل في استعمال باقة زغب صغيرة يخفيها الساحر في زاوية بفمه ليبصقها مضرجة في اللحظة المناسبة بعد أن يعض لسانه أو يظهر دم لثته، ثم يعرضها بفخر كبير للمريض والحاضرين باعتبارها الجسم المرضي التي تم طرده بعد امتصاصه ومعالجته يدويا.
ورغم تحقق قصاليد من صحة شكوكه [حول قدرة الشامان] فقد أراد مواصلة بحثه، إلا أنه كان قد فقد حريته: فقد علم الناس في الخارج أنه كان بصدد التدرب على يد الشامان. وهكذا استدعته ذات يوم عائلة مريض رأى في الحلم أنه سيشفى على يده. وقد اتضح أن هذا العلاج الأول كان نجاحا باهـرا (يلاحظ قصاليد في مكان آخر من حكايته أنه لم يتقاض [أي مقابل]عن علاج ذلك الشخص ولا عمن تبعوه، لأنه لم يكن قد أكمل سنوات التمرين التنظيمية الأربع).
ولم يفتقد قصاليد فكره النقدي رغم أنه اشتهر منذ ذلك الوقت باعتباره شامانا كبيرا. فقد فسر نجاحه بأسباب نفسية «لأن المريض آمن بقوة بالحلم الذي رآه بشأني». وبتعبير آخر، فإن ما جعله «مترددا ومتألما» هو مغامرة أكثر تعقيدا وضعته أمام أنماط عديدة من «المظاهر الزائفة للفوطبيعي» وقادته، من ثمة، إلى استنتاج أن بعض تلك الظواهر كان أقل زيفا من بعضها الآخر: المقصود بالظواهر طبعا تلك التي كان اهتمامه الشخصي منصبا عليها، وفي الآن عينه النظام الذي شرع في التعشيش في ذهنه.
وقد حضر قصاليد إبان زيارته للقبيلة المجاورة، قبيلة كوسكيمو Koskimo، جلسة علاجية أجراها زملاؤه الأجانب المشاهير. وبانشداه كبير لاحظ وجود اختلاف في التقنية العلاجية التي كانوا يستعملونها: فبذلا من بصق المرض على شكل دودة مضرجة تتكون من الزغب المخفى في الفم، يكتفي الشامان الكوسكيمو بتنخم قليل من البصاق في أيديهم ويجرؤون على ادعاء أن ما يبصقونه هو «المرض». ماقيمة هذه الطريقة؟ وعلى أي نظرية ترتكز؟ وليكتشف قصاليد «ما هي قدرة الشامان الكوسيمو، هل لديهم قدرة حقيقية أم أنهم لا يعدون مجرد مدعين كونهم شامانا، شأنهم في ذلك شأن شامان بلده، فقد طلب منهم أن يجرب طريقته، فكان له ذلك، واتضح أن طريقتهم العلاجية كانت غير فعالة فيما صرح المريض الذي عالجه – هو – بأنه قد شفي من مرضه.
وها هو بطلنا يقف متدبدبا لأول مرة. فمهما كانت التقنية التي تعلمها خادعة ووهمية هاهو يصادف تقنية أكثر زيفا وأكثر مخاتلة، بل وأشد لؤما من طريقته. ذلك أنه – هو – يسلم على الأقل شيئا ما لزبنائه، يقدم لهم المرض بشكل مرئي ومحسوس والحال أن زملاءه الأجانب لا يظهرون أي شئ على الإطلاق، وكل ما يفعلونه هو ادعاء أنهم قد سلموا المرض. ثم فيما أحرزت طريقته على نتيجة، كانت الطريقة الأخرى عديمة الجدوى، وبذلك وجد بطلنا نفسه منشغلا بمشكل ربما له ما يعادله في تطور العلم الحديث، وهو: بالقياس إلى أي نظام مرجعي يجب الحكم على نظامين غير ملائمين بشكل متساو غير أنهما يمنحان – مع ذلك، الواحد بالقياس إلى الآخر – قيمة خلافية من وجهة نظر منطقية ومن وجهة نظر تجريبية في آن واحد؟ أينبغي الحكم عليهما استنادا إلى نظام الوقائع، حيث يختلط النظامان، أم إلى نظامهما الخاص حيث يأخذان قيما غير متساوية نظـريا وعمليا؟
خلال ذلك الوقت غرق الشامان الكوسكيمو هم الآخرون في الشك «وهم يجرون ذيول عار» فقدان ثقة بني قريتهم فيهم: فزميلهم أنتج بشكل مادي المرض الذي عزوا إليه دائما طبيعة روحية ولم يفكروا، من ثمة، أبدا في جعله مرئيا. وقد أرسلوا إليه مبعوثا عنهم ليستدعيه للمشاركة معهم في اجتماع سري داخل مغارة. ذهب قصاليد فعرض له زملاؤه الأجانب نظامهم: «ما من مرض إلا وهو إنسان»: الدمل، والأورام، والحكة، والقشرة، والسعال، والهزال، والعقدة الدرنية، وكذلك قبض المثانة ووجع المعدة… وحالما نفلح في اعتقال روح المرض، الذي هو إنسان، يموت المرض الذي هو إنسان، يتلاشى في دواخلنا». و«إذا كانت هذه النظرية صحيحة فأي شئ نظهره للمريض؟ وما السبب في كون «المرض يلصق في يد قصاليد عندما يتدخل؟». غير أن قصاليد رفض الإجابة محتميا وراء الأنظمة التي تمنعه من التعليم – تعليم الآخرين – قبل أن يكمل أربع سنوات من الممارسة. وقد تمسك بموقفه هذا حتى لما أرسل إليه شامان الكوسكيمو بناتهم الأبكار ليحاولن غوايته وانتزاع السر منه.
في تلك الأثناء عاد قصاليد إلى قريته فور ريبرت Fort Rupert، فبلغه أن أشهر شامان بإحدى القرى المجاورة قد قلق من شهرة بطلنا المتزايدة، فأعلن تحديه لجميع زملائه، ودعاهم للتباري معه حول علاج أمراض عديدة. حضر قصاليد في الموعد المحدد، فعاين جلسات علاجية عديدة أجراها الشامان المسن. إلا أن هذا الأخير – شأنه شأن نظرائه الكوسكيمو – لا يظهر المرض. فهو يقتصر على إخفاء جسم لا مرئي، «يزعم أنه هو المرض»، تارة في كوخه المصنوع من القلف[4] وتارة في خشخيشته[5] الطقوسية المنحوتة على شكل طائر. و«بقوة المرض الذي يعض» أركان البيت أو يد ممارس العلاج تصير هذه الأجسام قادرة على البقاء معلقة في الهواء. يدور السيناريو المعتاد: يتم التوسل إلى قصاليد كي يتدخل في حالات اعتبرها الشامان الكهل ميؤوسا منها، فينتصر قصاليد بتقنية الدودة المضرجة.
وهنا يقع الجزء المثير حقا في حكايتنا. فقد أحس الشامان المسن بالعار واليأس في آن واحد من جراء سحب بني قومه ثقتهم فيه وانهيار نظامه العلاجي، فأرسل ابنته إلى قصاليد كي تتوسل إليه ليمنح أبيها مقابلة. يجد قصاليد الشامان الكهل جالسا تحت شجرة، فيبوح هذا الأخير بما يلي: «لن نتحدث في أشياء قبيحة، أيها الصديق، فكل ما أريده منك هو أن تحاول، أن تنقد حياتي حتى لا أموت عارا لأن ما فعلته الليلة الماضية قد جعل مني أضحوكة بني قومي. إنني لا أتضرع إليك كي تشفق علي وتقول لي ما ذاك الشئ الذي كان لاصقا في صفحة يدك ليلة أمس؟ أكان هو المرض الحقيقي أم كان مصطنعا فقط؟ إني أتوسل إليك بأن ترفق بي وتخبرني بما فعلته حتى أتمكن من تقليدك. فرأفة بي أيها الصديق!». صمت قصاليد في البداية، ثم أخذ يطلب شروحا حول استعماله للكوخ والخشخيشة فكشف له الشامان عن مسمار دقيق مخفى داخل الكوخ يتيح له أن يغرزه في زاوية مستقيمة بعمود، وعن الطريقة التي يحصر بها رأس خشخيشته بين أصابع يديه ليوهم الحاضرين بأن الطائر يمكث في يده معلقا من المنقار. لاشك في أنه هو نفسه لا يفعل سوى الكذب والغش والتظاهـر بالشامانية لأغراض مادية يجنيها و«لطمعه في ثروات المرضى». فهو يعرف جيدا أنه لا يمكن اعتقال الأرواح: «لأننا جميعا نملك أرواحنا». كذلك إنه يستخدم الودك[6] ويزعم أن: «ذلك الشئ الأبيض الجالس في يده إنما هو الروح». تضم الفتاة ابتهالاتها إلى ابتهالات أبيهـا قائلة: «ارأف به كي يتمكن من البقاء على قيد الحيـاة»، لكن قصاليد يلتزم الصمت.
بعد هذا الحوار المأساوي اضطر الشامان الكهل إلى الاختفاء في الليلة نفسها رفقة ذويه جميعا و«قلبه حسران» والجماعة بأسرها تخشى ما قد يحاول القيام به انتقاما منها. بعد ذلك شوهد وقد عاد إلى قريته بلا جدوى طبعا. فقد صار هو وابنته مجنونين. وبعد ثلاث سنوات توفي.
وواصل قصاليد مهنته مغتنيا بالأسرار، يفضح الخداعين، وممتلئا ازدراء للمهنة: «لم أر إلا مرة واحدة شامانا يعالج المرض بطريقة الامتصاص، غير أني لم أفلح أبدا في معرفة هل كان شامانا حقيقيا أم مجرد متظاهر. وأعتقد أنه كان شامانا حقيقا لهذا السبب وحده: «فهو لم يكن يستلم من مرضاه مقابلا عن علاجه إياهم، ثم إنني في الحقيقة ما رأيته أبدا يضحك ولو مرة واحدة». وإذن فقد اعتدل الموقف الأول بشكل ملموس، غابت سلبية[7] حر التفكير الجذرية لتحل محلها أحاسيس متنوعة جدا. وهو [قصاليد] نفسه؟ لا نعرف ما آل إليه في نهاية الحكاية. لكن من الواضح أنه يزاول مهنته بوعي، وأنه معتز بنجاحاته، كما أنه يدافع بحرارة – ضد جميع المدارس المنافسة – عن تقنية الدودة المضرجة التي يبدو أنه قد نسي طبيعتها الخداعة التي طالما سخر منها في البداية.
مـلاحظــــــات
ملاحظة أولى تفرض نفسها، وهي أن مشكل الإيمان السحري ليس بالسهل. وبالفعل، فقصاليد «لم يكن يؤمن بقدرة السحرة». فضوليا ومتشككا سيتابع أولا «تعليمهم» كي يفضحهم [بعد ذلك]. لكن خلافا للشامان «الزائفيـن» الذين يستغلون سذاجة مرضاهم لأغراض مادية، فإن ما سيفـرض نفسه عليه ليس هو «اعتقاد» ما بما هو اعتقاد وإنما ظواهر. فقصاليد شأنه شأن الشامان الحقيقيين يداوي مرضى. وكما يشدد ليفي ستراوس ذاكرا «حالات الموت بسبب العزائم والتعاويذ الثابتة في أنحاء عديدة من العالم»، فإن للتقنيات السحرية فعالية واقعية قابلة للتوضيع (Objectivable)، كما أنه لا يمكن اختزال السحر إلى سذاجة أو سرعة تصديق، إلى متخيل الشعوب المتخلفة كما توحي بذلك الآراء المسبقة للأنثروبولوجيا المتمركزة على الذات العرقية. وتصل هذه الفعالية حتى إلى الموت بدون آفة عضوية قابلة للملاحظة، الأمر الذي يجعل المؤلف يقول: «إن الوحدة النفسية لا تقاوم تفسخ الشخصية الاجتماعيـة».
ولا يترتب عما سبق أنه بالمستطاع إفراغ مشكل الاعتقاد باختزاله إلى علاقة سببية بيـن المـرض وبين تقنية فعالة خارجة عن المرض كما هو الشأن في الإجراء العلمي أو الطبي الغربي. فالعلاقة بين جرثوم السل الممرض وبين لطخة في الرئتين، أي السل، أو بين الولادة الصعبة الوظيفية وبين الوضع العسير، تلك العلاقة تظل خارجة عن ذهن المريضة، وصياغتها لا تشفيها. وعلى العكس، لنلاحظ أن الطلب الذي يوجهه المريض إلى الطبيب يتمحور حول الكشف عن «المرض»، أي حول «تشخيص المرض» الذي متى ما «تم الإعلان عنه»، متى ما صيغ في إطار علاقة يلتزم فيها الطبيب والمريض والمحيط [العائلي أو الاجتماعي] استطاع تقديم تخفيف معين يؤثر فعلا في علة المرض. ويقول لنا ليفي ستراوس: «إن قصاليد لم يصر ساحرا كبيرا لأنه كان يشفي مرضاه، بل كان يشفي مرضاه لأنه كان ساحرا كبيرا». ولما التقى بزملائه الكوسكيمو وتمكن من إشفاء مرضى فشل سابقوه في علاجهم، فإنه لم يستنتج من ذلك أن تقنية الدود المضرج كانت أشد «حقيقة» ولا أشد فعالية من التقنيات الأخرى التي كانت فعالة إلى ذلك الحين، بل استنتج أن موقف الجماعة من هذه التقنيات هو الذي تغير.
وكذلك لا يتعلق الأمر عند فرويد بفرض اعتقاد على تصور من التصورات السيكوباتية تستنبط منه تفسيرات للأعراض المرضية، بل بالأحرى يتعلق بإبراز ظواهر عيادية – فعالية تقنيته [= فرويد] في الأعـراض الهستيرية مثلا – ينبثق منها مفهوما اللاشعور والكبت.
«إن نفسية الساحر ليست سهلة». وبالفعل، نرى قصاليد ينطلق متشككا في فعالية السحر، وخلال ما يمكن تسميته بمسارة أو نداء – الأزمة الابتدائية – أوتي بـ « «كشف حالته» والإيمان بقدراته العلاجية. وخلال تلك المسارة لم يلقن مجرد مهارات أو خدع – على الرغم من أن مفاهيم فن التوليد، والتسمع، إلخ… تتلاقى في أغلب الأحيان – وإنما زود بنظام بأكمله مبنين حول تفسير حالات مرضية، نظام وقع في شركه هو رفقة المجموعة الاجتماعية والمريض حيث لتلك الحالات علة يمكن الوصول إليها.
«تمثل تجارب المريض الجانب الأقل أهمية في النظام لو استثنينا ظاهـرة أن المريض الذي يعالجه شامان ما بنجاح» – الأمر الذي يمثل الأزمة الابتدائية، أي النداء – «هو في موقع جيد كي يصير بدوره شامانا مثلما يحدث اليوم أيضا في التحليل النفسي». إنها فعلا أول مقارنة واضحة: يصير المرء شامانا كما يصير محللا نفسانيا!
في القطب الآخر من الاعتقاد السحري نجد المجموعة الاجتماعية ومقتضياتها، أي ضرورة أن يتوفر الفرد على إجابات فطرية أو مكتسبة عن مقام غير عادي «كمقام المرض». وهنا سيميـز المؤلف بين نوعين من التفكير، بين الفكر السوي والفكر المرضي. فالأول، تجاه كون يسعى بشراهة إلى فهمه لكنه لا يتوصل إلى التحكم في إوالياته، تجاه ذلك يطلب دائما معنى الأشياء التي ترفضه هو. أما الفكر المرضي، فهو «يطفح بالتفسيرات والأصداء الوجدانية التي يكون دائما على استعداد كي يحملها بواقع ناقص بوجه آخر». وبتعبير آخر، «إن التفكير السوي يعاني دائما من عجز المدلول، بينما يتوفر الفكر المرضي… على فيض من الدوال».
«أمام مشكل المرض الذي لا يفهمه الفكر السوي تدعو الجماعة المريض نفسيا إلى استثمار ثروة وجدانية محرومة بنفسها من نقطة ارتكاز، وذلك من خلال مقام كلي يجد فيه مكانه كل من المريض والساحر والجمهور، وتتعدل فيه بنية». «وإذن فالأمر لا يتعلق بربط أحوال غامضة ومختلفة بعلة موضوعية، وإنما بمفصلتها على شكل مجموع أو نظام، وهو ما تثبته للشعور تجربة أصلية يتعذر استيعابها من الخارج».
ثاني نقطة في هذه المقارنة تتمثل في أن التحليل النفسي هو الآخر ينصب على ربط أعراض مرضية، أي أحوال غامضة ومختلة يبدوا أنها توجود لذاتها وفي استقلال عن المريض، بمجموع متفصل يتيح للمريض أن يستعيد امتلاك تاريخه الخاص كما يقول جاك لاكان (الحلقة الدراسية 1 (Séminaire. أن يتاح للمكبوت الوصول إلى اللغة، أن يتاح له توجيه الكلمة إلى فرد من الجماعة (هو المحلل) يمثلها، فثمة أين يتدخل التوافق الاجتماعي في المعالجة التحليلية.
يمكن للمحلل النفساني أن يضفي قيمة على قانون الأب والنظام الرمزي كما تقول النظرية. وبكيفية أشد نفعية، فهو ينتسب إلى مدرسة أحرز فيها على توافق أنداده، على المعرفة الجامعية لكي يصير ما هو إياه.
II – نشيـد سحـــري
سيعود ليفي ستراوس إلى المقارنة بين العلاج التحليلي والشاماني، ويعمقها في بحثه الصادر سنة 1974 تحت عنوان «الفعالية الرمزية»، وذلك انطلاقا من دراسته لعزيمة لهنود الكونا Cuna، وهم أهالي يقطنون بجمهوية باناما.
موضوع النشيد تيسير ولادة عسيرة. وهو لا يستعمل إلا بكيفية اسثنائية تقريبا ما دامت نساء أهالي أمريكا الوسطى والجنوبية تلدن في ظروف أسهل بالمقارنة مع نساء المجتمعات الغربية. ولذا، فتدخل الشامان أمر نادر لا يتم إلا في حالات فشل وبطلب من المولدة. يستهل النشيد بعرض مقالق هذه الأخيرة، فيصف زيارتها للشامان ورحلته إلى كوخ المرأة الواضعة، ووصوله، واستعداداته المتمثلة في إطلاق بخور فول الكاكاو المحروق، وتلاوة دعوات، ورسم صور النوشو المقدسة. وتمثل هذه الرسوم المنحوتة في أجسام محددة تمدها بفعاليتها الأرواح الحامية التي يتخذ منها الشامان أعوانا له، ويرأسها ليقودها إلى مقام المو (Muu)، وهو القوة المسؤولة عن تكوين الجنين.
وتفسر الولادة العسيرة بكون المو يتجاوز اختصاصاته ويستولي على البوربا (Purba) أو «روح الأم» المقبلة. وبذلك يدور النشيد كليا حول رحلة طلب، رحلة بحث عن البوربا المفقود الذي سيتم استرجاعه بعد عدة أحداث كتحطيم حواجز، والانتصار على حيوانات مفترسة، وأخيرا إجراء دوري كبير – ينظمه الشامان وأرواحه الحامية للمو وبناته – موضوعه ارتداء قبعات سحرية لا تطيق البنات حملها لفرط ثقلها. ينهزم المو فيفسح المجال لاكتشاف بوربا المريضة وتحريره. تتم الولادة، فينتهي النشيد بذكر الاحتياطات المتخذة حتى لا يستطيع المو الهرب بعد انصراف زواره. والحرب لم تجر ضد المو نفسه، فهو ضروري للتوالد، بل أجريت فقط ضد تجاوزاته. وما أن يتم تقويم هذه التجاوزات حتى تصير العلاقة بين المو وزواره علاقة صداقة، ووداعه للشامان يعادل تقريبا دعوة: «متى ستعود لزيارتي ياصديقي نيلي (أي الشامان)؟»
لقد ترجمنا حتى الآن كلمة نيلي (Nele) بكلمة شامان التي قد تبدو غير ملائمة ما دام العلاج لا يقتضي من مزاوله أن ينخطف أو يتحول إلى حالة ثانية. غير أن الموضوع الأول لدخان الكاكاو ينصب على «تقوية ملابس متولي العلاج» و«تقويته هو نفسه» و«جعله شجاعا كي يواجه المو»، خاصة وأن تصنيف الكونا (Cuna) الذي يميز بين عدة أنواع من التطبيب يظهر جيدا أن لقوة النيلي مصادر فوطبيعية. فتطبيبات الأهالي تنقسم إلى نيلي، وإناتولدي (Inatuldi)، وأبزوجدي (Absogedi). ويرتكز هذان الأخيران على معرفة أناشيد مكتسبة عن طريق الدراسة ومجربة بفحوص عدة. أما موهبة النيلي فتعد فطرية، وتتمثل في ضرب من العرافة يكشف مباشرة عن علة المرض، أي عن مكان خطف القوى الحيوية الخاصة أو العامة من قبل الأرواح. ذلك أنه يمكن للنيلي أن يحرك هذه الأرواح ليجعل منها حامية له أو أعوانا له. وإذن فالأمر يتعلق فعلا بشامان رغم أن تدخله في التوليد لا يتصف بجميع الخصائص التي ترافق عادة هذه الوظيفة. والنوشو (Nuchu) – وهي أرواح حامية تأتي استجابة لنداء الشامان كي تتجسد في التماثيل الصغيرة التي نحتها – تتلقى من الشامان عبر الاختفائية أو اللامرئية (L’invisibilité) والعرافة نيغات (Des niga)، أي «حيوية» و«مقاومة» تجعل منها [أي من النوشو وقد تحولت إلى نيغات] نيليغات (Des nalegan) (جمع نيلي)، أي «كائنات في خدمة البشر»، كائنات على صورة البشر لكنها تتوفـر على قدرات استثنائيـة.
*
* *
لنحلل مع المؤلف مفهوم البوربا: فبدلا من ترجمته بالقرين أو «الروح»، وهما الإسمان اللذان يطلقان عليه عادة، يمكن ترجمته بالفكرة في المنظور الأفلاطوني، أي بالنموذج الأصلي (Archétype) الذي ما كل كائن أو جسم سوى تحقيقه المحسوس، والذي يمكن أن يسلب من مالكه على عكس النيغا الذي لا يتطور إلا بمرور الزمن ولا يوجد إلا عند الحيوانات وبني الإنسان ويقابل المعادل الروحي للجسم الحي.
«إن النيغا خاصية للكائن الحي. وهي تنتج عن كونه يتوفر ليس على بوربا واحدة بل على بوربات عديدة متحدة وظيفيا.
«تفسر الولادة العسيرة باعتبارها اختلاسا لسائر «أرواح» مختلف أجزاء الجسم يقوم به «روح» الرحم، أي بوربا الأم المقبلة. وبمجرد ما يتم تحرير تلك الأرواح يمكن للآخر [البوربا]، بل ويجب عليه، أن يستأنف تعاونه مع الشامان وأرواحه.
تكمن أهمية هذا النص الاستثنائية في كون المو – لغالا (Muu- (lgala، أي «طريق المو» ومقامه – في اعتقاد الأهالي – يعتبران التمثل الحرفي لـ «فرج المرأة الحامل ورحمها اللذين يرتادهما الشامان والنوشو، ويخوضون في أعماقهما معركتهم الظافرة. «وهم يضيؤون مسيرتهم» بأنفسهم كي يعثرون على طريقهم، بـل يفعلون ذلك أيضا لفائدة المريضة كي يجعلون من «الأحاسيس فائقة الوصف والموجعة أحاسيس واضحة وقابلة لأن يلجها الشعور». وبذلك، فهم يشيدون «استقلالا أسطوريا حقيقيا يقابل ضربا من جغرافيا وجدانية متعرفة على كل نقطة مقاومة وكل نخر أكثر مما يقابل بنية الأعضاء التناسلية الواقعية». ويمكننا التشديد على «الدقة التي بها تتحقق إيديولوجيا الأهالي من المحتوى الوجداني للاضطراب الفيزيولوجي، هذا الأخير الذي يمكن أن يظهر لوعي المريض بكيفية غير مصوغة». «فكل شئ يتم كما لو كان المطبب يحاول استدراج المريضة لأن تعيش من جديد – بكيفية جد محددة وكثيفة – حالة ابتدائية وتتبين ذهنيا أقل تفاصيلها. وبالفعل، فتلك الحالة تدخل سلسلة من الوقائع سيشكل جسم المريضة وأعضاؤها الداخلية مسرحها المفترض. وإذن فسيتم الانتقال من الواقع الأكثر ابتذالا إلى الأسطورة، من العالم النفسي إلى العالم الفيزيولوجي، من العالم الخارجي إلى العالم الداخلي». فالشامان يتموضع داخل الأسطورة لفائدة حالة مرضية، وهو يفعل ذلك بواسطة تقنية ملحة مناسبة.
وبالعزيمة سيجري الشامان – داخل الأسطورة – تحكما سيكولوجيا حقيقيا في العضو المريض يقود إلى الولادة والعلاج.
«ويجب الإشارة إلى أن النشيد ينتهي بعد الولادة كما بدأ قبل العلاج: يعرض الأحداث السابقة واللاحقة بعناية كبيرة». ويتعلق الأمر في الواقع بتشييد مجموعة نظامية» استرجع فيها جميع الأبطال مكانهم ودخلوا في إطار لم يعد يحيط به أي تهديد».
هناك نقطة جديدة في المقارنة بين العلاج الشاماني والتحليل النفسي تتمثل في كونهما معا يهدفان إلى تمكين المريض من ولوج «لغة تستطيع فيها الحالات غير المصوغة، أو غير القابلة للصياغة، أن تعبر عن نفسها».
والانتقال إلى الحالة الكلامية هنا هو ما يحدث ليس مجرد استسلام للأوجاع، بل يحدث شفاء المريضة. هناك إقامة علاقة بين الدال والمدلول ليست من ضرب علاقة العلة بالنتيجة.
وفي التحليل النفسي نجد العلاقة نفسها بين الدال والمدلول حيث ينتج العلاج عن صياغة العلاقة الترابطية بين العرض (Symptôme) المريض، أي الدال الفردي، وبين المدلول اللاشعوري. والسؤال الذي يطرح الآن هو معرفة كيف يتم هذا الانتقـال.
الأسطـورة والتصـريف
إن ذلك الانتقال كما رأيناه ليس صياغة علاقة سببية، كما أنه ليس إطلاقا اكتساب معـرفة حقيقية أو مفترضة بالصراعات والمقاومات التي تتيح لها [لهذه الصراعات] أن تدور بحرية إلى أن تنحل عقدها، بل هناك انتقال إلى حالة نوعية أصبحت فيها هذه الأخيرة ممكنة وغير قابلة للانفصال عن معرفة الحالة المرضية نفسها التي تدعى في التحليل النفسي بتصريف الانفعال (Abréaction). وفي الحالة المنتقل إليها يحدث تعديل للبنية، بنية نفسية المحلل (Analysé) وبنية القنوات التناسلية للمرأة الواضعة على حد سواء. وبإحداث هذه التجربة يتيح الشامان والمحلل (Analyste) لإواليات تقع خارج رقابة المريضة أن «تنتظم تلقائيا لتؤدي إلى اشتغال منسـق». ذلك هو دور العزيمة، دور الأسطورة حيث لا يكون الشامان والمحلل النفساني مجرد منشدين، وإنما يكونان بطلين فاعلين يتدخلان في الصراع. فـ «المريض المصاب بعصاب يصفي أسطورة فردية بمقاومته محللا نفسانيا واقعيا حقيقيا ، والواضعة من الأهالي تتغلب على اضطراب عضوي حقيقي بتماهيها مع شامان مسافـر أسطـوريا».
لنحل على المؤلف [ليفي ستراوس]:
«إذن فـ ”التوازي” – المتمحور في العلاجين حول مفهوم التصريف – لا يقصي وجود فوارق بينهما. فإذا انتبهنا إلى الطبيعة النفسية للعلاج التحليلي وإلى الطبيعة العضوية للعلاج الشاماني، فإننا لن نتعجب من الاضطراب المراد علاجه. حقا، إن العلاج الشاماني يبدو معادلا دقيقا للعلاج التحلينفسي لكن مع قلب لجميع المصطلحات. فهما معا يهدفان إلى إحداث تجربة، وهما معا يتوصلان إلى ذلك بإعادة تشييدهما لأسطورة يجب على المريض أن يحياها أو يعيشها من جديد. لكن في حالة [العلاج التحليلي] يشيد المريض أسطورة فردية بمساعدة عناصر يستمدها من ماضيه، وفي الحالة الأخرى [العلاج الشاماني] يتلقى المريض من الخارج أسطورة اجتماعية لا تطابق حالة شخصية قديمة»[8].
لأول وهلة، تبدو الأسطورتان الفردية والاجتماعية متعارضتين. إلا أن هذا الاختلاف سرعان ما يتقلص حينما نلاحظ بين حشد التواريخ الفردية المحفورة في اللاشعور ضآلة عدد البنيات النفسية المعثور عليها، الأمر الذي يوحي بوجود تشابه بينهما وبين عدد أنواع الأساطير وأنواع البنيات اللغوية. يمكن إذن أن نرى اللاشعور بمثابة التعبير عن البنية الرمزية نفسها، وهو ما كاد جاك لاكان أن يقوله بعبارته الشهيرة: «اللاشعور مبنين مثل اللغة».
هناك عنصر آخر مشترك، ويتمثل في أن الشامان يتكلم من أجل مريضته، بينما المحلل (L’analysé) أو المريض، من خلال إعرابه عن مشاعره ونواياه، فإنه يجعل هذا الأخير يتكلم.
أخيرا، يعمل الإثنان بالتحكم. ففي العلاج الشاماني يتم – بواسطة الأسطورة – تحريك أعضاء تتيح للواضعة أن تستعيد امتلاك جسمها وظيفيا وأن تلد. وفي العلاج التحليلي يتم التحكم في أفكار تستعيد فيها الذات امتلاك تاريخها وتسترجع وحدتها. وبالأسطورة والتصريف تنكشف الفعالية الرمزية التي يستنتـج ليفي ستراوس أنها «قد تتمثل تحديدا في هذه الخاصية المحثة التي ربما تملكها – الواحدة بالقياس إلى أخرى – بنيات متماثلة شكليا باستطاعتها أن تنبني بأدوات متنوعة في مختلف طبقات الحي: سيرورة عضوية، نفسية لا شعورية، فكر متعقل». وهذا التشابه المحض هو ما يقرب في العمق المحلل النفساني الذي يدير فعالية الرموز من أسلافه الكبار، وهما السحرة والشامان.
*
* *
هكذا نرى على ضوء هذين النصين الإثنولوجيين أن: «المحلل النفساني» يمكن أن يكون ترجمة أمينة للساحر أو الشامان بصرف النظر عن الطابع المعكوس لهذه الترجمة. ومن ثمة، فالمعـرفـة التي يتيح التحليل النفسي تحقيقها بشأن النفسية الإنسانية لا تنفصل عن مفهوم التصريف حيث تأخذ بعدها الأسطوري، بعد حقيقة الذات المريضة في احترام السياق الفعلي والاجتماعي والتاريخي الذي ينخرط فيه المرض. وعليه، فالبعد السحري للمحلل النفساني يحيله على مجال المرضي ويعين له حدودا للتصديقية ألا وهي حدود تصديقية الكلمة الحقة العلاجية. ونسيان ذلك البعد باعتباره تقنية تستعمل نمطا خاصا من التحكم بواسطة جسد من الفرضيات ممثل لقيمة أداتية أكيدة بالنسبة للمارس، نسيانه يعرض المرء لخطر اعتباره [= البعد السحري] الصورة الأخيرة للواقع. وفي هذه الحالة، كل ما سيطلب من المحلل النفساني هو إتاحة ترجمة الرموز المسجلة في العرض المريض إلى لغة أكثر احتشاما ولياقة. وآنذاك ستكون تلك الترجمة شكلا من الكبت أشد تمييزا، ستكون منهجا يهدف إلى جعل النفسية الإنسانية مطابقة لنموذج تحليلي نفسي من شأن معناه أن يفلت بكيفية مطلقة من المحلل ومن المريض على حد سواء. وهو ما نراه إلى حد ما في هوس «الفعل المجاني» حيث يكون التحليل تعبيرا عن الانتماء إلى مجموعة اجتماعية أو إلى عائلة فكرية من فكر الضفة اليسرى )أي الطب العقلي المعاصر( كانت أو من البورجوازية الحضرية المتوسطة القاطنة بكبريات مدن أمريكا الستينات. ففي الطب العقلي الراهن يسهل إعطاء أمثلة حيث تتنافر مجموعة من المفاهيم النظرية الهاربة من التحليل النفسي في كتب مختصرة فلا تعود صالحة في هذه الوثائق إلا باعتبارها تبريرا لشرعية خطاب يحيل على ممارسات غريبة تماما.
III – حول مسجل الصوت
أود، لكي أختم، أن أعزز الأفكار السابقة بإظهار كيف أن الفكر السحري لا زال فعالا في مجتمعنا المعاصر، وذلك عن طريق نص «الرجل صاحب مسجل الصوت».
أعتقد أن الأغلبية تتذكر هذا النص في خطوطه العريضة على الأقل. يتعلق الأمر بقطع جلسة علاجية بشكل مباغث وعنيف حيث نهض المحلل (L’analysé) من أريكته وهو يلوح بـ «جهاز التسجيل»، على حد تعبير المحلل النفساني. وقعت الحادثة في نهاية الستينات. وقد نشر سارتر في مجلة الأزمنة الحديثـة Les temps modernes هذا النص – الحوار بين الشخصين – وبداية السجالات التي أدت إلى انسحاب لابلانش Laplanche وآخرين، مقربين من الوسط التحليلي، من هيأة تحرير المجلة.
ليس من الممكن – وبالتأكيد ليس من السهل جدا – أن نننطلق وراء آثار المحلل (L’analysé) ونتناول من جديد لتأويلاته الخاصة لردود فعل الدكتور «س»، تلك التأويلات التي ذهبت إلى حد جعل هذا الأخير أضحوكة بمغادرة [المحلل (L’analysé)] للجلسة. يتعلق الأمر بعلاقـة بيشخصيـة لا نتوفـر على مداخلها ومخارجها. وعلى العكس، يعرض لنا النص في ذاته بعدا ليس غريبا عنا: إنه بعد الروائي – بفعل الكتابة المنشورة ولهجة العمل – وبعد الأسطورة أيضا، لأن فيه تدور مأساة عاشها بعد ذلك لابلانش وآخرون، ونقصد به ذلك البعد الذي قاد هؤلاء إلى تعديل مواقفهم في رد فعلهم
ما موضوع الأسطورة؟ يتعلق الأمر هنا حقيقة بموضوع )هو مسجل الصوت( يحيل على فكرة الإنصات – هو ينصت، إذن فهو يربـح – لكن خارج أي علاقة متداخلة نفسيا، أي فعـل اللاشخصي. فلنستمع إلى لحظة خاصة من الحوار يحاول فيها المحلل النفساني للمرة الثانية أن يدعو الشرطة فيما يرمي المحلل شيئا آخر فـوق الأرض، هـو الهاتف:
«الدكتور “س”: الآن أنت صرت خطيرا لأنك تتجاهـل الواقـع.
“أ”: لكـن ما الواقـع؟
“س”: أن الجهـاز يسجل صوتك».
*
* *
إذن ما مسجل الصوت هذا الذي يرعب المحلل (L’analyste) ويغضب لابلانش؟ ألا يتعلق الأمر بإنصات غريب تماما؟ يفكر المرء في مسجل الصوت لدى الإثنولوجيين فإذا بالمحلـل النفساني مهددا في مهنته: في الاعتقاد السحري للآخر. هذا الاعتقاد يوجد هنا، في المستوى الأسطوري الذي يهمنـا، مسحوقا كاغتيال . ونرى أن هذا الاعتقاد ضروري للمحلل النفساني لكي يوجد. وسيعيد سارتـر موضعة هذه الحكاية في الأسطورة معتبرا تدخل مسجل الصوت «اقتحاما ما للمكتب التحليلي قامت به الذات. الذات بالمعنى الذي يقول فيه ماركس بأنها موضوع التاريخ». وهنا يلحق التاريـخ بالأسطورة.
خــلاصــة:
لقد قارنا في هذا النص بين المحلل النفساني والساحر من خلال مثال حديث كما سبق أن قارن بينهما ليفي ستراوس سنة 1949.
ترتكز فعالية العلاج التحليلي والشاماني على الأسطورة المصاغة مع الساحر أو المحلل النفساني. وهذه الأسطورة تدمج وترمز في الخطاب ما كان إلى حين تدخل الساحر أو المحلل النفساني غير معبر عنه في حالة المـرض.
هكذا تبين الأنثروبولوجيا مجال إحالة التحليل النفسي، ونعني به العلاج والمعاناة التي تنكشف فيه.
هوامــــش
[1] – نشرت الدراسة الأولى (Le sorcier et sa magie) بـمجلة الأزمنة الحديثة (Les temps modernes) السنة 4، العدد 41، عام 1949: 3 – 24، وأعيد نشرها في كتاب الأنثروبولوجيا البنيوية (Anthropologie structurale) لليفي ستراوس، باريس، بلون، 1958، ج 1: 203 – 183. أما الدراسة الثانية فظهرت لأول مرة في مجلة تاريخ الأديان Revue de l’histoire des religions)، ج 135، ع 1، 1949: 5 – 27، ثم أعاد المؤلف نشرها في المرجع السابق )الأنثروبولوجيا البنيوية(، ج 1: 205 – 226. (المترجـم).
[2] – فرانز بواس (1858 – 1942) من أصل ألمانـي، لـه تكويـن جغـرافي، اشتغـل منذ سنة 1886 بالولايات المتحـدة، وفيها استقـر. ويعد بواس باحثا ميدانيا بارزا، تخصص في مجتمعات كولومبيـا البريطانية (كندا)، ومنها جمع عددا هاما مـن الحكايات والأساطيـر، خاصة من عشائـر الكواكيولـت والتسيمشيان والشينـوك. (عن معجم الإثنولوجيا لميشيل بانوف وميشال بيران، باريس، بايو، 1972. (بالفرنسية). (م).
[3] – الشامان: يطلق على مزاول الشامانية (سبق شرحها في ص. 13، هامش:4 من الكتاب الحالي): شخص من رجال الديـن أو المطببين تكمن قدراته الفوطبيعية في تمكنه من تقنيتي الشطح والملك أو المس (Possession). ووسيلة تمكنه منهما هو سفـر إلى السماء خلاله يحارب هـذا الشخص الآلهة أو يفتنهم. (م. عـن المـرجع السابـق).
[4] – القلف: قشر الشجر .(م).
[5] – الخشخيشة (Le hochet): أداة موسيقية تصنع من وعاء مقفل (يكون في أغلب الأحيـان عبـارة عـن كرنيبة مجففة) له قبضة، يملأ بقطع حجر صغير جدا أو ببذور أو بأشياء أخـرى، ويحـرك بطريقة منتظمة لينبعث منه نغـم خـاص. وهـو يستعمل في مجتمعات عديـدة، أمـريكية جنوبيـة وإفريقية على الخصوص، ليرافـق الأناشيد أو أدوات موسيقية أخرى. كما يمكن العزف عليه بمفرده. (عن معجم الإثنولوجيا). (م).
[6] – الودك: الدسم من اللحم والشحـم. (م).
[7] – السلبية (Négativisme): سلوك سلبي يقوم على الميل إلى رفض ما يقوله الآخرون، أو الميل إلى القيام بأعمال مضادة لأعمالهم. (م).
[8] – ليفي ستراوس، الأنثروبولوجيا البنيوية، باريس، بلون، 1958 و1974، ج 1، ص. 220. (م).
الكاتب: محمد أسليـم بتاريخ: الأربعاء 19-09-2012 08:51 مساء